البجعة السوداء : مذكرات لبناني عن الحرب الأهلية
خاص ألف
2011-02-27
تداعيات الأحداث غير المتوقعة
بقلم : نسيم طالب
ترجمة : المهندس حليم نسيب نصر
لاحقا و فيما كنت أستعيد الأحداث في ذاكرتي ، و أقوم بصياغة أفكاري حول إدراك الأحداث العشوائية ، فقد طورت انطباعا طاغيا يقول إن أذهاننا أدوات رائعة لإعطاء التفسيرات ، و هي كفوءة لإستنتاج معنى و منطق من كل شيء تقريبا ، كما أنها قادرة على اجتراح تفسيرات لجميع أصناف الظواهر ، لكنها على العموم ليست قادرة على تقبل فكرة اللامتوقع. تلك الأحداث لم تكن قابلة للشرح و التفسير ، لكن الأذكياء كانوا يعتقدون أنهم قادرون على تقديم تفسيرات مقنعة لها – بعد أن يكون الحدث قد وقع. أكثر من ذلك ، كلما ازداد ذكاء الإنسان باتت تفسيراته للحدث أكثر قابلية للإقناع – أما أشد الأشياء استثارة للقلق ، فهو أن جميع هذه الاعتقادات و الروايات بدت منطقية و متماسكة و بعيدة عن كل آفات عدم التساوق.
و هكذا ، فإنني غادرت المكان الذي يسمى لبنان بينما كنت لا أزال في عمر المراهقة ، و لكن بما أن عددا كبيرا من أقاربي و أصدقائي قد بقوا هناك ، فلقد ثابرت على العودة إليه بقصد الزيارة ، خاصة في خلال استمرار أعمال العنف هذه ، إذ أن الحرب الأهلية لم تكن حربا مستديمة لا تنقطع : بل كانت هناك جولات من القتال تفصل بينها " حلول دائمة ". و لقد شعرت أنني أكثر التصاقا بجذوري في أثناء فترات المتاعب ، كما تملكني شعور بالعودة لمعاضدة أولئك الذين خلفتهم ورائي و قد نالت الفرقة من معنوياتهم ، كما كنت أعجب لأمر أصدقائي المخلصين لأهلهم في أيام الرخاء فقط ، بحيث أنهم لا يأبهون سوى لازدهارهم الاقتصادي و سلامتهم الشخصية ، و لا يعودون إلى المكان سوى لقضاء العطل في أثناء فترات الهدوء المتقطع التي كانت تتخلل الحرب. أما أنا فلم أكن لأقوى على العمل، و لا على القراءة ، عندما كنت سالما خارج لبنان بينما كان الناس يموتون داخله ، و على العكس من ذلك ، فقد كنت أجد نفسي أقل اهتماما بالأحداث، و أكثر قدرة على متابعة شؤوني الذهنية دونما شعور بالذنب عندما كنت " داخل " لبنان. و الملفت للنظر أن الناس الناس كانوا يحتفلون بكثرة داخل لبنان خلال الأعمال الحربية ، حتى إنه تطور لديهم تذوق أشد للرفاهية ، مما جعل زياراتي تبدو أكثر جاذبية رغم الأعمال القتالية.
و كانت ثمة أسئلة قليلة صعبة معلقة. كيف يمكن لأحد أن يتكهن بأن هذا الشعب الذي بدا مثالا يحتذى في التسامح سينقلب إلى شعب من أقسى الشعوب بربرية بين ليلة وضحاها؟ و لماذا حصل هذا التحول بهذه السرعة ؟ و كنت أعتقد بداية أن التكهن بالحرب اللبنانية ربما كان مستحيلا فعلا ، بخلاف سواها من النزاعات ، و أن المشرقيين كانوا عرقا شديد التعقيد بحيث لا يمكن فهمه. لكنني أيقنت لاحقا ، شيئا فشيئا ، عندما شرعت أفكر في الأحداث الكبيرة في التاريخ ، بأن عدم انتظام هذه الأحداث لم يكن وقفا محليا على لبنان.
لقد كانت بلاد المشرق بؤرة للأحداث الهامة المنطقية التي لم يتنبه أحد إلى قرب قدومها. من ذا الذي تكهن بارتقاء نجم المسيحية كديانة بارزة في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط ، ثم لاحقا في العالم الغربي؟ فالمؤرخون الرومان أثناء تلك الحقبة لم يتنبهوا حتى إلى وجود ذلك الدين الجديد – و المتخصصون بتاريخ المسيحية يحارون بأمر غياب حتى أقل ذكر عارض لهذا الدين عند المؤرخين المذكورين. فعلى ما يبدو أن ثمة عددا قليلا من المرجعيات التاريخية قد أخذت أفكار هذا اليهودي بعين الاعتبار على أساس أنه لا يستحق أن يؤخذ مأخذ الجد ، أو أنه سيترك وراءه أي أثر من الخلف و الأتباع. فإننا لا نملك سوى إشارة معاصرة واحدة إلى يسوع الناصري – في كتاب " الحروب اليهودية " لجوزيفوس – و هي بحد ذاتها إشارة ربما تكون قد أضيفت لاحقا على يد ناسخ ورع. و ماذا عن الحضارة العربية التي برزت بعد ذلك بسبعة قرون ، و من ذا الذي كان يستطيع التصور أن حفنة من الفرسان سوف تتمكن من نشر إمبراطوريتها من شبه القارة الهندية إلى إسبانيا في عدد قليل من السنوات فقط ؟ و لقد حملت سرعة انتشار الحضارة الإسلامية و التي فاقت سرعة نشوء المسيحية ، كما كبيرا من عدم التكهن ، فالعديد من المشتغلين بالتاريخ أخذوا بالذهول من شدة سرعة هذا التغيير. فجورج دوبي ، على سبيل المثال ، قد عبر عن دهشته حول طمس ما يقارب عشرة قرون من تاريخ بلاد المشرق الهيلينية بـ " ضربة سيف " . و قد عبر فول فيين الرئيس اللاحق لكرسي التاريخ ذاتها في " كولاج دو فرانس " بعبارة موفقة عن سرعة انتشار الأديان كانتشار " الكتب الأكثر مبيعا " – و هي مقارنة تشير إلى عدم القدرة على التكهن . و هذه الأنواع من الانقطاعات في التسلسل الزمني للأحداث لم تجعل مهمة المؤرخين سهلة : فالفحص الدؤوب للماضي في أدق تفاصيله لا يعلمك الكثير حول آلية عمل التاريخ ، بل إنه فقط يعطيك وهما خادعا بأنك قد تمكنت من فهمها.
فالتاريخ و المجتمعات لا تتقدم زحفا. بل تنطلق قفزا. فالتاريخ و المجتمع ينطلقان من انكسار إلى آخر ، مع قليل من التذبذب بينهما. لكننا مع هذا ( شأننا في ذلك شأن المؤرخين ) نحب أن نؤمن بما يمكن التكهن به ، أي بالتقدم المتنامي البطيء.
و لقد أذهلني اعتقاد لم يبارحني منذ أن أتاني ، بأننا مجرد ماكينات " عظيمة " للنظر إلى الوراء ، و بأن ليس هنالك من هو أشد من البشر مخادعة للذات. و كلما مر علي عام زاد اقتناعي بهذه العلة البشرية.
*مطبوعات الدار العربية للعلوم ناشرون . ط1 بيروت 2009 . ص 40 – 42 .
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |