الديكتاتور العربي أمام قبوره: المواطنات والمواطنون / تيما رضا
2011-03-08
اثنان وستون مفتاحاً، تحمل اربعة وثلاثين حرفاً باللغة العربية وستة وعشرين باللغة الاجنبية، إضافة إلى عشرة ارقام، وأوامر معينة كعلامات الوقف وغيرها. مفاتيح تقل أو تزيد وفق العلامات المحفورة أو المطبوعة عليها بحسب اللغات التي يحتويها الجهاز. مفاتيح تترجم أفكار الشبان والشابات، وتلطخ الصفحات البيضاء بلون اسود، وتتنازل عن دورها في التعبير عن الحزن والكرب، لصالح الكلمة الحرة. هي مفاتيح "الكيبورد"، وقد استمدت شرارتها الأولى من النار التي التهمت جسد الشاب التونسي محمد البوعزيزي، ولا تزال متقدة من بلد عربي إلى آخر، كأنها شعلة أولمبياد العالم العربي، التي يجب أن تبقى مضاءة إلى سقوط آخر ديكتاتورية عربية.
عبر الشبكة العنكبوتية تداعى الشباب التونسيون لإسقاط نظام أحرق البوعزيزي، وفي صمودهم في الشارع وعبر نشرهم تفاصيل تحركاتهم وما يتعرضون له عبر الـ"فايسبوك" والـ"تويتر" والـ"يوتيوب" والمدوّنات وغيرها من المواقع الاجتماعية، صنعوا "ثورة الياسمين" التي يفضّل الثوار التونسيون تسميتها "ثورة الكرامة"، وأطاحت نظام زين العابدين بن علي ومن بعده حكومة محمد الغنوشي.
محطة الشعلة التالية كانت مصر، عندما قررت مجموعة من الشباب في مقدمهم المدير التسويقي لـ"غوغل" الشرق الاوسط، وائل غنيم، الانتصار للشاب خالد سعيد الذي ضربه جهاز الأمن المركزي حتى الموت، لأنه صوّرهم وهم يرتكبون أعمال الفساد. من هذه الحادثة انطلقت صفحة "كلنا خالد سعيد" كمدوّنة ومجموعة على الـ"فايسبوك"، ما لبث أن انضم إليها عشرات الآلاف من المؤيدين المصريين والعرب، ليكملوا المسيرة بعد اعتقال وائل غنيم في السابع والعشرين من كانون الثاني، أي بعد يومين على اندلاع الثورة. مرة أخرى، نجح جيل الانترنت، في كتابة السطور الاولى في التاريخ الحديث لبلاد النيل.
في السابع عشر من شباط، أي بعد ايام على اطاحة نظام حسني مبارك، ومن الـ"فايسبوك" أيضاً، انطلقت الثورة في ليبيا. وإذا كان الشبان الليبيون لم يستطيعوا رفد الشبكة العنكبوتية بالكم الكبير من الاخبار كما حصل في ثورة مصر، إلاّ أن أخبار الثورة الليبية لم تهدأ، إذ انتقلت الصفحات إلى لعب دور "المراسل" الصحافي من ليبيا في عملية رصد لكل خبر، ليكشف جيل الانترنت انه يصنع صحافته في مواجهة الاعلام الرسمي والتقليدي، موظفاً إياها لتحقيق حلم المجتمع المدني في الحصول على وسيلة اتصال ومشاركة.
أثبت الشبّان العرب أنهم ليسوا مجرد عدد بين مستخدمي الانترنت الذين يناهزون خُمس سكان العالم، إذ استطاعوا أن يستخدموا هذه التقنية المتاحة للثورة على القيود التي تحد من قدراتهم. وتبدو الثورات المتنقلة في العالم العربي، المحرك الأكبر لكثير من مرتادي المواقع الاجتماعية على الشبكة العنكوبية.
الـ"فايسبوكيون" اللبنانيون
الـ"فايسبوكيون" اللبنانيون انخرطوا بدورهم في الخضم الثوري، دعماً للثائرين في أنحاء العالم العربي، كتابةً وتوجيهات وتنظيراً، انطلاقاً من خبرة اللبنانيين في ممارسة الديموقراطية. من جهتهم يعرب الــ"فايسبوكيون" العرب عن امتنانهم لداعميهم، معبّرين عن إعجابهم بلبنان وشعبه، من دون اخفاء قلقهم على وضعه السياسي. منذ انطلاقتها لعبت الثورات في العالم العربي دور المستقطب الأول لمعظم مرتادي المواقع الاجتماعية، وظهرت نقاط إجماع متعددة في ما بينهم حول نصرة الشعوب المقهورة، وحقها في العيش الكريم، ومكافحة الفساد.
إجماع تخلله بعض الزعزعة، وخصوصاً عندما بدأ بعض الشبان بدعوة الشعب السوري إلى تلقف الشعلة والمطالبة بالتغيير، فعاد البعض إلى وراء "متراسه"، متربصاً بأي تعليق يشكل خطراً على موقفه الداعم للنظام السوري، في وقت عبّر البعض الآخر عن دعمه لحركات التحرر في كل مكان في العالم. ومن دون أدنى شك استطاعت الثورات العربية، إخراج اللبناني من صومعته إلى فضاء أوسع. بالتزامن مع مناصرة الـ"فايسبوكيين" اللبنانيين للشعوب العربية وتناقلهم نكات وعبارات استنكار لما يحصل في ليبيا واليمن وعمان والبحرين والعراق، أخذت أصوات شبان لبنانيين، تنادي بالتشبه بهذه الشعوب، والثورة على الفساد والوضع الاقتصادي المرير، وخصوصاً النظام الطائفي الذي يجّذر الواقع السيئ للغالبية الساحقة من الشعب.
مناداة، ما لبثت أن تحولت صفحات ومجموعات على الـ"فايسبوك"، منها "معنى"، "نعم نستطيع"، "معاً لاسقاط النظام الطائفي"، و"الشعب اللبناني يريد اسقاط النظام الطائفي". غالبية هذه المجموعات عرّفت عن نفسها بأنها غير حزبية، هدفها الاساسي النهوض بالوطن والمجتمع بعيداً من طاغوت الطائفية، كما دعا بعضها الآخر إلى حوار فعلي، بعيداً من التجاذبات السياسية، ومنها من أدخل موقفه السياسي من الامور المفصلية في لبنان، كالسلاح وشرعيته، والمحكمة الدولية وهدفها الاساسي العدالة أو الاقتصاص من المجرمين.
الشعب يريد إسقاط النظام… في بيروت
على رغم الاختلافات اللبنانية، نجح البعض في خرق الجدار الطائفي في لبنان تلبية لدعوة شبان على موقع الـ"فايسبوك". وعلى وقع شعار "ثورة ثورة وين ما كان هلّق دورك يا لبنان"، لحق مئات اللبنانيين بركب حركات الاحتجاج التي يشهدها العالم العربي، مردّدين "الشعب يريد اسقاط النظام" الذي اطلقه المتظاهرون في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن، وساروا في شوارع بيروت تحت المطر من كنيسة مار مخايل - الشياح إلى قصر العدل، لما تحمله منطقة خط التماس، من رمزية لما انتجته الطائفية في الحرب الاهلية في لبنان. الخط الذي سلكه هؤلاء، كان المفجّر الاول للاعتراض، فبرزت على الصفحات الداعية إلى التحرك عبارات تشبه ما كتبه جمال: "إنو اسقاط النظام الطائفي واصلاح التعليم و… كلن ما بيظبطوا الا من قدام كنيسة مار مخايل وعلى مفرق الشياح؟ مين هوّي الجهبذ اللي ناوي يفتعل بوسطة جديدة هالمرة؟ فكرة مين كانت وهل صحيح انه نفس الذي دعا للتحرك في سوريا في الخامس من شباط؟ وهل صحيح أن بعض المشاركين من مجموعات معينة ينوون اطلاق شعارات تدعو لنزع سلاح المقاومة؟". فجاء الرد من خالد: "والله العظيم شي غريب، اذا مشينا من كنيسة مار مخايل منكون ضد المقاومة، واذا مشينا من قريطم منكون ضد المحكمة". سارع ميثم إلى القول: "لا 14 ولا 8 نحنا الشعب اللبناني. نزلنا لنقول ثورة ضد الطائفية وثورة ضد الرجعية. شبعنا حروب اهلية. وقرفنا من زعما الطائفية والمحسوبية ونريد اسقاط النظام الطائفي. ونقطة ع السطر انتهى البيان". كلام لم يستسغه محمد الذي عاجله بالرد: "وله بلا هبل. ثورة مين وعمين ولشو. الشعب اللبناني لازم يعمل ثورة عحالو. شعب مفذلك. منفصم الشخصية. شعب مفكر حالو شي مهم… ونصّو ضايع بين "المنار" والـ "ام تي في". بين نسر العرب وطير الفينيق. وهوّي شو قال همزة الوصل بين الشرق والغرب. همزة وين؟ عالسطر أو عالألف أو عالواو؟ ما حدا فهمان شو العلمانية. ما حدا فهمان شو الوطن. أحلى زبون الزبون الخليجي. وأحسن جامعة الجامعة الأميركية. والفيليبينية أشطر من السري لانكية".
هذا النقاش غيض من فيض ما كُتب على صفحات الـ"فايسبوك"، ولم ينته بانتهاء التحرك الذي وُصف بـ"الناجح"، إذ استمر النقاش حول ضرورة اتخاذ موقف صريح من الامور الخلافية الجوهرية كـ"السلاح الميليشيوي الذي يستعمل في الداخل"، ومن القضايا المطلبية والاقتصادية، ما يعطيه التحرك طابعاً يسارياً.
مع محاولة الشباب لبننة الثورات، برز تمايز كبير مع ثورتي مصر وتونس، وليبيا من دون شك، فمن ابرز ما يميز "ثورة الياسمين" ومن بعدها "ثورة 25 يناير" انهما ثورتان شبابيتان بامتياز، لم تتدخل فيهما أي سياسات داخلية أو خارجية. وإذا كان المشهد السياسي في تونس غير مكشوف بقدر المصري بالنسبة الى الشارع العربي، فإنه لا يوجد عربي لا يعرف مدى قوة "الاخوان المسلمين" في مصر، ومع ذلك فإن هذه الطرف السياسي انكفأ مع وجود الشباب في الشارع. انحسر صوت "الإخوان" خفيضاً مع ارتفاع صوت الشباب الداعي الى التغيير، الذي لم يترك فرصة إلاّ وأكد رفضه للتدخلات الداخلية والخارجية، متمسكاً بمطالبه التي تكمن زبدتها في ما بعد اسقاط النظام: تعديل الدستور ووضع اسس لنظام ديموقراطي ينسحب على مؤسسات الدولة كافة. بدا التمايز واضحاً في صفوف الشباب اللبناني، الذي يلعب قسم كبير منه دور المردد الببغائي لشعارات زعمائه. وفي حين غاب أي تعليق رسمي على التظاهرة التي جابت الشوارع من دون أي إشكال مع القوى الامنية، إلاّ من وزير الداخلية في حكومة تصريف الاعمال زياد بارود الذي عبّر عن تقديره لهؤلاء الشباب: "كنت لأكون بينهم لو لم أكن في موقع رسمي"، فقد لعب الاصطفاف الطائفي المتجذر دور "البلطجي" المعنوي، في محاولات للتأثير على التحرك قبل قيامه، والتقليل من أهميته بعد حدوثه.
وإذا كان النظام الديموقراطي في لبنان، يسمح بحق التعبير والتجمع، فإن الجانب الطائفي بدا أكثر تأثيراً وخصوصاً في الاعلام اللبناني. وإن تعاملت غالبية المواقع الالكترونية مع الخبر بطريقة عابرة، برز موقف تلفزيون "المستقبل"، حيث تحدّث أحد "قياديي" تيار المستقبل باسم التحرّك وباسم المشاركين فيه، وهذا ما دفع بـ"المواطنين والمواطنات" كما اختاروا لأنفسهم تسميةً، إلى إصدار بيان توضيحي وتوزيعه على صفحات الـ"فايسبوك": "نوّد التوضيح والتأكيد أننا المواطنون والمواطنات والمجموعات الشبابية والطالبية والمستقلون والمستقلات الذين واللواتي نظّموا ونظّمن هذا التحرّك - نؤكد ونكرر مجدداً إننا لا ننتمي لا لقوى 14 آذار ولا لقوى 8 آذار أو لأي اصطفاف طائفي، وكل محاولة من أي حزب أو تنظيم سياسي لتجيير هذا التحرّك أو استخدامه من أجل مآرب طائفية وسياسية ضيّقة، مرفوضة ومستهجنة، وخصوصاً أن شعار التحرّك هو إسقاط النظام الطائفي وجميع رموزه". ولأن النظام اللبناني قائم على قاعدة 6 و6 مكرر فكان لا بد لإحدى المحطات الموالية لـ8 آذار أن تتفوق على خطأ ما ارتكبته محطة موالية لـ14 آذار، فغيّبت "المنار الخبر بشكل كلي وتام، على رغم أنه انطلق من الضاحية الجنوبية حيث مركزها، وهذا ما فسره أحد مناصري "حزب الله" رداً على انتقاد من "فايسبوكي" آخر "إن قناة المنار لم تعد تنقل ما يُعنى بالشأن الداخلي البحت للبلد".
في خضم الحرب الـ"فايسبوكية" التي خاضها "المواطنون والمواطنات"، لإنجاح تحركهم أولاً ومن ثم للدفاع عنه في وجه من حاول تقييده، برز موقف لرئيس مجلس النواب نبيه بري، اعتبره البعض أقرب إلى النكتة منه إلى الحقيقة: "والله إذا لم تشكل الحكومة في القريب العاجل فسأدعو إلى تظاهرة على الإنترنت عنوانها إسقاط النظام الطائفي، وسأسمح أيضاً لأي كان من الراغبين في النزول إلى الشارع ضد ديكتاتور الطائفية بالتظاهر في باحة مجلس النواب". يُذكر ان الطائفية نفسها كرّست بري رئيساً لمجلس النواب منذ عام 1990 ولا يزال.
لم تُجدِ محاولات الالتفاف على ما قدّمه اللبنانيون في 27 شباط، إذ سارع هؤلاء إلى مكان اندلاع التحرك الذي لم يرتق بعد إلى ثورة، فزودوا الـ"فايسبوك" والـ"تويتر" والـ"يوتيوب" أجمل لحظات ذلك اليوم ¶
عن الملحق الثقافي – جريدة النهار البيروتية 6/3/2011
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |