الجاهليّة إشكالية المدلول، المفارقة، شرعنة الإيديولوجيّ المقدّس (2/1)
2011-03-01
طبقاً لمنظومة المفاهيم الإسلامية الأرثوذكسية سواء الكلاسيكية أو المعاصرة، إن الفترة التاريخية التي سبقت صعود دين محمد في جزيرة العرب، هي فترة توصم بأنها "فترة الجاهلية"، أو "العصر الجاهلي". وهذا بغض النظر عن اختلافات التراثيين فيما بينهم، منذ متى ابتدأت هذه الفترة؛ المهم إن مجرد ابتداء الوحي المحمدي سنة 610م، فهذا معناه -طبقاً للدوغما الإسلامية- أنّ ما سبقه ينتمي إلى أحضان: الجاهلية. وهكذا، فليس غريباً أن تتخذ لحظة الوحي عند العرب والإسلاميين بمثابتها الحد الفاصل ما بين الظلام (عصر ما قبل التاريخ) والنور (بداية التاريخ)، أو كما يشاء الفلاسفة اللاهوتيون التعبير: مرحلة تنتمي إلى الخير المطلق ومرحلة تنتمي إلى الشر المطلق، ولحظة الوحي هي التي تفصل ما بين تلك المرحلتين. طبعاً هذا المنطق الديني، ليس غريباً فقط بما يخص الإسلام، بل نجده في أغلب الديانات الشمولية، وإن كان الإسلام –وخاصة الحالي- يقف على رأس تلك الشموليات التي تسيطر على ذهنية المعاصر بأنماط معرفية أصبحت في الواقع أجنبية عن ثقافتنا.
أما عن لصق صفة الجاهلية بمكان ما وسكانه، دون آخر، فهذا محط خلاف كبير أيضاً بينهم، بمعنى هل كانت الجاهلية تطلق فقط على معاصري محمد (الذين لم يؤمنوا به) أو الذين سبقوه في جزيرة العرب، وتحديداً في مكة أو يثرب؟ أم أنها كانت تطلق على أي مكان في العالم قبل الفترة المحمدية؟ هذه النقطة اختُلف عليها، ولا تهمنا كثيراً.
سوف يعمل البحث المقدم أدناه على نقاش ثلاث محاور أساسية:
المحور الأول: قبل الدخول في نقاش إشكالية مدلول الجاهلية بحد ذاته، أرى من الضروري أن نأتي بشكل وسريع ونوضح مسألة القطيعة في النظم المعرفية، والمشاكل المنهجية في تطبيقها على نشوء الدين الإسلامي في بواكيره والقطع مع ما قبله (الجاهلية؟)، ذلك أنه:
ثمة إسلاميون الآن يتكئون على بعض أقطاب ما بعد الحداثة في مسألة القطائع الإبستمولوجية ليقولوا لنا أن ما قاله فوكو يقترب مما أعلنه محمد حينما أعلن هذا الأخير: الإسلام يجب ما قبله، أي يقطع مع ما قبله. بالتأكيد هؤلاء الإسلامويون تجاوزوا الأطروحات الأصولية والفاشية التي كان أبو الأعلى المودودي وسيد قطب وأخوه (محمد قطب) قد طرحوها بما يخص جاهلية المجتمعات الحديثة ومقارنتها مع مجتمعات ما قبل الإسلام. هذا صحيح. ولكن تجاوز الإسلامويين للطرح الأصولي هذا، لم يكن ليتم إلا بإكساب المعنى إيديولوجيا جديدة، أو بالأحرى تكتيكاً إيديولوجياً جديداً في مواجهة النقد التاريخي للمحمدية الباكرة.
المحور الثاني: مقاربة السياق الإيديولوجي في القرآن الذي أعلن فيه محمد لفظة الجاهلية لأول مرة، وإثبات أن محمداً لم يكن إلا البادئ بصناعة هذه الإيديولوجية المقدسة التي تطورت على يد أتباعه: متى استخدم محمد هذه اللفظة في القرآن؟ وكيف استخدمها؟ وبغرض ماذا؟ ما هو السياق التاريخي الذي وردت فيه؟ إنه بدون طرح هذه المسائلات وهذه التحديدات التاريخية لا يمكن أن نفهم مدلول الجاهلية، رغم أننا نقرّ أننا لن نستطيع بأي حال أن نصل إلى المفهوم أو المدلول التاريخي الدقيق للجاهلية الذي كان يدور في خلد محمد. نعم ربما نستطيع المقاربة (وليس المطابقة) في قراءة الاستغلال الإيديولوجي من طرف محمد أثناء استخدامه لهذه اللفظة. وهكذا لنصل إلى نقد التكثيف الإيديولوجي المفاهيمي الذي ألبس للفظة، وكيفية صناعة الإيديولوجية المقدسة بشأن تقسيم الزمان. وهذا هو موضوع الجزء الأول من المقال.
المحور الثالث: إشكالية مفهوم الجاهلية بحد ذاته، ونقد بعض المحاولات الاستشراقية والنقدية العربية (نصر حامد أبو زيد) التي تناولت هذه اللفظة. والتعريج من ثم على التكثيف الإيديولوجي الذي أكسبه التراث الإسلامي للفظة الجاهلية، والمطب الذي وقع فيه المفكرون الإسلاميون المعاصرون في تناولهم لهذا اللفظ دون العودة إلى ملابساته. سواء بتفسيره أو بإعادة تأويله، وانعكاس هذا على مصير درس الفترة الما قبل محمدية.
نقد منهج القطيعة:
منذ فترة كتب رضوان السيد (الكاتب الإسلامي) مقالاً في جريدة الحياة (29 مايو 2010) أوجز فيه محاضرته التي ألقاها بالإسكندرية (الدين واللغة وإشكالية التواصل بين الجاهلية والإسلام). وقد أشار في نهايته إلى أنه ليس من المجدي: «في القضايا التي تتعلق بالمنظومات الفكرية والعقدية والحضارية، قراءة الاستمرار والتواصل مع محيطها، من طريق النظر في هذا العنصر أو ذاك، أو هذا المفرد أو المفهوم أو ذاك». ويقترح علينا في دراسة تلك المنظومات بأنه من الأولى والأصح: «قراءة المنظومات والتواصل في خطوتين: الأولى دراسة المنظومة من حيث الخطاب والمفاهيم والعناصر في اشتغالها فيما بينها، وكيف تفعل في محيطها ويؤثّر فيها وتؤثّر فيه. والثانية النظر في البراديغمات، أو المقولات التي أطلقتها أو انطلقت منها. فالتلاؤم والاستمرار يكونان في النظر الداخلي لعملها، وتأثيرها في المحيط والتاريخ». ويقول: «إن المقصود هنا ليس الإنكار على القراءات التاريخية والأدبية للنص المقدس، وللإسلام التاريخي، بل المُرادُ اعتبار القرآن والنتاجات المتفرعة عنه نصوصاً لها نظام خطابٍ ورؤية للعالم، ومنظومات، وليس مجموعةً من الأمشاج والعناصر المتشرذمة والخطابات المتناقضة لاختلاف مصادر مفرداتها وتصوراتها.»
إذن إنّ قرآن محمد مادة ما على الناقد (الإسلامي؟) المواكب للمناهج الما بعد حداثوية المعاصرة إلا أن يغوص فيها لوحدها بدون النظر إلى التاريخ والحوامل التاريخية. لكن من صعد بالقرآن تاريخياً؟ من صعد بمحمد وكيف نشأ؟ إنها أسئلة معلقة في الهواء بين قوسين. وحينما أقول "مادة"، أي القرآن، فإنما أعني بالضبط بكونها لا تمثل هدفاً "موضوعياً مادياً" متحققاً في التاريخ؛ إنها بمنطق الخطاب الديني المابعد حداثي: مادة ذهنية إلهية فقط. فالناقد هنا لا يحاكي تاريخاً، إنما يحاكي "مثالاً" غير متجسد على أرض الواقع التاريخي. هذا المثال متجسد فقط في ذهنية الديني الما بعد حداثي ومشروطاً بأطرها المثالية. والمفكر رضوان السيد إذ يدعو إلى نقاشهما بطريقة بنيوية بعد القطع الإبستمولوجي، فهو من وجهة نظرنا يقع في إشكاليتين:
الأولى: تتمثل في الدعوة إلى تطبيق المنهج البنيوي في الدراسات الإسلامية، وهو-أي الدكتور رضوان- إذ يفعل هذا، يغض النظر عن السياق التاريخي الذي خرج من إيهابه المنهج البنيوي، فإذا ما علمنا أن البنيوية جاءت كرد فعل على المنهج التاريخي، أو التاريخانية، سوف ندرك أن هذا المنهج في البحث جاء بعد أن أشبعت ميادين المعرفة بالدراسات التاريخية المعمقة، وربما المتشددة في تاريخيتها لدرجة أن التاريخ في بعض اللحظات نال من نصيب البحث المطروح، فتأتي البنيوية كرد فعل على هذا المنهج، لتتناول بالبحث المحطات التاريخية كل على حدة، وتصر على منطق هذه المحطات الخاص، وتأثير العناصر المشكلة لها بعلاقاتها مع بعضها وعلاقاتها مع المحيط. فإذا ما أردنا تطبيق البنيوية على مبحث يغيب عنه المنهج التاريخي غياباً تاماً وتسيطر عليه أساطير التراثيين، لكنا أمام بنية مستقلة يحكمها المنطق الأسطوري والإعجازي، ومفاعيلها الداخلية تحتكم إلى منطق هو أبعد ما يكون عن المنطق. وإذا ما أردنا الاسترسال لقلنا أن ما يمكن أن يفضي إليه مثل هذا المنهج هو إعمال العقلي باللاعقلي بدون منهج نقدي.
ومن جهة أخرى، إننا حينما نصرّ على عزل هذه البنية الدينية عن التاريخ نكون قد وقعنا بالأخطاء التي وجهت كثيراً للبنيويين بخصوص المنهج الوصفي فقط لعناصر البنية من الداخل. ولن نكون بهذه الحالة قد فهمنا آلية اعتمال هذه العناصر داخل محيطها (التي أشار إليها السيد) ما لم نفهم بالأصل كيف تكونت هذه العناصر وندرس تناصها التاريخي.
إن إعمال العقلي باللاعقلي من غير ضبط نقدي وتاريخي لمنطقه الداخلي –آخذين بعين النقد سياقه الخارجي- لن يؤتي بنتائجه ما لم ندرك، على الأقل من ناحية منهجية، أنه لا يمكن عقلنة اللاعقلي. البنية الدينية بالأصل بنية غير عقلانية. ومنطقها وآليات اشتغالها يرفضون بالأصل أن يتعقلنوا. نعم يمكن أن ندخل إلى هذه البنية ونسكن داخلها قليلاً لكي نفهمها ونفهم أطرها ونواظمها. لكن هذا الكلام لا يمكن أن يؤتي بأية نتائج بفصل البنية عن سياقها التاريخي والاكتفاء فقط بالوصف والتحليل من داخلها. هذا الخطأ يقع فيه الكثير من المستشرقين الآن في قراءة القرآن بالدوران داخله فقط، بحجة التحرر من المصادر التراثية.
الثانية: فكرة القطيعة الإبستمولوجية:
نرى في دعوة الأستاذ رضوان السيد إلى القطيعة انتقائية في شكل القطيعة التي يرجوها، فالقطائع الإبستمولوجية في الفضاء الفلسفي متعددة ومتنوعة، فمثلاً غاستون باشلار يقول بثلاث أشكال للقطيعة الإبستمولوجية:
1- القطع الإبستمولوجي التام والذي يقوم على الفصل بالطريقة التي يرجوها الدكتور رضوان.
2- القطع الإبستمولوجي القائم على الاحتواء: فالجديد يحتوي ما تجاوزه دون أن يلغيه.
3- القطع الإبستمولوجي بالتتام، وهو الذي يقول بوجود منظومتين مختلفتين في الحقل نفسه، لكل منها اتجاه.
فإذا كانت وجهة نظر الدكتور رضوان الملبسة بالوصاية واقتياد العقل إلى شكل محدد من القطيعة تجد في القطع التام ضالتها (الشكل الأول)، فإنه بذلك يلوي برأس المعرفي لصالح الإيديولوجي.
فالقطائع الإبستمولوجية بالمعنى الاجتماعي تعرضت للنقد الشديد، فالواقع أغنى بكثير من القطع، والقطيعة إذ تكتسب مشروعيتها من النظم المعرفية، فهذه المشروعية قائمة على البعد المعرفي الذي يمكن أن تقدمه في حالة ما. وعندما يقول رضوان السيد:
"إن المقصود هنا ليس الإنكار على القراءات التاريخية والأدبية للنص المقدس، وللإسلام التاريخي، بل المُرادُ اعتبار القرآن والنتاجات المتفرعة عنه نصوصاً لها نظام خطابٍ ورؤية للعالم، ومنظومات، وليس مجموعةً من الأمشاج والعناصر المتشرذمة والخطابات المتناقضة لاختلاف مصادر مفرداتها وتصوراتها." فهو يدعو إلى تطبيق " القطيعة الإبستمولوجية" التي نشأت من تطور العلوم الوضعية وكانت تهدف إلى ضبط المنطق الداخلي للعلم، من أجل الوصول إلى أكثر النتائج دقة، يدعو لتطبيق هذه القطيعة على مبحث إيماني يقف على النقيض من العلوم الوضعية، وخاصة إذا ما استبعد التاريخ منها، ليغدو القرآن بعد ظهوره كقطع ابستمولوجي، لحظة تاريخية مذهلة بمفرداتها ونظمها الداخلية. فإذا ما كان الحج والصلاة والزكاة والشهر الحرم و… ليست من هنا أو هناك فستغدو بحق مفاهيم مدهشة؛ وهنا ستحل القدسية على الهيكلية التي ضمتها، وسيصبح البناء الذي قدمه نبي الإسلام بناء إعجازياً. هذا الأمر مرفوض في المناهج النقدية ذاتها.
أما الدراسات التاريخية التي تحيل كل من المفردات السابقة إلى جذورها التاريخية، وتقر بأنها كانت موجودة سابقاً وإن ما فعله الإسلام كان إعادة هيكلية لكثير من المقولات والمفاهيم في بناء يختص به وحده، ويلائم مجتمعه وحده؛ هذه الدراسات ستهز جذور القدسية والدهشة التي يمكن أن تعتري العقل المستلب للحظة الإعجازية السابقة. وبذلك يتوضح ما قصدناه بتجنيد المعرفي من أجل الإيديولوجي المضمر والذي يندرج ضمن نفس النسق اللاواعي لاستبطان مفهوم الجاهلية بالمعنى الإسلامي التراثي، والإيديولوجي المعلن من انه مفكر إسلامي يبحث عن ما يبرر وجهة نظره وزاوية رؤيته للعالم.
وإذا ما أردنا أن نناقش الأستاذ رضوان السيد من داخل حقل الإبستمولوجيا نقول له: إن الإبستمولوجيا طرحت ما يدعى بالعقبات الإبستمولوجية في البحث، وكانت أهم العقبات الإبستمولوجية هي عقبة التعميم أي أخذ المعطى على أنه بديهة أو مسلمة دون نقاش هذه البديهة أو المسلمة ونقاش مدى تطابقها مع الواقع، وبالتالي إذا ما تناولنا القرآن كقطع مع…(؟) وانسجمنا مع المقولة التي أوردتها بأن الإسلام يجب ما قبله، ألا يمكن أن نكون قد وقعنا في شباك أحد العقبات الإبستمولوجية وبالتالي نكون قد بدأنا بمقدمة خاطئة!!!
وهكذا فإن مسألة القطائع التي يحتج بها لاهوتيون –ما بعد حداثيون- ستقف على العكس من النقد التاريخي؛ هذا بغض النظر أن استعارة مثل هذه المناهج ما هي إلا تفعيلات مؤقتة للهروب من النقد والدرس والغوص في عدم الإجابة وترك الأبواب مشرعة للخرافة وتهويمات المطلق. هذا الخطأ يقع فيه كلا الطرفين، الطرف الإسلامي من جهة والطرف الضدي الأنتي من جهة أخرى، وهذا رغم الاختلافات السطحية بينهما في النظر إلى التأسيس المحمدي واستمراره في التاريخ. فبينما يتنكر ويحاول الطرف الأول رفع محمد إلى مستوى السماء وإبعاده عن الحقول أو الحاضنات الزمنية التي أفرزته، نجد أن الطرف الثاني يحاول إنزال محمد من السماء من طريق الأدوات النقدية الحديثة (أو هكذا يوهم)، أو على الأقل تقليص الهوة اللاهوتية في مقاربته ودرسه. إنه من الواضح لأول وهلة أن الاختلافات عميقة بينهما، إلا أن تمحيصاً دقيقاً في المناهج والأدوات التي يستخدمونها ستكشف أن المنطلق الابستمولوجي هو واحد سواء درس بدأ من السماء أو درس بدأ من الأرض باتجاه السماء.
مع ذلك التحليل ندرك أنه بإمكان داخل تلك الذهنية أن تحدث كل أنواع الاستلابات المدهشة اللاعقلانية، ما دام التاريخ مبعداً ومخصياً. من الذي قطع مع فترة ما قبل الإسلام (الجاهلية؟)؟ تقول الرؤية الإسلامية إنه جبريل، رسول من الآلهة قد أرسلته إلى محمد. وعن طريق هذه الآلهة، حكم محمد في القرآن أن الفترة التي قبلي هي من أعمال الجاهلية!! في الواقع، كل شيء ممكن داخل هذه الذهنية. رضوان السيد هو نفسه يقول بنفس المقال بخصوص القطيعة: «الرؤية الإسلامية التاريخية: وهي تبدو أكثر صرامة ووضوحاً في "القطيعة مع الجاهلية" [التأكيد من عندي] أو حِقَب ما قبل الإسلام في أنحاء الجزيرة العربية، في الأمور التي تتعلق بالتوحيد من قريبٍ أو بعيد، وما يتعلق بعادات العرب وأعرافهم».
إذن هناك صلة وصل –وإن كانت خفيفة- على صعيد المنهج بين القطيعة اللاهوتية التي قالت بها الرؤية الإسلامية والقطيعة الإبستمولوجية لفوكو عند رضوان السيد. لذا لا بد من اللجوء للتحدث باسم فوكو! (تكتيك قوي!). هذا المعنى بإمكاننا أن نقرأه من خلف أسطر رضوان السيد الذي يقول: «ولا شك في أن المصطلح وطرائق المعالجة، تستدعي مقاربة مفهوم أو مفاهيم «القطيعة»، وبالمعنيين، الإسلامي القديم: الإسلام جَبَّ أو يَجُبُّ ما قبله، والحديث والمعاصر الذي اقترحه المفكر الفرنسي ميشال فوكو، وساد لفترةٍ في الدراسات التاريخية والفكرية والأدبية».
إضافة إلى ذلك، لا يمكن بأي حال وضع حد فاصل بين الإنتاج الأدبي لمرحلة ما قبل الإسلام وما بعده. من وجهة نظر النقد الأدبي، إنه من أكبر الخرافات أن يقال أنه هناك أدب جاهلي وهناك أدب إسلامي، إذا قصد أنّ لكل منهما ميزات نقدية ونصية تتمايز عن الأخرى. هذه الخرافة بإمكاننا أن نستدل عليها من خلال التركيز على حقيقة بسيطة: وهي أنه لم يكن ثمة أصلاً أدب إسلامي بكل ما تعنيه الكلمة في بواكير الدين المحمدي (خاصة أثناء حياة محمد) أو ليست أمامنا أدلة تاريخية وافية هذا إذا وجد. نقول هذا الكلام ونحن نعي التميزات التي طالت الأدب في مراحل الإسلام اللاحقة، الفترة الأموية، العباسية…الخ بسبب التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي طالت المنطقة، وما إليها من أسباب أخرى. لكن كلامنا ليس هنا، إنه يتمحور حول الغرض الإيديولوجي –وليس المعرفي- من التقسيم بحد ذاته. إننا بهذا التقسيم نكرس الأدلوجات التي ألبست لكلمتي الجاهلية والإسلام سواء من إسلاميين أو غيرهم. نعم إن لكل مرحلة استحقاقاتها التي ستنعكس على لغة الأدب نفسه، لكن في الواقع ليس ثمة أي دليل نقدي جدي يمكن أن يثبت لنا أن ميزات الأدب الجاهلي تختلف عن الأدب الإسلامي في بواكيره (وحتى بعض الشعراء الذين استمروا داخل الفترة المحمدية)، وخاصة من وجهة نظر النقد الأدبي كما ذكرنا، وبشكل أخص إذا درسنا ذلك بآليات التناص الأدبي.
ما هو إذن الغرض الإيديولوجي من التقسيم؟ الغرض هو القرآن! أي حماية القرآن من النقد خاصة الفيلولوجي، وإبعاده عن استحقاقه السياقي التاريخي، وإكسابه من ثم الفرادة والخصوصية التي تختلف عن أدب ما قبل الإسلام. لكن بإمكاني أن أقول أن هذه هرطقة نقدية!! ليس ثمة نصاً فريداً بذاته، كل نص، ماهو إلا نص على نص (رولان بات)، والقرآن ليس استثناء من هذا. السيوطي ذاته له رسالة في المفردات الأجنبية (الأعجمية، السريانية خاصة) في القرآن، النقاد المستشرقون ناقشوا هذا، كريستوف لوكسينبيرغ (اسم مستعار) في كتابه الأخير "القراءة السريانية للقرآن" أيضاً ناقش هذا مطولاً. بالرغم من الانتقادات المنهجية القيمة التي وجهت للوكسينبيرغ (خاصة بأن بعض نتائجه التي توصل إليها هي مجرد تحصيل حاصل)، إلا أن عمله يبقى قيماً من هذه الناحية.
محمد وشرعنة الإيديولوجية المقدسة:
هناك نقطتين سأركز عليهما في سبيل الوصول إلى مقاربة للفظة الجاهلية. الأولى: مقاربة السياق الإيديولوجي في القرآن، الذي أعلن فيه محمد لفظة الجاهلية؛ أما الثانية فهي المرور سريعاً على إشكالية الزمان المقدس والمدنس داخل سيكولوجيا الديني بشكل عام ومحمد بشكل خاص.
أ- السياق الإيديولوجي المحمدي في القرآن:
في الواقع لا نعثر في أي نص مكي من القرآن على لفظة الجاهلية. وبالمقابل لا نعثر أيضاً على لفظة الإسلام (هذه النقطة لها دلالة كبيرة، ولا بد من إيلاء الأهمية لها. وليس بوسعنا الآن مناقشتها في هذا السياق). لقد ظهرت لفظة الجاهلية في القرآن أربع مرات في نصوص يثربية خالصة.
لقد كانت أول مرة ترد فيها ما يقارب سنة 625م (أي بعد 15 سنة من بدء بشارة محمد!) في سورة آل عمران الذي يأتي ترتيبها بنحو كرونولوجي السابع والتسعين من القرآن ككل، والسابعة من السور اليثربية. لقد وردت في سياق له نبرة إيديولوجية سياسية بعد فشل فريق محمد في كسب معركة أحد، وذلك باتهام أناس مناوئين له (أطلق عليهم بعد ذلك بـ المنافقين) كما هو التالي: «ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ [الخسارة في أحد] أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ [من المعركة]…»[آل عمران:154]. ربما يؤكد سجال محمد هذا في القرآن العمق الإيديولوجي والديني بعد ثلاث سنوات من وصوله إلى يثرب، ومدى قوة شوكته فيها حتى بدأ يستخدم ألفاظ مثل: "طائفة منكم" و "طائفة قد..". ولنعلم أن هاتين الطائفتين هما بنحو رسمي من مجتمع محمد، إلا أنه اتهم الطائفة الثانية بأنها لا تثق بالله كما يرى محمد. وهنا يمكن أن نتعمق باتهام محمد الإيديولوجي لهم بأنهم يظنون بالله ظن الجاهلية. وما يؤكد هذا، أن الخلاف بين محمد والمنافقين هو خلاف سياسي حول منازعة محمد لهم في استلام مقاليد أمور يثرب من أيديهم (وهم أصحاب الأرض)، وبشكل أخص منافسة محمد للزعيم "عبد الله بن أبي".
المرة الثانية على التوالي التي وردت فيها لفظة الجاهلية، جاءت مقرونة بكلمة الأولى، "الجاهلية الأولى" في سياق أوامر من محمد لنسائه بشكل خاص: «يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء …. وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى» [الأحزاب: 32- 33]. ويأتي ترتيب سورة الأحزاب كرونولوجياً 103 من القرآن ككل، و 13 من القرآن اليثربي. فإذا كان هذا الخطاب موجه إلى نساء محمد، فليس صحيحاً ما أورده أبو الهلال العسكري: «جاءت امرأة إلى النبي (ص) فقالت: يا رسول الله إن إبلاً لي أصيبت في الجاهلية. فأنزل الله تعالى: (الجاهلية الأولى). وكانت قريش تسمى في الجاهلية العالمِيّة [بكسر اللام] لفضلهم وعلمهم. قال الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب:
ألسنا أهل مكة عالمياً…..وأدركنا السلام بها رطابا »(1).
من الصعب الوصول إلى دلالة دقيقة لكلمة "الأولى". ومن الصعب أيضاً الاقتناع بما قدمه روزنتال (2). وقد جاء في أحكام القرآن للجصاص: «وقيل في الجاهلية الأولى ما قبل الإسلام، والجاهلية الثانية حال من عمل في الإسلام بعمل أولئك». إن الزمان الجاهلي بهذا المنظور سيمتد حتى داخل التاريخ الإسلامي لكل من لا يعترف ويقر بمعالم وأفكار إيديولوجيا الدين المحمدي. من هنا يمكن أن نقرأ بعض الاختلافات بين الإسلاميين والتراثيين بشأن التساؤل هل الجاهلية هي مرحلة زمنية وانقضت إلى غير رجعة أم لا؟ وفي إشارة ملفتة يوردها السيوطي في الإتقان: «قال شيدلة: الجاهلية الأولى: أي الآخرة في الملة الآخرة: أي الأولى بالقبطية، والقبط يسمون الآخرة الأولى والأولى الآخرة». مهما يكن إن سياق ورود الجاهلية الأولى في المرة الثانية من سورة الأحزاب هو أيضاً سياق مشحون بمعالم ثيوقراطيا محمد، التي لا يمكن أن نفصلها عن تطور مكانة محمد السيا-دينية في يثرب. وبشكل خاص في هذا السياق منح نساء محمد مكانة خاصة تختلف عن أي امرأة: « يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء».
أما المرة الثالثة في ورود لفظة الجاهلية، ففي سياق سياسي واضح من سورة الفتح، وذلك قبل أن تسقط مكة بيد محمد. والأرجح أن الآيات الأخيرة من هذه السورة التي وردت فيها أتت بعد شن محمد الغزو على خيبر كما قرر نولدكه(3) في بداية السنة السابعة: «إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ»[الفتح:26]. ويقال أن هذه الآيات وردت بمناسبة قصة أبي بصير المشهورة. لكن ما هو ملفت أن حمية الجاهلية كما رأى أغلب المفسرين (منهم السيوطي في الدر المنثور) أنها بسبب امتناع سهيل بن عمر عن الاعتراف بنبوة محمد ولم يقروا بـ البسملة: «وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم وحالوا بينه وبين البيت». إذن الخلاف بين محمد وقريش هو خلاف سياسي وليس دينياً، والحمية كما هو السياق التراثي لا ترتبط بالدموية القرابية، وإنما بـ مكانة محمد. فاتهام قريش بتهمة حمية الجاهلية هو اتهام سياسي (بعد هذا الصلح أي الحديبية ستسقط مكة بيد محمد). طبعاً هذه النقاط تدل مرة أخرى على تطور قوة محمد الثيوقراطية والسياسية في يثرب والتي كان يفتقد لها في مكة أو على الأقل لم تكن واضحة بعد في ذهنه.
المرة الرابعة فقد وردت لفظة الجاهلية في خواتم ترتيب القرآن كرونولوجياً في سورة المائدة (ترتيبها 114) بكلمات من محمد فيها الكثير من الثقة بسلطته ونفوذه. يمكن أن نقرأ لمحمد ما يلي من القرآن: «وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ…/ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُون/ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ»[المائدة:50- 51]. لا شك لولا قوة محمد السياسية ومكانته العليا التي حاز عليها ضمن خارطة يثرب، لم يتمكن من هذا الإعلان القوي. ومما ينبغي ملاحظته في السياق أن كلمات محمد تلك كانت موجهة إلى اليهود والمسيحيين بشكل خاص (الأصدقاء في مكة!!) ولم تكن موجهة إلى الوثنيين. وهذه النقطة تقف برهاناً ضد بعض الرؤى الاستشراقية بأنها تعني البربرية (غولدتسهير)، أو الوثنية (فلهوزن)…الخ. لماذا لم يتهم محمد المسيحيين واليهود بهذا الاتهام وهو في مكة؟ لا بل ثمة نصوص عديدة في القرآن تثبت ولائه لهم أو على الأقل عدم عدائه لهم. ما لذي حدث حتى يشنع بهم بـ «أفحكم الجاهلية يبغون…»!؟ لنعلم أنهم يمتلكون كتاباً أيضاً ذو مرجعية إلهية ويتحاكمون من خلاله فيما بينهم. ومحمد نفسه سماهم بنفس السياق بـ أهل الإنجيل:«وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ» [المائدة: 47]. في الواقع إن الذي حدث أن الاستحقاقات التاريخية في مكة بشأن محمد قد انقلبت بنحو دراماتيكي في يثرب، وخاصة أن شوكته السياسية قد قويت، ونفوذ سلطته قد امتد، ومعالمه الإيديولوجية قد توضحت أكثر…الخ.
إذن كانت دلالة الجاهلية في الورود الأول في النص القرآني تطال الاعتقاد، ثم جاء الورود الثاني لتطال دلالته السلوك والمظهر، أما دلالة الورود الثالث فجاءت ليطال العرف السائد، الرابع فكانت لتأكيد التشريع المحمدي المرتبط بعداء محمد لليهود والمسيحيين في المراحل اللاحقة من حياته، وهنا نقبض على شهوة الحضور لدى الفكر الديني بالسيطرة على المجتمع من كل جوانبه. ولئن عدنا إلى ما نوهنا إليه في بداية هذه الفقرة من أن لفظة الجاهلية لم يكتب لها الحضور في النص القرآني إلا في الحقبة اليثربية سوف نجد ما يبرر فرضيتنا التي تقول أن محمد-بعد أن استتب له الحضور الديني السياسي- أراد أن يجعل مما قدمه لحظة فذة في التاريخ. وهنا نجد أن إبراز ومقدمات مثل هكذا فعل عبر إظلام الفترة التي سبقته وإضفاء السلب على أغلب نواحي هذه الفترة هو ما يزيد من بريق هذا الحضور ويجعله حضوراً منيراً أي مقدساً. فمحمد لم يكن كما رأينا إلا البادئ بصناعة هذه الإيديولوجية الثيوقراطية، والتي تطورت فيما بعد على يد أتباعه.
ب- الزمان: مقدس ومدنس:
يأتي الناقد ليدرس لفظة الجاهلية، فتمنعه أغطية المقدس من الاقتراب منها. ترمى الأزمنة في غياهب المجهول. تتوج الأمكنة بمراسيم الآلهة. يذبح البدوي على نصبها شاة، فيحتفل بالدماء التي جثمت فوق المكان….وهكذا سيطوف الناس حول المكان مهللين…لأنه أصبح مقدساً. ولا يغيب عن ذهننا أن المكان كان منذ قليل مدنساً. هذا معلم من معالم صناعة المقدس. إنه بالرغم أن هذه النقطة بعيدة قليلاً عن موضوعنا، إلا أنه يمكن أن يشار بأنه ستحدث العملية نفسها بشأن الزمان. هكذا سينقسم الزمان: الزمان الجاهلي (المدنس)، الزمان الإلهي (المقدس)، زمن الإسلام. هذه العملية لا تتم في التاريخ الوقائعي فهي خاصة بـ بنية الفكر الديني، لذلك لا يعترف بها الناقد التاريخي أصلاً لكن لا بد من فهمها. إنّ هذه هي في الواقع اللبنة الأساسية في سيكولوجيا الديني، وهذه هي رحلة صناعة المقدس والإيديولوجية المقدسة.
رويداً رويداً، يتكثف المقدس، يعلو ولا يهبط، تدخل الأزمنة والأمكنة إلى حيز المافوق، يتم تغطيتها بحجابات سميكة. يخترع لها مفردات لم تُعهد من قبل (يقول السيوطي عن ابن خالويه: «إن لفظ الجاهلية اسم حدث في الإسلام للزمن الذي كان قبل البعثة» (4)). وطالما إننا نبتعد عن شيطانية اللحظة، فسستتكثف مفاهيم تلك المفردات. ستدخل المفاهيم حيز جدل المقدس والإيديولوجية.
لا يبدو الزمان بالنسبة للمتدين متجانساً ومستمراً كما يرى إلياد. لا بد أن يتخلل الزمان فترات متقطعة: إنها الفترات المقدسة. بكلمات أخرى يعاد صوغ الزمان المدنس الدنيوي بهذه الفترات المقدسة. يكفي أن نلاحظ هذا بعين دقيقة في المناسبات الزمانية المقدسة التي يتوجس فيها الإنسان الديني التُقى ويمارس أعمال الطقوس والشعائر (5) (ماذا يحدث في زمان ميلاد يسوع؟ أو يوم تجلى الرب فيه؟ أو يوم صلبه؟ أو في أيام حج العرب والإسلاميين إلى أحجار مكة؟ هذه فترات مقدسة. والأعمال فيها لها معنى وقيمة، لأنها مقدسة). ولا بد أن نعلم أن هذه البنى الميثية تتواجد في أي دين، من أكثرها بدائية موغلة في التاريخ الأسطوري إلى أشدها بروزاً. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، إذا بدا الزمان أمام الإنسان الديني، زماناً عرضياً زائلاً (لا ننسى أنه يسير وفق خطة إلهية أيضاً) مدنساً، فإنه باستطاعة المتدين أن يوقفه(6)، ولو لفترة مؤقتة. كيف؟ بإعادة تجسيد الكلي الإلهي فيه، بواسطة الطقوس الإلهية وشرائع الأسطورة. أرجو أن نضع النقطة الأخيرة في عين الاعتبار.
الآن، إن الذي حدث مع محمد وما تلاه، ليس فقط عملية استقطاع فترات من الزمان لصالح الطقوس الأسطورية (مثل الأشهر الحرم، فترات الحج..الخ. ولا بد أن نعلم أن هذه الفترات كانت متجذرة عند بدو الجزيرة العربية واستمرت داخل دين محمد)، إننا في الواقع أمام تقسيم آخر للأزمنة، أمام إعلان ضمني من التراثيين بإيقاف نهائي لزمان، والشروع بزمان آخر. الزمان الأول وُصِف بالعصر الجاهلي، بينما الثاني بالعصر الإسلامي. الزمان الأول هو الزمان المدنس، بينما الثاني هو الزمان المقدس. وبهذا ليتحول التاريخ من تاريخ واقعي إلى زمان أنتولوجي ميثي. كان العالم يقبع بالخرافة وتيه الجاهليين، وإذ بإرادة الله تتدخل على الفور، متى؟ سنة 570م. (موعد الولادة هذا من تلك السنة مقدس، يقام له الطقوس والذبائح إلى الآن). هناك رجل اسمه محمد، سيولد في هذا التاريخ: «ولد الهدى [أي محمد] فالكائنات ضياء». هذه الجملة لطالما يرددها المخيال الإسلامي الآن ابتداء من البانثيون (أو المعبد الجامع) وربما انتهاء بأرذل الأمكنة. لتكتمل مراسيم الاستلابات الإلهية بعد أربعين سنة مقدسة بتنصيبه وتتويجه سنة 610 رسولاً من عنده تعالى ومنقذاً للتاريخ من الضلال. ولا يحق للمؤرخ الحقيقي طبعاً التساؤل ما لذي جرى في هذه الأربعين سنة. هناك فقط إرادة الله التي تدخلت لإصلاح الوضع، أي جهل الجاهلية، تحولت هذه الكائنات من عمل شيطاني إلى عمل إلهي مضاء.
هذه النقطة تعتبر أساسية في سيكولوجيا المتدين بشكل عام (يمكن أن نلاحظها عند أي قائد ديني). وهي أول خطوة في عملية بناء الإيديولوجية المقدسة بشأن تقسيم الزمان؛ والتي سيترتب عليها تالياً في السياق الإسلامي عملية فرز لأناس ينتمون إلى الزمان الجاهلي (= الكفر)، وآخرون إلى الزمان الإسلامي المقدس (= الإيمان).
الملاحظة الأشد بروزاً أن هذا الوعي لدى محمد، كان مفتقداً له في مكة، ولم يظهر إلا في يثرب مدينة السياسة، حينما بدأ بمخالطة يهود يثرب من جهة، وحينما نمى لديه شهوة الحضور الثيوقراطي والسيطرة على مقاليد يثرب. هذا هو السبب لاختفاء كلمة الجاهلية من النصوص المكية. فإذا كانت ثنائية المقدس والمدنس حاضرة بشكل قوي في بنية الوعي الديني بشكل عام، فإنها أيضاً كانت حاضرة داخل سيكولوجيا محمد، إلا أنها جُبلت بتطلعات الإيديولوجية السياسية. هكذا سنقرأ لمحمد أواخر حياته في آخر سورة ( ترتيبها 114كرونولوجياً)، باتهام المسيحيين واليهود:
«أفحكم الجاهلية يبغون..» (؟) [المائدة: 50].
الهوامش:
(1) العسكري: "الأوائل"، دار البشير للثقافة والعلوم الإسلامية، ط1، سنة 1987، ص65.
(2) "al-ûlâ may as well be understood as “first” in the general sense of “from early times,” as is often the case in the Quran. This seems to be the more likely interpretation. It would de_ne al jâhilîyah al-ûlâ rather noncommittally as “previous jâhilîyah” (where jâhilîyah could be “ignorant persons”). It suggests, however, the placing of al-jâhilîyah into a more remote past than is required by the context of the other three passages", Franz Rosenthal, Knowledge Triumphant, The Concept Of Knowledge In Medieval Islam, Brill, Leiden ,Boston 2007. P34.
(3) ثيودور نولدكه: "تاريخ القرآن"، تعديل فريدريك شفالي، نقله للعربية جورج تامر بالتعاون مع مؤسسة كونراد – أدناور ط1 2004، ص194.
(4) الألوسي: "بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب"، تحقيق محمد بهجت الأثيري، دار الكتب العلمية، ط1، 2009 . ج1، ص14. وانظر: أحمد أمين: "فجر الإسلام"، دار الكتاب العربي- بيروت، ط10، سنة 1969 ص53.
(5) إن الطقوس الدينية في أي زمان هي إعادة خلق للزمان الأسطوري. إنها في الواقع عملية إعادة خلق وموضعة للقدسي. وغالباً ما تتم هذه الموضعة بشكل دوري- سنوي. انظر:
Mircea Eliade, "The Sacred And The Profane", The Nature Of Religion. Translated From The French By Willard R. Trask. A Harvest Book Harcourt, Brace & World, Inc. New York. 68.
(6) Ibid.71-72.
عن موقع الأوان
08-أيار-2021
21-كانون الأول-2019 | |
02-أيلول-2017 | |
08-نيسان-2017 | |
27-آب-2016 | |
15-كانون الثاني-2015 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |