Alef Logo
ضفـاف
              

يوميات امرأة مشعة "بألم" : نعمات البحيرى

ألف

خاص ألف

2011-03-08

وصلتنا رسالة بهذه المقتطفات من السيدة نعمات البحيري و هي تعاني من ألم العلاج الكيميائي. و ننشرها اليوم بعد رحيلها كتحية لروحها المقاتلة و لكن الوديعة. و في نفس الوقت ندعو المختصين إلى إنشاء موقع باسمها يضم أعمالها الكاملة. لروحها المغفرة و لأصدقائها و محبيها السلوان....


ألف


*يوميات امرأة مشعة


إلى كل الذين امتدت أياديهم البيضاء لنجدتى من بين مخالب الوحش.....ليته لا يعود..
أحبائى وأصدقائى رفقاء الحلم والهم الواحد - نعمات البحيري
لكافكا مقولة شهيرة لا أنساها :
« ينبغي عدم السخرية من البطل وهو يترنح على خشبة المسرح بعد أن أصيب بجرح قاتل. إننا نمضي سنوات من حياتنا ونحن نرقص من الألم».
ولمحمود درويش كلمة..
في كل كتابة ابداعية نصر صغير على الموت، وهزيمة صغرى أمام إغواء الحياة التي تقول للشاعر: هذا لا يكفي، فما زالت القصيدة ناقصة! ..مثل هذا المحارب لا تليق به السكينة.

• أمــــى...


سأثبت لها الليلة أننى كنت أنام ملء جفونى طوال العشرين عاما الماضية، على الرغم من أنها تعلم علم اليقين أن المرتبة الأولى قصيرة والمرتبة الثانية أقصر والفارق بينهما وبين الجدار ملأته بالخيال.
حدث هذا حين اشتريت لنفسى سريرا يقترب من الأرض لتفادى الوقوع من الأحلام، ولم يكن معى ما يكفى لشراء مرتبة باتساع السرير فأعارتنى أمى مرتبة قطن تصلح لسرير صغير، وأعارتنى ابنة خالتى مرتبة أخرى لسرير أصغر والفارق بين المرتبتين والجدار ملأته بكتب مملة ورتيبة للكتاب الرسميين فى العالم كله..كانت تأتينى هدايا من السفارات والملحقات والمراكز الثقافية وكذلك سددت الفارق بين المرتبتين والجدار بقرارات الجزاءات والحرمان وقرارات النقل من جراء التمرد على مستنقع الوظيفة المملة وكذلك قرارات الفصل والأجازات بدون أجر للولادة أو للسفر إلى بلاد النفط والذين خرجوا على المعاش أومن آصيبوا بعاهات والذين ماتوا أو فقدوا أو جنوا أو اكتأبوا أثناء الوظيفة. ملأتها أيضا برزم التذاكر الطبية للموظفين والموظفات خلال غزو أمراض مثل السكر والضغط والسرطان وأمراض الكبد والفشل الكلوى وغيرها انتشرت بشكل مبالغ فيه فى الفترة الأخيرة...
كم الاشعات الذى تعاطيته حتى الآن يجعلنى امرأة مشعة تماما.. وللآن لا أدرى مقدار الخطورة التى قد أصيب بها الآخرين..
ترى هل كان النوم يأتينى حقا، أم أنه شخير أمى فى الغرفة المجاورة، .. لذا قررت الانتقام منها ـ حبا ـ فى كتابة رواية عن الربع الناقص بين المرتبتين والجدار الذى ملأته بحكايات فى حضرة سيدنا الألم مع أصدقائى وأحبائى وزملائى وكل الذين عرفتهم تحت ضوء خاص يوم زلزال أكتوبر2004 ، ربما يمكننى أن أنام وأحلم جيدا وأتفادى الوقوع من الأحلام مرة ثانية...
• تدخل فني

بدت هالة البدرى منزعجة لما تدركه من نظرات الجراح الذى راح يفتش فى ملامحهما هى وسهام بيومى عن جملة مناسبة يفصح بها عن حقيقة الموقف بأدنى خسارة .. هكذا أدركت كنه المسألة بحواس خفية غامضة هى دائما بوصلتى الصادقة الصدوق ناحية الأشياء والمواقف والبشر وأنا أتذكر قول "برنارد شو" عن الجراحين "أنهم ....جزارون مهذبون"..
أخذت هالة وسهام الطبيب على جانب.. وسرى فى نفسى نزوع غريب مثل صقر يحافظ على حقه فى الطيران ولو للدقائق الأخيرة من عمره.
انقضضت على الجراح بأسئلة بعد أن أفصحت له أننى امرأة مؤمنة وأؤمن جيدا بالقدر، فضلا عن أن لى محاولات غير بائسة فى كتابة الدراما وأفهم على نحو ما دراما الحياة..

نظرالجراح لهالة وسهام ثم لى وقد بدا أنه وقع بين مخالب قطة شرسة فراح يتحدث بشروط السوق ولغته السائدة:
ـ من الآخر ؟..
ـ من الآخر ..
نظر طويلا ثم قال كل شيء.
أخبرنى أنه سوف يضخم من حجم المسألة ليحمس المسئولين فى عملى على الاسراع لتقديم تسهيلات سريعة بغية إجراء تحاليل وفحوصات لازمة.. أعرف انه لم يضخم من الكارثة وأن حجمها الكامن يفصح عن نفسه.. أدرك أن ما كتبه الجراح على الورق هو الحقيقة غير زائدة..
خفضت كل من هالة البدرى وسهام بيومى رأسيهما وصمتتا فقلت لهما
ـ هيا نبدأ الرحلة فلست خائفة..
لم يكن هذا صحيحا على الاطلاق ..
كتب الطبيب قائمة طويلة استوعبت ورقتين من دفتره الهزيل ..تحاليل وآشعات كان لابد أن تمر بدرجات متفاوتة من بيروقراطية الجهاز الادارى الذى التصق مثل السرطان بكل المستشفيات والمؤسسات العلاجية.
المستشفى صرح فخيم عظيم يذكرك بالمولات الكبيرة التى انتشرت هذه الأيام.. متاهة كبيرة تشبه بيت جحا لكن بشروط العصر، الأبنية أشبه بتصميمات المركبات الفضائية،أتنقل فى طرقاتها وممراتها وتساندنى هالة البدرى وسهام بيومى، لجمع كم هائل من التوقيعات على استمارات التحاليل والآشعات قبل بداية الرحلة الصعبة.
ثم بدأت الرحلة ربما الأصعب من الجراحة ذاتها بتحليل الدم بكل أنواعه.. صورة دم كاملة ..وظائف كلى .. وظائف كبد وآشعات على الصدر والبطن والحوض ومسح ذرى على العظام خشية أن يكون المرض قد أرسل بعض رسائله الحميمة هنا أو هناك. كذلك رسم القلب وموجات صوتية وفوق صوتية والرنين المغناطيسى على الجسد كله..
بدوت لنفسى وكأننى فى حالة تأهيل جسدى ونفسى لامتطاء مركبة فضائية .
بعض الآشعات أشبه بآلات التعذيب فى معسكرات النازية، يدرك المريض أنها فقط من أجل تدمير جهازه السمعى والعصبى. كنت أدرك على نحو وآخر أن ثمة قوى غبية ترغب فى تدمير كائن رقيق.. مرهف الحس.. فليس هذا زمن الحساسين..
ومع مرارة الرحلة التى بدت كمسيرة متهم أخذوه "كعب دائر".. يلفون به على جهات أمنية عديدة للتأكد من أنه ليس مطلوبا على ذمة قضايا أخرى، كان لابد من التأكد من براءة بقية أعضاء جسمى من نفس المرض أو أية أمراض أخرى.
فى حجرة واسعة وباردة للغاية، بدا انتظار الدور المقدس الذى سيحسم البراءة من الإدانة، أحد الضروريات التى أرست قواعدها المستشفى الضخم. فليس هناك فروقا طبقية أو اجتماعية أو ثقافية بين المرضى. أو ربما هذا ما يبدو على السطح ..يحدد الدور بأسبقية الحضور ولا يمكن تجاوز المسألة تحت وهم الاحساس بأننى كاتبة أو أننى أعد سلفا من النخبة..
ابتسمت وطفر سؤال خبيث بمثل خبث الورم ..من يجزم أنه حتى داخل النخبة والصفوة ليست هناك طبقات. كما أن ديمقراطية المرض وهم كبير. كل أنواع المرض تنحاز للأغنياء فتتجنبهم وتتحاشاهم.
تعاملت هالة البدرى مع المسألة بإنسانية شديدة وأنا مستلقية بعينين غائمتى الرؤية فى قاعة الانتظار، والتليفزيون حليف متواطئ مع كل أشكال القرف. تنبهت إلى وجه جميل يشبه على نحو ما وجه أمى التى أخفيت عنها المسألة برمتها، خوفا عليها من فزع لا تستطيع إزاءه إلا الانهيار، يدعمه ما ترسب فى الوعى الشعبى عن هذا المرض تحديدا. مازال هناك من يدعوه بالخبيث وهناك من يقول "المرض الوحش"، أو "اللى ما يتسماش" وكأن مجرد ذكر اسمه يستعدى ـ حتما ـ شراسته.
كانت المرأة ترافق ابنتها الجميلة بنت السابعة عشرة والتى داهمتها سيارة ونتج عنها كيس ماء فوق الظهر.. أتت لعمل اشعة رنين مغناطيسى. الأم فلاحة مصرية تشم فى ثيابها رائحة طين الأرض، وبقايا ماجور العجين وعشة دجاج فوق سطح الدار المسقف بأقراص "الجلة" اليابسة.
جاءت تشكو لهالة البدرى بصوت متهشم..
ـ تتصورى يا بنتى الشاى بجنيه .. الله لا يكسبهم ولا يربحهم..
هالة الدافئة جدا أعطت المرأة نقودا، فتمنعت لكنها سرعان ما ذابت فى حنان هالة ..
سألتنى وأنا ما زلت أستجدى قدرا من الراحة على مقعدين متلاصقين،وكنا من طلعة النهار نمر على الأقسام لندمغ الأوراق ونأخذ أسعار كل تحليل أو اشعة لتضمن المستشفى أن ثمة غطاءً ماديا لكل هذا.
ـ تشربى شاى؟
ـ يا ريت..
منحت هالة المرأة جنيهين آخرين ..
بلعت المرأة ريقها ونظرت إلىّ بحنان بالغ وقالت..
ـ.. انشاء الله سليمة.
لا أدرى ما الذى جعلنى أتشبث بكلمات ونظرات المرأة ..سارت خطوات وغابت ثم جاءت ترثى لعاملة البوفية الباكية والرهيفة مثل قلب الخسة والتى خصم لها صاحب البوفيه ثلاثين جنيها, سيعدها عجزا فى نهاية اليوم....
ـ يا حبة عين أمها .. بت زى البدر .. اللى يدهولها باليمين ياخده بالشمال..
رفضت هالة أن تستعيد النقود، فجاءت لى بالجنيهات الأربع فى يدها.. طمأنتها عيناى فى حلة تسول ابتسامة أمى الغائبة الحاضرة فى عيون وصوت المرأة.
مللت الانتظار وعيونى ـ كلما راحت أو أتت ـ ترتطم بمريض فى أقصى درجات المرض أو أدناها، وبين الاثنتين مساحات متراوحة من الهزيمة والانسحاب والتراجع والوهن. شعرت بكثير من السأم والضجر فأخبرت هالة بأننى سأحضر شيئا من السيارة.
نزلت وسرت فى ردهات مركز الأورام متجاهلة أننى أنا "نعمات البحيرى" بلحمها ودمها، زاعمة لنفسى أننى شخص آخر خارج دائرة الورم والخبث، يرى الأطفال المرضى بوجوههم "المحمرة احمرارا مصفرا ، ورؤوسهم الخالية من الشعر من آثار العلاج الكيماوى.
كنت أراهم مثل كائنات قادمة من عالم آخر. حتى الممرضات جامدات الوجوه، قصيرات، صغيرات الحجم بعيون مصمتة . بدون لى مثل أورام صغيرة تسير على الأرض..
كنت أرغب فى تجاوزأشباح المرض فى زوايا وأركان المركز. على الأرض والمقاعد وفى الحدائق التى انتشرت فى شكل جمالى حول المركز.
بدا الإسفلت ينزل ويصعد وينحنى وينحدر ويطول ويقصر وساقاى على الأرض شديدتا النحول.. كنت قد ركنت سيارتى الصغيرة فى "باركينج" المستشفى منذ الصباح الباكر.. سيارة صغيرة بيضاء ، أسميتها "فلة بنت خوخة اللى جت بعد دوخة" اشتريتها وأنا أنحت فى صخر عنيد لتحسين شروط الحياة، فى واقع لا يقل خبثا وشراسة عن المرض. وما أن بدأت أجنى ثمار كدى وتعبى حتى فاجأنى المرض..

أحاول أن أمتص خبرة الألم من عيون المرضى وذويهم وأطياف الخوف والفزع، رافضة تسول الشفقة والتعاطف، تلك التى تصلنى كمشاعر من بلاستيك لا حرارة فيها، يمارسها الناس على بعضهم فى مثل هذه المواقف مثل جمل اعتراضية، تقال على مضض ثم يواصلون الحياة البليدة الجافة..والأيام مثل حبات رماد، تفركها بأصابعك لتطير فى أعقاب أزمة مثل هذه...
فتحت السيارة وجلست قليلا إلى "فلة" وحضنت عجلة القيادة وقبلت التابلوه وقلت لها..
ـ خلى بالك منى يا فلة..
كان لسان حالها الصامت ..يقول
ـ.. أكيد حنعديها.. ياما عدينا أزمات مع بعض..
وكان لسان حالى يجزم لها بأننى لست امرأة ترى أن كل دورها فى الحياة يختزل فى "قطعة لحم" يلتهمها الرجل، حتى أعيد انتاج الغضب على أنوثة منقوصة لحساب واقع غبى وشرس لم يغفر لى أننى امرأة موهوبة حتى النخاع.
جاءت شوقية الكردى وصديقتها السورية وجلسنا على النجيل نتحدث فى السياسة والفن والأدب وضحكات شوقية تملأ سماء المستشفى.
ـ والله ح تبقى كويس يا جميل....
ابتسامات شوقية وكلماتها تحرك فى نفسى بقايا أمل. غير أمل صاحبتها التى بدت بيضاء ونحيلة ونظراتها محشوة بانكسارات ومكسرات عمرها وأحلامها..
كيس الجوافة الذى اشترته سهام بيومى أمس.نسيته فى السيارة . منحت البنت وأمها شيئا منه... وجهها الجميل وعيناها الصافيتان ترسم فى الأفق وجه أمى التى أشعر تجاهها بالذنب لأننى لم أخبرها حتى الآن..
دلتنى المرأة على الطريق.. بدا أن لها باعا طويلا مع الألم.. حكت لى الحكاية كاملة وهى تقول وكأنها تقدم اعتذارا..
ـ أصل أنا م الفلاحين ..
علمت أنها من قرية فى أعماق القناطر فضحكت وقلت لها..
ـ أنا من شبين القناطر.. من تل التمايمة....
ظلت تطيب خاطرى طول الوقت وتنتظرنى على كل باب وكأنها نسيت أن لها بنتا تدعى "أزهار" تنتظرها.. هى الأخرى تنتظر دورها مع الحضور الغفير أمام قسم آشعة الرنين المغناطيسى..

بدا المنتظرون يتابعون جهاز التليفزيون الذى بدا مثل آلة تخدير تسرق العيون والعقول والوقت والتركيز على الألم والمرض وتمنح الصبر والخدر وطول البال ..
بالصدفة المحضة كان اليوم الخامس من أكتوبر والتليفزيون يبث أفلاما وبرامج تتحدث عن النصر المبين ووجوه المسئولين يراوغون الألم والأمل فى عيون المرضى وذويهم وهم يتحدثون فى جرأة وثقة..
قلت لهالة البدرى..
ـ بحب مسئولين الحكومة.. دمهم زى الشربات.
يطالعون الناس فى مثل هذه المناسبات بوجوه ذات ملامح حادة وعيون متقدة بالكذب، يتحدثون عن النصر والأمل بأصوات جهورة.. أو عن أمجاد غابرة ويوهمون الناس بأنها مازالت قائمة..
ابتسمت هالة وقالت ..
ـ انت مجرمة..
ابتسمت ومددت ساقىّ أريحهما من تعب اليوم واللف على أقسام التحليل والآشعات لابراء ذمة الجسد..
فجأة وبدون مقدمات سألتنى هالة..
ـ أخبار سليم إيه؟
ـ ولا أعرف أى اخبار من 18سنة..
ـ معقولة..
ـ ويعنى إيه المعقول فى كل اللى حصلهم واللى بيحصلنا وبيحصلى.
ـ انت لسة بتحبيه.. بدليل انك ما تجوزتيش من بعده.. وكمان عمرى ماسمعتك بتتكلمى عنه بشكل سىء..
ـ مش مسألة حب.. لكنه شئت أم أبيت هو جزء من تاريخى..
صمتت هالة فى أعقاب مناداة الممرضة على أحد الأسماء وتحرك صاحب الاسم على كرسى متحرك متوجها ناحية غرفة الرنين المعناطيسى..
عدد شكات إبر التحاليل ووجوه الممرضات ورجال الأمن الجالسين ينظمون دخول المرضى حفرت فى مخيلتى حفرة عميقة.... حتى وجه فتاة رسم القلب غير المحجبة وأنا أسألها ..
ـ انت مسيحية..؟
ـ لأ..
ـ أمال موش محجبة ليه زى الباقى..
ابتسمت ولم ترد.. ربما خشيت أن يكون " كلام فى السياسة.."
سألتها وهى تدهن منطقة الصدر والقلب بمادة تشبه "الجيل" ثم تثبت دوائر معدنية صغيرة موصولة بأسلاك تمتد إلى جهاز مريع ..
ـ وحياتك تشوفى قلبى سعة كام راجل..
قالت هالة وهى تضحك...
ـ ولا راجل..انت شريرة..
قالت الممرضة وهى تكتم ضحكاتها..
ـ لو سمحتى ..اسكتى عشان الجهاز اشتغل..
كنت قد اكتشفت مبكرا أن قلوب النساء ليست حكرا مباحا للرجال, لكن حب الحياة والكتابة أجمل كثيرا مما جعلنى أنكر كل الرجال وأثق فقط فى ضرورة تحققى كإنسانة وككاتبة. وكما يقول سعدى يوسف "أن تكونَ فناناً يعني أن تكون مسؤولاً ، بذاتكَ أوّلاً ، عن تناولِ الحياةِ كما تُـتناوَلُ فاكهةً ذاتَ مذاقٍ ".
شغل هذا حيزا كبيرا من حياتى، ولم يكن هناك متسعا لأى رجل فى غير حدود الصداقة والود البسيط.
بعد انفصالى عن سليم خشيت أن يدخل حياتى رجل تدهشنى معه البدايات البراقة والأغنيات والأحلام والأوهام كما حدث من قبل، ثم أكتشف عند أول محك أنه جامد أو ضعيف أو خامل أو "سى السيد" مثل أبى فأفر وأجرى ربما لآخر الدنيا.
جنبتنى آشعتى التى تخترق عقول البشر مغبة الدخول فى تجارب عديدة تستهلك طاقتى الإبداعية وتحولنى إلى امرأة "مخرمة" من كل جانب مثل منخل..هشمتها التجارب القاسية بحثا عن وهم اسمه الحب..
انتهت الممرضة من عمل رسم القلب، ووضعت التقرير فى ظرف من الورق المقوى الشاحب وأعطته لهالة..أخذته منها وفتحته ونظرت فيه.. مجرد منحنيات صاعدة وهابطة لا تفصح عن شىء ..لكنه يعنى الكثير لأهل الخبرة.
قابلتنى "نانسى"جارتى الفلسطينية .. تقول عنها الجارات "مقضياها عرفى" تخرج من زيجة إلى ثانية ومنها إلى أخرى وهكذا استهلكت عددا لا بأس به من الرجال. كنت اتعاطف مع فرط إحساسها بالغربة لكننى اكتشفت أن أغلب الجيران يكرهونها، ربما لأنها صارت تتدخل حتى فى الشجرة التى يزرعونها أمام بيوتهم، وهى تزعم أنها زوجة لمسئول أمنى كبير..
حدثتنى أكثر من مرة عن حكاية المسئول الأمنى وأنها تستخدم اسمه فى ردهات وغرف وطرقات الأجهزة الرسمية التى تتردد عليها، فتلبى احتياجاتها فى التو واللحظة. أخبرتنى فى البداية أنها كانت تعمل فى الامم المتحدة ولديها خبرة فى الزراعة والثقافة الغذائية. جذبتنى مرة لتناول فنجان قهوة فى بيتها القريب من بيتى وفتنتنى طريقتها فى تنسيق بيتها الذى بدا مثل متحف لا يلمس مقتنياته بشر.
هى الآن زوجة لطبيب عربى يتاجر فى الأدوية والآلات الطبية والسلاح والأعشاب الطبية ويأتيها مرة كل شهر ليستقر معها عدة أيام، تلبس البيجاما الحرير الفوشيا وهو يلبس الروب دى شامبر الازرق ويعيشا أحلى حياة، ربما لا تتحقق لزوجته أم أولاده. هكذا أفضت لى من أول لقاء..
تركتها تحكى وأنا مبهورة بذلك الوهج الذى يتدفق من نظرات عينيها.. وفيما بعد عرفت من الجارات أن مسألة الزواج العرفى هذه تتكرر كثيرا. بعدها رأيت بنفسى أن الرجال يتغيرون والروب دى شامبر ثابت لا يتغير .. وكذلك البيجامة الحرير الفوشيا .. كنت أراها مع الواحد منهم فى الشرفة يتناولان الافطار ولا تنسى أن تلقى بنظراتها وصرخاتها لعدد من أطفال العمارات المجاورة جاءوا ليلعبوا فى الحديقة.
شكت لى أكثر من مرة من بائع الجرائد القصير النحيل مثل قرد، أنه يصر أن يدخل بالعجلة بين الممرات الضيقة للحديقة. كثيرا ما كنت استيقظ على شجارها معه وهو لا يتوانى عن مقابلتها سباب بآخر ،مبديا كراهيته لبلدها ومن يأتى منها...
الممر الطويل مزدحم بأهل المرضى أمام ماكينة التصوير وهالة غطست بينهم لتصور خطاب العملية الجراحية... ووجه جارتى الجميلة يبحث فى اليافطات المعلقة هنا وهناك ..ثم رأيتها بعد قليل تتزعم مظاهرة من مرضى السرطان الفلسطينيين أمام باب مدير المستشفى..






تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

نقد كتاب إشكالية تطور مفهوم التعاون الدولي

31-كانون الأول-2021

نيوتون/جانيت ونترسون ترجمة:

22-أيار-2021

الـمُـغـفّـلــة – أنطون بافلوفتش تشيخوف‎

15-أيار-2021

قراءة نقدية في أشعار محمد الماغوط / صلاح فضل

15-أيار-2021

ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين

01-أيار-2021

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow