النص الكامل لكتاب فلينزع الحجاب
ألف
2006-04-04
ننشر فيما يلي تضامنا مع داري إيتانا وبترا، النص الكامل لكتاب (فلينزع الحجاب) لمؤلفته الإيرانية شاهدورت جافان بعد أن نشرنا تحقيقا موسعا عما حصل حوله من ضجيج ولغط. وبعد أن أصدر رئيس مجلس الوزراء قرارا سريا بحظر التعاون معهما. في موقف واضح ومؤيد لرجال الدين الذين هبوا مرة واحدة للدفاع عن موقفهم. ترى لماذا يسمح لرجال الدين الدفاع عن آرائهم ويمنع الآخرون من ذلك.
تعودت سوريا ومنذ ما قبل الاستقلال، أي منذ الانفصال عن الدولة العثمانية وصولا لحكم حزب البعث على أن تكون دولة علمانية، وإن لم تكن العلمانية أحد الأسس المنصوص عنها في أدبيات حزب البعث فإن جزءا كبيرا من سلوكه وسلوك أعضائه كان يوحي بذلك. والعلمانية تعني فيما تعنيه تساوى جميع الأديان في الدستور وجميع الأفكار كذلك، وإذا كان قد جاء في القرآن حيث يخاطب الله نبيه محمد فيقول "إنك لا تهدي من أحببت، إن الله يهدي من يشاء" فلعل الأولى بالبشر ألا يفكروا بفرض الهداية على البشر، وليتركوا الأمر لله. هذا الكلام موجه لرئيس مجلس الوزراء السوري الذي عاقب داري إيتانا وبترا لنشرهما كتابا يخالف مذهب أئمة منابر المساجد الذين يدعون بالبقاء للنظام مع كل آذان.
هي دعوة لكل العلمانيين والديموقراطيين وجمعيات حقوق الإنسان لقراءة الموضوع المنشور عن معاناة الناشر وموقف السلطة منه وكيف تعاملت مع الموضوع بضغط مباشر من رجال الدين. والتعليق وإبداء الرأي في الموضوع، ونحن نعتقد أنه آن الأوان لبداية حوار هادئ وناضج حول موضوع الدين والعلمانية:
نص الكتاب
تَحَجَّبْتُ طَوال عشر سنوات. كان الأمر الحجاب أو الموت. لهذا فأنا أعرف عَمَّا أتحدث. بعد الكارثة التاريخية التي شهدها العام 1979، احتَلَّ الإسلام وفروعه مكاناً بارزاً في أنظومة إيران التربوية، التي أصبحت إسلامية جذرياً، منذ المدرسة الابتدائية حتى الجامعة أياً كان نوع الدراسة، بمواضيعها الإلزامية التي لا تنضب: سور القرآن وتفاسيرها، والأحاديث، والشريعة، والمذاهب الإسلامية، والأخلاق الإسلامية، والمجتمع الإسلامي، والنظرة الإسلامية إلى العالم. وكان الشعار الذي يقرع الأسماع على مدار السنة: «ما الفائدة من العلم إن لم يكن في خدمة الإسلام»؟
كنت تلميذة مجتهدة. مَرَّ عليّ زمن كان باستطاعتي أن أصبح إماماً أو آية الله، لو وجد مكان للنساء في هذه الأمور.
قُمِعتُ منذ الثالثة عشرة إلى الثالثة والعشرين من عمري، محكومة بكوني مسلمة، خاضعة ومسجونة تحت سواد الحجاب. من الثالثة عشرة إلى الثالثة والعشرين. ولن أسمح لأيٍ كان أن يقول إنها كانت أجمل سنوات حياتي.
ليس بوسع من يعيشون في البلدان الديمقراطية أن يعرفوا كيف تغدو الحقوق، الطبيعية جداً في نظرهم، أمراً لا يمكن تصوره في الأنظمة الدينية الإسلامية. كنت أستحق، كما كل كائن بشري، أن أولد في بلد ديمقراطي، فلم أحظ بهذا النصيب، لذلك وُلدتُ ثائرة ناقمة.
ولكن ما هو هذا الحجاب، وماذا تعني سُكنَى جسدٍ مُحَجَّبٍ؟ وأن أكون محكومة بالحبس في جسد مُحَجَّب لأنه مؤنث؟ من له الحق بالكلام في هذا الشأن؟
كنت في الثالثة عشرة عندما فُرض القانون الإسلامي على إيران تحت سيطرة الخميني العائد من فرنسا مع بركات كثيرين من المفكرين الفرنسيين، الذين قَرَّروا، مَرَّةً إضافية، كيف ينبغي أن تكون حرية غيرهم ومستقبلهم. وأفاضوا، أيضاً وأيضاً، بإلقاء المواعظ الأخلاقية وبإعطاء الدروس السياسية. وفشلوا مرة أخرى في رؤية ما هو قادم، ولم يفهموا شيئاً. كما أنهم نسوا، مرة أخرى، كل شيء، وتهيأوا ـ تعضدهم أخطاؤهم السالفة ـ لكي يرصدوا المحنَ التي تنزل بالآخرين دون أن يخشوا عقاباً ولا عاقبة، ولكي يتألموا بالوكالة، مع احتمال القيام ببعض المراجعات المؤلمة، في اللحظة المناسبة: مراجعات لا تمس راحة ضمائرهم ولا كبرياءهم وغطرستهم. يتكلم بعض المفكرين الفرنسيين نيابة عن الآخرين بكل طيبة خاطر. وها هم اليوم يتكلمون مكان اللواتي لا نستمع إليهن ـ هذا المكان الذي ينبغي لأي كائن سواهن أن يكون له القدر الكافي من اللياقة كيلا يحاول احتلاله. إن هؤلاء المثقفين يواصلون على الطريق نفسه ويُوقّعون ويُقدّمون العرائض. يتكلمون عن المدرسة، حيث لم يضعوا أقدامهم منذ مدة طويلة، وعن الضواحي التي ما سكنوها قط، وعن الحجاب الذي لم يقيموا تحته أبداً. ويضعون الخطط ويدبّرون وينظّمون، ناسين أن من يتكلمون عنهن موجودات، يعشنَ في فرنسا، بلد القانون، وأنهن لسن موضوع مبحث أو معالجة مسهبة، ولا نتاج حصيلة جمعية توضع في متن مؤلف من ثلاثة أقسام. فهل سيمتنعون نهائياً عن تبليط جحيم الآخرين بحسن نواياهم، جاهزين لفعل أي شيء ليشاهدوا اسمهم في ذيل مقال في صحيفة؟
أيستطيع هؤلاء المفكرون إعطائي جواباً؟
لماذا تُحَجَّبُ البنات، والبنات فقط، المراهقات ذوات الستة عشر عاماً، والأربعة عشر، والصغيرات ذوات الإثني عشر عاماً، والعشرة والتسعة والسبعة أعوام؟
لماذا نُغَطّي جَسَدَهُنّ وشَعرَهن؟ ماذا يعني فعلاً حجاب البنات؟ وما الذي يحاولون ترسيخه فيهن وطبعه ببطء في أذهانهن؟ ذلك أنهن في البدء لم يَخْتَرن الحجاب. بل حُجِّبْن. وكيف يَعِشْنَ، ويَسْكُنَّ جسدَ مراهقة محجبة؟ وعلى كل حال، لماذا لا يُحَجَّب الصبيان المسلمون؟ ألا يمكن أن تثير أجسامهم وشعورهم رغبة البنات؟ إلا أن البنات لم يُصنََعْنَ ليملكن الرغبة الجنسية، إنهن في الإسلام أداة لشهوة الرجال فحسب.
ألا نُخفي ما نَخجلُ منه؟ عيوبَنا، ونقائصَنا، وتقصيراتِنا، وضعفنا، وحرماناتنا، وشذوذنا، وتشوهاتنا، وعَجْزنا، ودناءاتنا، وخَوَرنا، وأخطاءنا، ودونيّتنا، وخمولنا، وهشاشتنا، وأخطاءنا، وخِداعَنا، وجرائرنا، وآثامنا، وسرقاتنا، واغتصاباتنا، وخطايانا، وجرائمنا؟
منذ ولادة البنت عند المسلمين، تعتبر عاراً ينبغي ستره، لأنها ليست ولداً ذكراً، وهي تُمثّل في ذاتها النَقْصَ والعَجْز والدونية… وتُعتَبر أداة كامنة للجنوح. وإلى خطيئتِها تعود كل محاولة لممارسة الفعل الجنسي يقوم بها الرجل قبل الزواج. وهي أداة الاغتصاب المُحتَملة وأداة الخطيئة وزنا المحارم، بل والسرقة، لأن الرجال يستطيعون سرقة حيائها بنظرة مجردة. وباختصار، هي الإثم مُشَخّصاً، لأنها تخلق الرغبة الجنسية، وهذه الرغبة نفسها آثمة عند الرجل. تشكل البنت تهديداً دائماً للمبادئ والأخلاق الإسلامية. إنها أداة الجريمة المُحْتَملَة، مذبوحة بيد الأب أو الإخوة من أجل غَسْل الشرف المُلَطَّخ. ذلك أن شرف الرجال المسلمين يغسل بدم البنات.
إن الذي لم يسمع صراخ اليأس تطلقه نساء في غرف التوليد بعد أن وضعن بنتاً ولم يَضَعن الصبي المرغوب؛ ومن لم يسمع بعض النساء يتضرعن ويطلبن الموت للبنت التي وضعنها أو يطلبنه لأنفسهن؛ ومن لم يشاهد استغاثة أم وضعت لتوها مثيلتَها، هذه التي ستلقي في وجهها آلامها وعذاباتها الذاتية؛ ومن لم يسمع أمهات يَقُلْن: «أرموها في صندوق القمامة، اخنقوها إذا كانت بنتاً» من خوفهن من الضرب أو التطليق، لا يستطيع أن يفهم ذل أن تكون امرأة في البلاد الإسلامية. أود هنا أن أحييّ فيلم جعفر باناهي ـ الدائرة ـ الذي يقدم إلينا لعنة ولادة بنت في بلاد الإسلام.
لنصغِ إلى آلة فصاحة بعض المثقفين الفرنسيين وهي تعمل. إنها مروضة ومُزيّتة جيداً وهذا ما يَسُرُّ. مُحَرّكها ذو ثلاثة أزمنة. الأول: نحن لسنا من أنصار الحجاب (من دواعي الارتياح معرفة ذلك). الثاني: نحن ضد الاستبعاد من المدرسة (يعني: ضميرنا مرتاح بشكل مضاعف). الثالث: لنترك للزمن وللتربية أن يفعلا فعلهما (لنفهم جيداً: دعوا الآخرين يتصرفون، مرةً أخرى). البنات المحجبات يعشنَ محجبات، والمعلمون يتدبرون أمورهم. لقد تكلم «بيلاطيسيو» الفكر. وبوسعهم العودة إلى شؤونهم الصغيرة، ليتفلسفوا وليعالجوا الأمور بإسهاب بانتظار العريضة القادمة. التاريخ يمر، «وكلاب الحراسة تنبح».
الحجاب. لا أعني الحجاب في المدرسة، ولكن الحجاب بذاته. هل ينبغي للمرء أن يكون أعمى، وأن يرفض النظر إلى الواقع وجهاً لوجه، لكي لا يرى أن مسألة الحجاب هي مسألة بذاتها، سابقة لكل جدلٍ حول المدرسة أو العلمانية! ليس الحجاب علامة دينية بسيطة أبداً، كالصليب الذي بوسع الفتيات والشباب حمله في أعناقهم.
الحجاب ليس مجرد منديل على الرأس، بل يجب أن يخفي الجسم كلياً. وهو يلغي قبل كل شيء اختلاط المكان ويجسد مادياً الفصل الجذري الجائر والتعسفي للفضاء المؤنث عن الفضاء المذكر، أو بتعبير أكثر دقة، إنه يُحدد ويحدّ الفضاء المؤنث. الحجاب هو المبدأ الإسلامي الأكثر همجية المدون على الجسد الأنثوي والمستولي عليه.
يكشف فصلُ الرجال عن النساء في المساجد، حيث يسود قانون الملالي، ماهية ارتداء الحجاب: يجب على المرأة البقاء في ملجأ يحميها من أنظار الرجال. ومن أجل تفعيل القواعد الإسلامية تفعيلاً تاماً في إيران حاولوا تطبيق قانون المساجد على سائر أنحاء البلاد، ونقل فضاء المساجد إلى الفضاء العام: مداخل منفصلة للرجال وللنساء، قاعات طعام ومكتبات وقاعات عمل منفصلة… ومسابح منفصلة. ولما كان البحر لا يستسلم بسهولة لمثل هذا النوع من التقاسم، مُنعت النساء من السباحة في البحر. وفي الجامعة، مُنعت الفتيات من الانتساب إلى الفروع التي تتطلب تنقلات جماعية، مثل علم النبات وعلم الآثار والجيولوجيا.
نحن في فرنسا، بلد القانون، حيث تمنح بعض العائلات لنفسها سلطة إجبار بناتها القاصرات على ارتداء الحجاب. ماذا يعني هذا الأمر: إلباس البنات الحجاب؟ هذا يعني جعلهن أدوات جنسية: أدوات أولاً لأن الحجاب مفروض عليهن ويشكل وجوده المادي من الآن جزءاً من كيانهن منذ الآن، ومن مظهرهن ومن وجودهن الاجتماعي. وجنسية ثانياً: لا لأن الشعر المُخَبَّأ هو رمز جنسي فحسب، ولا لأن هذا الرمز يحمل معنيين (ما نُخفيه نَعرضُه، والممنوع هو الوجه الآخر للرغبة)، ولكن لأن ارتداء الحجاب يضع الطفلة أو المراهقة الشابة في سوق الجنس والزواج، ويُحَدَّدها ويُعَرِّفُها جوهرياً بنظرة الرجال ومن أجل نظرتهم هذه، بالجنس والزواج ومن أجلهما.
غير أن أداة الشهوة الذكورية هذه تُعبّر عن ممنوع آخر وعن ازدواجية أخرى.
البنت ليست شيئاً، الصبي هو كل شيء. ليس للبنت أي حق، وللصبي الحقوق كلها. يجب على البنت البقاء في الداخل، في مكانها، ولا تستطيع التجول في الهواء الطلق. وليس بوسع أي كان أن يجهل كون الرجال، والرجال وحدهم، يتجمعون في الساحات العامة في البلدان الإسلامية. ألا نراهم، هنا في فرنسا، يشغلون مقدمة المشهد؟
لماذا يريد الرجال المسلمون إلى يومنا هذا حجب النساء؟ لماذا يعنيهم هم حجاب النساء؟ لماذا ولأي سبب يتعلقون إلى هذه الدرجة بالحجاب النسائي؟ وإذا كانوا يعبدون الحجاب إلى هذا الحد، فلماذا لا يرتدونه هم أنفسهم؟. والحق أنه لو تحقق حدث من هذا القبيل لصار هناك معنى للمناداة «بهوية جديدة» عن طريق الحجاب. تصوروا الرجال المسلمين محجبين! سيكون هذا فعلاً اختراع القرن الحادي والعشرين! لأن حجب النساء أمر مبتذل منذ العهد القديم.
لكن الحجاب الإسلامي لا معنى له إلا لأنه يُخفي ويستر أو يحمي. ماذا يخبئ الحجاب؟ وما الذي يُغطّيه؟ وماذا يحمي؟
تستند عمارة الهوية المؤنثة والمذكّرة في الإسلام إلى مفهوم الستر والحياء عند المرأة، وإلى مفهوم الناموس والغيرة عند الرجل. تنقل هاتان الكلمتان المشحونتان بالمعنى أوزاناً تراثية ثقيلة، وصفات خاصة بكل جنس تتناقلها الأجيال عبر القرون. لا يوجد لهذه الكلمات معادل دقيق بالفرنسية، ولكن يمكن ترجمتها بصورة تقريبية إلى: حشمة وحياء عند المرأة، وإلى الشرف عند الرجل.
«الناموس» هو الشرف الجنسي للرجل. وهو مُحرَّم محظور، ومكبوت في أعمق أعماق الرجل المسلم. وبصفته خاصاً بكل رجل مسلم، فإنه ينبغي أن يبقى محمياً من أنظار الرجال الآخرين، أي الأنظار غير المشروعة. ناموس الرجل (أو عرضه) يجب أن يُحمى ويُستَر. وهو يرمز إلى ما في الداخل، ولا يمكن أن يكون في الخارج. له كفيل ضامن في الأم والأخت والزوجة والابنة والجسد المؤنث. والحجاب هو ملجأ لناموس الرجل المسلم وشرفه، ويَخلق عنده تبعيةً نفسية. ذلك أن جوهر هوية الرجل المسلم يتجذر تحت حجاب الأنثى. وترمز الغيرة إلى فحولة الرجل المسلم وإلى مقدرته على حفظ عِرضه: أي شرفه الجنسي، وأداته: أي الجسد المؤنث. هذا الضامن لشرف الرجل الجنسي، هذا المُحرّم غير المعترف به، لا يمكن أن يكون في الخارج حراً، تحت الأنظار غير المشروعة للرجال الغرباء. لأنه مرتبط بهوية الرجل المسلم، وبشرفه من حيث كونه رجلاً، والمرأة غير المحجبة بوسعها زعزعة عمارة الهوية الذكورية في الإسلام. لقد قَدَّم لنا الأدب والسينما الهَدَّامان ـ أحياناً ـ رجالاً مسلمين انهاروا نهائياً لأن واحدة من بناتهم أو زوجاتهم أو أخواتهم أو أمهاتهم انتهكت مبادئ الحياء الكلية القداسة.
إن حياء المرأة وخجلها هما الضامنان المُفصِحان عن غيرة الرجل المسلم. وكلما كانت المرأة حَييّةً خجولة، كلما ازداد الشرف والغيرة عند أبيها وأشقائها وزوجها. وبتعبير آخر، تخضع عمارة الهوية الذكورية عند المسلمين لحياء المرأة وخجلها. أما شرف الرجل وغيرته، وهو بدونهما لاشيء، فهما بمتناول حجاب المرأة. وكل تماس، وكل محاولة تقارب بين الجنسين تلوث شرف الرجل المسلم. ليست العلاقة الجنسية هي المحرّم المحظور، بل الجنس الآخر، الجسد الأنثوي، هو المحرّم المحظور بذاته.
يحكم الحجابُ على الجسد الأنثوي بالحبس لأن هذا الجسد هو المَحَلّ الذي يُدَوَّن عليه شرف الرجل المسلم، وهو بهذه الصفة يستوجب الحماية. ألا يُتَرجِم الحجاب قبل كل شيء عن الاستلاب النفسي للرجل المسلم الذي يبني كينونته وهويتّه بالخشية المستمرة من الانتهاك الأنثوي، أو من تجاوز مقلق لخصلة شعر أو طرف بشرة تعرضتا للأنظار؟.
الابنة هي ضامنة شرف أبيها وأشقائها. وإذا زُوّجتْ، بِيعَتْ، خرجت من وصاية الأب، لتصبح ضامنة لشرف زوجها. وفي حال الطلاق، تعود إلى الوصاية الأبوية، ويرتبط حياؤها بهذه الوصاية من جديد. والمرأة المُطلَّقة تحت السقف الأبوي هي مصدر قلق للأب وللأشقاء، كالبضاعة المُرْتَجَعة.
يقول بعض المفكرين المسلمين، المدافعين عن الحجاب: زوجتي، ابنتي لا ترتديان الحجاب، توكيداً منهم بأن موقفهم ليس ذاتياً. وماذا عن أمهاتهم، ألم يكُنّ مُحَجَّبات؟
الأم بالحجاب. الحجاب المضَمَّخ برائحة الأم. الأم المُحرَّمَة. الحجاب الذي ترتديه الأم دائماً. هذا الذي لن تتركه أبداً لطفلها، لابنها. الحجاب الذي يحمل رائحة الإثم، رائحة الأم المُحَرَّمة. الأم موضوع الشهوة المذنبة، التي تقمعها وتكبتها قوانين الأسلاف. يرمز الحجاب، في نظر الرجل المسلم، إلى صورة الأم المحبوبة، والمشتهاة. كما لو أن هذا الحجاب الذي غطىَّ شَعر الأم قد اختلَسَها من ابنها في الوقت نفسه. لهذا السبب تنجذب أنظار الرجال المسلمين ـ انجذاباً أكبر ـ إلى النساء المحجبات. القوة الباطنية العميقة للصلة بين الأم وابنها، هذه الصلة التي كان حجاب الأم ترجمانها في الطفولة الأولى والتي تلقي بظلّها (ظل المحَرّم، وزنا المحارم والشهوة) على المرأة المرغوبة. إن الرجل المسلم يكره الحجاب الذي يخفي المرأة ويرغبه في آن. يُذَكّر الحجاب بحب الأم، ولكنه يُذكّر أيضاً بالجرح الأول، بالحجاب الذي خطف الأم.
ألا تُقَوّي ضغوط المحرّمات غريزيةَ النظرة؟ ذلك أن الحجاب يُذَكّر بواحدة من المحُرَمَّات البارزة في الإسلام: الجسد الأنثوي. وما نخفيه عن الأنظار يزيدها اضطراماً. يُثَبّتُ الحجابُ انتباه الرجال وطاقاتهم النفسية على مشهد ينبغي أن يَتَكَشَّف عن كونه ذا فائدة كبرى، بحكم منطق الأشياء.
من المستحيل تجاهل النظرات المُلِحَّة والمتشبثة التي ترسلها عيون الرجال في البلدان المسلمة. النظرة البشعة، النظرة غير المشروعة، النظرة المترَصّدة، النظرة التي تَخترقُ الحجاب. ثم تتلقى الفتيات التوبيخ والتأنيب، لأنهن رغم الحجاب، ورغم أجسادهن المخفية، جذبن النظرات المحرّمة.
تُرَسّخُ الأمهاتُ في بناتهن الخشية من النظرة ومن المخاطر التي تنقلها. ومنذ نعومة أظافرهن، تستبطن البُنَيَّاتُ الفكرة القائمة على أن وجودهن يشكل تهديداً للصبي وللرجل، وأن ـ هذين الأخيرين ـ قد يفقدان كل سيطرة على نفسيهما إن شاهدا خصلة من شعرهن أو جزءاً صغيراً من جسدهن. وتُواصل الأمهاتُ، في البيئات التقليدية، إنتاج المبادئ نفسها المنقولة من جيل إلى آخر. إنهن وَجِلات، يرعبهن قطع الصلة بالنيّر الديني، ويخشَيْن كسر حلقة الهوية، ولا يجرُؤن على مجابهة حكم الأمهات الأُخريات في جماعتهن. ولكن رغم حجاب النساء يفتك الاغتصاب والدعارة بالبلاد الإسلامية، وينتشر الميلُ إلى الصبيان. ولئن كانت العلاقة الجنسية بين راشدين، خارج إطار الزوجية، رغم رضى الاثنين ـ المرأة والرجل ـ تعاقبها القوانين الإسلامية بشدة، إلا أنه لا وجود لقانون يحمي الأولاد. ويوجد ما يكفي من الأولاد المهمَلين الذين يتدبرون أمورهم بأنفسهم، لتحمل أعباء الحاجات الجنسية العاجلة لرجال تلك البلدان.
من له الحق بالكلام عن عار سُكْنَى جسدٍ مُخْجلٍ، جسدٍ محجَّب، وعن ألأسى الناجم عن جسد مذنب… كل ذنبه أنه موجود؟ وعن هذا الشعور بالذنب وهذا العار الفطريين؟ ربما يحق الكلام للَّواتي عشن قبل مراهقتهن بمدة طويلة وتحَمَّلْنَ عواقب العقائد الإسلامية التي آذت أنفسهن. إلا أن اللواتي يشعرن بوطأة نظرات الرجال من عائلاتهن، ونظرات الرجال الآخرين وغيرهم من الذين يعتبروهن بلا إرادة ولا مزايا، هن بالفعل من لا يمتلكن الحق بالكلام ولا القوة اللازمة لذلك. لقد عشن معاناة ذل عدم ولادتهن ذكوراً، وذل ارتداء الحجاب، هذا السجن المتنقل، كأنه وصمة، كالنجمة الصفراء معلقة على الشرط الأنثوي (1).
تدور أجساد النساء كالظلال حول الرجال، ذليلة، مذنبة، تجلب القلق، مُهَدِّدَةً، قذرة، نجسة، مصدر ضيق وخطيئة؛ هذه الأدوات الموبوءة، المطموع بها، المشتهاة والمحَرَّمة، المخفية والمعروضة، المحبوسة، المغصوبة والمكْرَهَة. إن الجسد المؤنث أداة جنسية مخبأة، ومذمومة ومعابة، كأنها بعض اللوازم التي لا بد منها لممارسة الجنس والتي نخجل في الوقت نفسه من استعمالها.
تشعر الفتيات المحجبات بالذنب، منذ الطفولة، كأنهن ضحايا اغتصاب، ويُشبه العنفُ الذي تعرضن له وعانين منه، الاغتصاب، في الواقع: إنه الاغتصاب فعلاً.
اغتصاب قديم سالف، تحمل الأمهات المسلمات علامته، ويَطبَعْنَها بدورهن على أجساد بناتهن. اغتصاب سالف تتحمل الأمهات جزءاً كبيراً من المسؤولية عنه. ذلك أن العقائد الإسلامية، التي تبثها الأمهات المسلمات وتستبطنها بناتهن، تكتسب سمةً ذاتية أصلية، كأنها نابعة من الداخل لا مفروضة من الخارج.
أسوق هنا بعض الملاحظات، لتلافي الاعتراضات والأمثلة المضادة.
إن الدين، أي دين كان، يوجد تاريخياً؛ فهو يصير ما نفعل به، ولكنه هو أيضاً ما فَعَلَهُ. الدين هو الدين كما تواجد في المجتمعات عبر القرون. وليس بمقدرونا اختصار الدين إلى الأفكار التي يُحَضّرُها بشأنه بعض المثقفين أو المُدَّعين، أو بعض ذوي الضمائر المرتاحة.
ومن ثم ينبغي، لفهم دين ما فهماً فعلياً ومعرفة آلية نقله نفسياً واجتماعياً من جيل إلى آخر، أن نحياه ذاتياً، وننخرط فيه إيجابياً أو سلبياً. ولا تتمكن الملاحظات الخارجية أبداً، مهما بَدَتْ وثيقة الصلة به، من النفوذ إلى داخل المؤمن واختراق ما يشعر به. يجب العيش داخل عقيدة أو إيمان ما، وتلقي تربية دينية وتعليم ديني، لكي نتوصل إلى فهم ماذا يعني أن نؤمن بالإسلام، أو بالكاثوليكية أو باليهودية، أو ألا نؤمن.
لقد عشتُ التوتاليتارية الإسلامية والهمجيات الدينية بمظاهرها كلها. ولما وصلتُ إلى فرنسا، تكوّن لديّ انطباع بعدم الوجود على الكوكب نفسه. وأحسستُ بمثل ما يحس به من قد يأتي إلى دنيانا بعد أن تحمَّل عذاب محاكم التفتيش المسيحية في العصر الوسيط. أنا لا أشعر بأي تسامح نحو الدين. وفي ما يتصل بالإيمان، فأنا ـ والشكر للّه ـ لست حتى ملحدة. ببساطة، أنا واعية وجودي، مدركة للظلم المخيم على هذه الأرض، وللجحيم الموجود فيها. والله، إذا كان موجوداً، فهذا شأنه.
لا يشك المسلمون إطلاقاً بحدود الخير والشر. وعندهم أن كل ما لا يضمه القرآن ويحويه فهو الشر المطلق. كل شيء موجود في القرآن: فقد فكًّر بكل شيء، بالكائن البشري في كُلّيته، وبالبشر من كل الفئات وتحت كل الظروف. ولا يُفلتُ من النص الديني أي أمر متعلق بالإنسانية. والشك بهذه الأمور إثم بذاته وانتهاك للحرمات. تقوم شرعية الأديان التوحيدية الثلاثة على واقعة كونها إلهية، وبالتالي فهي إطلاقية وخارج أي نقاش. ولما كان الله في التوراة والإنجيل والقرآن [الله ـ ديو Dieu ـ يهوه] نادرين، يجب على المؤمنين إطاعة ممثليهم على الأرض.
إن انخفاض قيمة المرأة في الإسلام، قانونياً واجتماعياً، ووضعها تحت الوصاية الذكورية، يسير جنباً إلى جنب مع حالها كأداة جنسية، ولوضعها هذا مصدره في القرآن.
تحتاج المرأة في البلاد الإسلامية، انطلاقاً من قوانين الإسلام، إلى موافقة ولي أمرها إذا أرادت السفر خارج البلاد (زوجها أو والدها أو شقيقها). وتذهب الشريعة إلى أبعد من هذا: ليس للمرأة مغادرة بيت الزوجية دون موافقة زوجها وولي أمرها. وهي ليست مُعتَبرة شخصاً تاماً أبداً. وفي إيران، لا يجوز للنساء الانتقال من مدينة إلى أخرى وحيدات، وهذا الإجراء اتُخذ في العام 1998. وأنا أتكلم عن النساء، لا عن المراهقات القاصرات.
تُفرِد الشريعة صفحات طويلة لأسفل بطن الرجل، ولمتعته الجنسية وواجبِ النساء في إشباع شهوات أزواجهن. وهي تتحدث أيضاً عن متعَ الرجال في الفردوس، وتخبئ للمسلمين الصالحين ولشهداء الإسلام حوريات أبديات الجمال، أبديات الشباب، يرجعن عذراوات دائماً بعد كل وصال. يمثل هذا الأمر لدى الرجال تحقيق استيهام النشوة التي لا تنتهي ولا تكل ولا تمل، ونهاية وسواس القذف المبكر والسابق لأوانه. أتصور كيف سيكون الرجال فحولاً متميزين، ذوي عضو جنسي من الفولاذ، لا يتعب. لا شيء إلا المتعة، والغبطة والسعادة. وأتساءل بيني وبين نفسي عن فضل هذه الوعود المقدًّسة، وعن دورها في جعل المتدينين يؤمنون بكلية قداسةِ نصوص الشريعة: أي رجل لا يحلم بمثلها؟ يكفي أن نؤمن بها. بالتأكيد، يقول القرآن: «الجنة تحت أقدام الأمهات» (2) ولكنه لا يشير ـ في ما يتعلق بهن ـ إلى أية متعة مضاهية لتلك التي يخص بها الرجال. لما كان الفردوس غير مفتوح إلا للأمهات، لا للعاقرات سيئات الحظ، ولما كان من غير المسموح ممارسة الزنا بأم أي رجل (فقد تؤدي الشتيمة الجنسية بحق الأم في البلاد الإسلامية إلى إراقة الدم) فلربما تكتفي الأمهات، وهن في الفردوس، بمشاهدة الرجال يضاجعون الحوريات.
ألمح الآن استنكارَ بعض المحجبات المستَحدثات لما أقول، واللواتي يرفعن أصواتهن بقوة مطالبات بحريتهن وبهويتهن، ولكنهن لا يقبلن المزاح بشأن القرآن. وقد نشاهدهن في الشارع أو في وسائط النقل، متباهيات، معلنات تصميمهن، ونشعر باستعدادهن للرد بعنف على الأسئلة التي لا يطرحها عليهن أحد، ولكن تستدعيها تلقائياً نظراتهن، وما يضعن على رؤوسهن، وثِقتُهن بأنفسهن التي تستفز الآخرين. وسيأتي يوم ـ بلا شك ـ سيقترح علينا فيه من يوحون إليهن بهذا السلوك قراءة جديدة للقرآن. فالأديان الموِّحدة تعيد قراءةَ نفسها دائماً، لكي يُقنعونا بالوصفة القديمة، وبأن المسألة هي في معرفة تفسير النص، وفك رموز ما ليس مكتوباً فيه إذا دعت الحاجة. غير أننا لمًّا نصل بعد تماماً إلى هذه النقطة مع الإسلام. بل مازلنا مع العلامات الخارجية لغنى الهوية ومع القراءات الأصولية للنص. الحجاب هو ثقافتي. والحجاب هو حريتي. إنها حكاية «إبريق الزيت» والنغمة المستعادَة من أيام إزالة الاستعمار، عندما كان يُقال: الحرية شيء، لكن الحرية الثقافية هي شيء آخر. كانوا يُميّزون ويُفَرّقون بين حقوق الإنسان (الفردية) وبين حقوق الثقافات (الجَمعية) قبل أن يصلوا إلى مواجهة هذه بتلك. وهكذا تم العثور على المسوّغ الفكري لسائر اللاديمقراطيات ما بعد الكولونيالية.
أن ترتدي شابات راشدات الحجاب، فهذا شأنهن، غير أننا نجد في موقف بعضهن ضرباً من انحراف جنسي مزدوج. ذلك أن ارتداءه في فرنسا لا يُشْكّل وسيلةَ الانصهار في الجمهور الغفل، بل على النقيض، لأنه يجذب الأنظار، ويشكل نوعاً من حب الظهور ويعبر عن نزعة إلى الاستعراضية والاستفزاز: أنا امرأة أداة، وفخورة بكوني كذلك، امرأة أداة جنسية، على وجه أكثر دقة. حتى هذا النوع من الانحراف، فهو شأنهن أيضاً. ولكن الموضوع يخرج عن كونه كذلك ـ وأتوسل إليكم إعارته الاهتمام ـ عندما تواكبه رسالة تبشيرية موجهة إلى من هن أصغر سناً، رسالةُ مُحَجَبةٌ هي الأخرى لأنها تخفي طبيعتها الحقيقية تحت غطاء كلمات «الحرية» و«الهوية» و«الثقافة». إن فرض الحجاب على قاصر، يعني تماماً إغواءها ـ إن لم نقل هتك عفتها ـ والتصرف بجسدها، وبيان صفتها كأداة جنسية مهيأة للرجال.
والقانون الفرنسي، الذي لا يمنع شيئاً عن الراشدين ـ الموافقين بإرادتهم على ما يفعلون ـ يحمي القاصرين من هذا النوع من الإغواء. وكل شكلٍ من الضغوط المباشرة أو غير المباشرة الهادفة إلى فرض الحجاب على القاصرات يضفي عليهن ـ بهذه الممارسة نفسها ـ صفة الأداة الجنسية المماثلة لصفة الدعارة. لذلك ينبغي منعها بقوة القانون. ذلك أن التشوهات النفسية والمعنوية هي تشوهات جنسية، كما أن التشوهات الجنسية هي أيضاً تشوهات نفسية ومعنوية. ولقد وُجِد علماء سلالات دافعوا عن الختان باسم الاختلاف الثقافي، لكنهم كانوا أقلية لحسن الحظ. إنها خطيئة ضد العقل وضد المجتمع بالتأكيد. فلنحاذر من ارتكاب الخطأ نفسه في ما يتصل بالحجاب الإسلامي. ولا ينبغي ـ باسم العلمانية ـ منع القاصرات من ارتداء الحجاب في المدرسة أو في غيرها من الأمكنة، بل باسم حقوق الإنسان وباسم حماية القاصرات.
ماذا يريدون إسماعنا غير ذلك؟ ما الذي تُغَنيه ل