Alef Logo
كشاف الوراقين
              

صائد اليرقات لأمير تاج السر

ألف

خاص ألف

2011-02-11

رواية مرشحة لجائزة البوكر

تدخل الرواية في العالم الثالث بطور نشاط ملحوظ ، و ربما هي تعكس طور النشاط السياسي الذي نكاد نسمع أصواته المرتفعة وراء كل حاجز ، و في كل منعطف.
إن واقع التبدلات القسرية التي فرضتها أمريكا على أفغانستان و العراق أولا ، ثم ساهمت في انتشارها في عدةة مناطق من إفريقيا ، أثمرت على مستوى النخبة. لم تكن الأنتلجنسيا بمنأى عن الشارع ، و لذلك وصلت في العام الماضي الرواية النيجيرية ( ثلاث نساء قويات ) إلى جائزة الغونكور.
و في هذا السياق تأتي روايات السوداني أمير تاج السر. و هو إن شئت الحقيقة استمرار لخط بدأه الطيب صالح و محمد الطاهر مكي و أبو بكر خالد و سواهم ، و إنه لا يختلف عنهم إلا بالخصوصيات التي منحها لتصوير الاتجاه المديني.
أمير تاج السر ، المرشح لبوكر هذا العام عن روايته ( صائد اليرقات ) ، من أقوى و أهم الأصوات التي فرضت وجودها على الرواية في العقد المنصرم. من أهم أعماله ( توترات القبطي ) و التي ترسم مأساة الوجود الإنساني ، و ( العطر الفرنسي ) التي تتحدث عن ضياع إبن المدينة وسط كوابيس الحياة المتدهورة لسكان العشوائيات ، و غير ذلك.
ألف
صائد اليرقات للسوداني أمير تاج السر
سأكتب رواية. نعم سأكتب.
لا بد أنها فكرة غريبة حقا ، حين ترد إلى ذهن رجل أمن متقاعد مثلي ، أنا عبدالله حرفش ، أو عبدالله فرفار ، كما ألقب منذ الصغر في الحي الذي نشأت فيه و كبر معي اللقب. لكنها لن تكون غريبة أبدا ، و قد قرأت مؤخرا في عدد من الصحف و المجلات التي وقعت بيدي و استطعت قراءتها بلا تعجل ، أن بائع ورد بنغاليا في مدينة نيس الفرنسية ، كتب رواية عن الورد بطلتها امرأة من المهاجرات الإفريقيات ، ظلت تشتري الورد الأحمر عشرين عاما من محله ، من دون أن تغير لونه ، وو تخيل البتائع أنها تبعثه إلى حبيب ضائع في حرب بشعة.
و نسج قصته ، عن ذلك الإسكافي الفقير في رواندا ، حين كتب رواية حول الحرب الأهلية الجماعية في ذلك البلد الإفريقي الفقير ، لم يكتبها حتى مشعلو الحرب أنفسهم. و بائعة هوى تائبة في سايغون كتبت روايتين رائعتين ، عن حياتها القديمة حين كانت نكرة في زقاق مظلم ، و الجديدة حين أنشأت مصنعا صغيرا لحلوى النعناع ، و الآن تترجمان إلى كل اللغات و ينبهر بهما القراء.
لكن كيف جاءتني تلك الفكرة الغريبة ، و لم أكن قارئا طوزال حياتي ، و لا واسع الخيال إلا في مجال عملي ، و ما وقفت أمام مكتبة من قبل إلا حين يدخلها مشبوه ملاحق من أجهزتنا ، أو تتحدث التقارير عن كتب ممنوعة تدخل البلاد خفية بواسطة مهربين محترفين ، و توزع من تحت الطاولات. و قد أهداني المسيحي ( ر.م.) ، صاحب مكتبة ( أعلاف ) ، إحدى المكتبات القديمة المعروفة في العاصمة و كان صديقا بحكم مراقبتي الطويلة له مرة كتابا عن السحر ، و تجارب السحرة ترجم عن اللغة الفرنسية ، ظللت أقلب صفحاته عدة أيام ، و لا أحس بمتعة حقيقية حتى و أنا أقرأ الساحر الهندي ( راجندرا ) الذي دخل مرة قفصا للدجاج و خرج حمار وحش متكامل الخطوط و النهيق ، و الفتاة اليهودية نيرا أزاموند التي شربت مئة رطل من زيت الخروع ، و لم يصبها أي إسهال أو استفراغ و لا انفجرت مصارينها ، و الساحر النيجيري المعروف حاج بوكو ، الذي غاب عن الجماهير المحتشدة في عرض يقيمه في أحد شوارع كانو ، عدة دقائق فقط ، شاهده فيها كثير من المعتمرين ، يطوف معهم محرما و حليق الرأس في مكة. و صادرت في أحد الأيام من مكتبة المسيحي ( ر.م ) نفسه خمسين نسخة من كتاب مجرم لا أدري كيف دخل البلاد بكل تلك النسخ. كان عن عادات الزواج في العالم ، و لا أنكر أنه شدني قليلا ، و راقتني كثير من القصص التي وردت فيه ، خاصة طلب الزواج من الفتاة برفع فستانها فجأة إلى ما فوق ركبتيها ، الذي كان سائدا لدى إحدى القبائل الإفريقية. و ظللت أسير في الطريق و أنا أتخيل فساتين عديدة لفاتنات يسرن أمامي ، مرفوعة و أنا الذي رفعتها طلبا للزواج.
إنه ذلك الحادث المباغت بلا شك ، الحادث الذي فقدت فيه ساقي اليمنى ، و وظيفتي المحترمة في نظري ، و كثيرا من المتع ، و أصبحت عدة أشهر سجينا في بيتي لا أغادره إلا مضطرا.
كنا في مهمة مراقبة ، هكذا تسمى حين نؤمر بها ، واحدة من المهمات الممتعة لدي و لدى زملائي من منتسبي جهاز الأمن الوطني ، حيث لا حركة و لا ركض في الشوارع ، و لا سؤال أو جواب ، و لكن مجرد الجلوس على سطح عربة مكشوفة في ناصية مظلمة ، و متابعة الطريق. كانت ثمة معلومات عن لقاءات مشبوهة تجري في مزرعة في الضاحية الجنوبية من العاصمة ، يملكها الرأسمالي ( ص . ج ) ، أحد تجار الحديد المعروفين. لم نكن نعرف ماذا يدور حقيقة في تلك المزرعة ، أو إن كان ذلك الاشتباه ، يخص أمن الوطن حقيقة ، أم مجرد خرق أخلاقي عادي أبطاله رجال و نساء عاديون ، و لا يرقى إلى مستوى تتبعه أمنيا.
وقفنا بعربتنا في أول الليل تحت تلة تقع أسفل بداية الطريق الذي يقود إلى تلك المزرعة ، كان برفقتي مجندان آخران ، أحدهما يجلس ساكنا خلف مقود السائق ، و الآخر معي على سطح العربة ، و جهازانا اللاسلكيان المصنوعان في الصين ، مفتوحان ، نسمع من خلالهما الرطانة التي تصدر من القيادة ، و نستطيع استخدامهما في نقل الوقائع أو تلقي الأوامر ، حين تكون ثمة أوامر يجب تلقيها. كنت أثبت بصري على الطريق ، أتأمل فراغه ، و كان زميلي ( ع. ب ) مشغولا بالعبث في هاتفه المحمول و تصفح الرسائل ، و الضحك للمرة العاشرة على نكتة جاءته في رسالة ، و كانت عن امرأة عراقية ، غاب زوجها عن المنزل يوما كاملا و لا تعرف عنه شيئا ، و ظلت تبكي بلا توقف ظانة أنه تركها و ذهب بصحبة امرأة أخرى ، و قالت لها أمها : " تفاءلي خيرا يا بنية ، لعل انفجارا حدث في السوق أو مكان العمل و مات فيه".
فجأة ظهرت أضواء خاطفة لعربة قادمة من ناحية المزرعة تتجه نحونا ، و بسرعة كبيرة ، ارتبكنا أنا و زميلي الذي بتر ضحكته الحادية عشرة قبل أن يكملها ، و صحت في جهازي اللاسلكي مبلغا القيادة عن ظهورها ، و سائلا عن الخطوة التالية ، و كانت أمرا قاطعا أن نتحرك لملاحقتها فورا. صعدنا التلة في عنف ، و قد سقطت أضواء عربتنا على الطريق كاشفة الحصى و الرمل و عنزتين هزيلتين تتخبطان في الليل. لا أعرف ما حدث بالضبط لكن العربة الأخرى استدارت فجأة عائدة من حيث جاءت و كانت من نوع الصالون ، حمراء اللون. انقلبت عربتنا المشكوفة على ظهرها ، ناثرة محتوياتها التي كانت أنا و زميلي ( ع. ب ) ، و السائق ، أسفل التلة في الحصى المدبب و غبت عن الوعي.
مات السائق في ذلك الحادث المباغت ، أصيب زميلي ( ع. ب ) بالشلل الرعاش و فقدان الذاكرة ، و لم يشف أبدا ، و فقدت أنا ساقي اليمنى حيث بترت في مستشفى عسكري بسبب الغرغرينا. و جاءت التقارير اللاحقة بعد ذلك ، لتؤكد أن العربة الصالون الحمراء التي كانت قادمة من المزرعة ، تخص جهازا أمنيا آخر ، لم ينسق معنا ، و كانت في مهمة أرفع شأنا من مهمتنا ، لأن سائقها كان برتبة أعلى ، و كان مشاركا في النشاط المشبوه ، يحاول تقصيه من الداخل ، و أفسدنا مهمته التي أوشكت على النجاح ، من دون أن نعلم عنها شيئا.
لم أكن متزوجا و لا فكرت في الزواج قط برغم عشرات الفتيات اللائي التقيت بهن في حياتي ، و يمكن أن يملأن البيوت بالثرثرة و الأطفال ، كنت بلا إخوة و لا أخوات و كانت عمتي الوحيدة ( ث ) التي تقيم قريبا من بيتي مع زوجها مدلك أحد الفرق الرياضية ، تأتي في أيام إعاقتي الأولى و قبل أن أحظى بساق تعويضية تساعدني على الحركة ، تقوم عمتي بمهمة تحريكي و إطعامي و غسل ملابسي و كيها ، و يرتعش بدنها كله ، كلما لمحت سلاحا مغبرا على الطاولة ، أو سمعت جهازا لاسلكيا يرطن بلغة لا تستطيع فهمها ، أو شاهدت خطي الرديء على واحدة من الأوراق الصفراء التي كنت أعشق تدوين التقارير عليها. و حين تحركت أخيرا و أمكنني أن أمارس حياتي الجديدة من دون مساعدة أحد ، اختفت عمتي ( ث ) بحجة آلام أسفل الظهر التي كانت قد شفيت منها ، و عاودتها مرة أخرى من كثرة الانحناء. تركتني أشاهد فراغي الكبير مرسوما أمامي في كل شيء حولي ، و أفر بلا توقف ، و تأتيني أفكار غربية ما كانت لتأتي لولا ذلك الفراغ.
ساكتب رواية.
الفكرة تلح بجنون ، و لا أستطيع قهرها.. تلح أكثر.. و لا أستطيع. سأكتب تلك الرواية بلا شك ، و سأسعى لمعرفة كيف تكتب الروايات ، لست أقل شأنا من بائع الورد البنغالي في نيس ، و لا الإسكافي الفقير من رواندا ، و لعلي أتساوى في حجم الخطايا مع بائعة الهوى التائبة تلك ، فأكتب روايتين عن حياة قديمة عشتها بساقين كاملتين ، و جديدة بساق خشبية. لن أقول خطايا حتى لا أبتئس ، و لكن تجارب.. نعم تجارب كثيرة و متشعبة.. كيف أبدأ ؟
حككت رأسي بعصبية ، و عثرت على الجواب بعد تفكير عميق.. نعم أعرف الآن من أين أبدأ.
- من رواية ( صائد اليرقات ) لأمير تاج السر المرشحة للبوكر العربية لهذا العام ، و قد صدرت بطبعة أولى عام 2010 عن دار ثقافة للنشر و التوزيع ( الإمارات العربية و بيروت ) بالتعاون مع دار الاختلاف ( الجزائر ).

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

نقد كتاب إشكالية تطور مفهوم التعاون الدولي

31-كانون الأول-2021

نيوتون/جانيت ونترسون ترجمة:

22-أيار-2021

الـمُـغـفّـلــة – أنطون بافلوفتش تشيخوف‎

15-أيار-2021

قراءة نقدية في أشعار محمد الماغوط / صلاح فضل

15-أيار-2021

ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين

01-أيار-2021

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow