مقاطع من رواية منذر بدر حلوم ( كأن شيئا لم يحدث )
خاص ألف
2011-03-13
بعد روايتيه المتميزتين الأزرق سقط من الأزرق من السماء، وأولاد سيكبة، يطلع علينا منذر بدر حلوم بروايته الثالثة امرأة بين حضارتين.. وإذا كانت روايته الأولى قد نبشت في واقع التاريخ المعاصر السوري وتشابكات خيوطه ما بين نضالاته وخياناته والتي وصفها الصحافي والكاتب خطيب بدلة بقوله:
إذا فرضنا أن الرواية عبارة عن سجادة ثمينة مشغولة بطريقة يدوية، فإن طريقة منذر حلوم في نسجها تعتمد- وليعذرني النقاد مرة أخرى على اكتشافاتي غير النقدية- على ترفيع الخيط الذي ينسج به، وتصغير (القُطَب)، وجعل الخطوط المتشابكة يلتقي بعضها بالآخر، في نقطة معينة، ليظهر سطحها (السجادة) بأجمل ما يمكن.
ولعل أجمل التقاء للخطوط والخيوط يتجلى في مشهد حضور عزيز إلى بيت درويش بعد أن (ستفقده) بتقرير أمني كاذب جديد. وكان درويش قد أصبح صديقاً محباً لنجوى، وقد ترسمل من الانهيار الكبير الذي سببه لها عزيز حينما عاملها معاملة العاهرات، فأشرك بساماً في جسدها على نحو ساقط. وقتئذ طلب منه أن يجلس على كرسي الأخ الأكبر، ثم جعل أذرع الكرسي تلتف حوله، وخرج ليُحضر نجوى ويريها ما سيفعله به، ولكن نجوى لم تقبل فكرة الانتقام، فعاد إليه، وتركه يغالب النعاس، وكان كلما كبا يشتد ضغط الأنشوطة على عنقه!
على العموم كانت روايته الأولى مفاجأة للقارئ السوري وللعربي من بعده .. فيما لم تأخذ روايته الثانية حظها من الانتشار نتمنى لروايته الثالثة الحظ في الانتشار.
ننقل هنا بعضا من فصولها للتعريف عنها
ألف
فصول مختارة من الرواية
- 1-
توقّف بنا القطار العتيق في وسط الطريق. طريقنا عبر الجبال والوديان، من اللاذقية إلى حلب، كان يمكن أن يكون جميلاً، لولا أنّ القطار العتيق كان يسعل ويبصق ويرتجف، قبل أن يزرقّ وجهُه ويتوقف كمُدخّن عجوز. لم يبق أمامنا، نحن أسرى الحديد، إلا مغادرة القطار، ولكن إلى أين؟ ليس لنا إلا النزول من العربة والانحدار إلى طريقٍ عام عبر السفوح المكسوّة بالصنوبر والبطم والقطلب والزرّود والريحان، أو الانتظار أجلا غير مسمّى حتى تعلو صافرة الانطلاق، وينفث العجوز الغاضب دخانه الأسود في وجوهنا، ليذكّرنا بحياته. حياته هي دخانه الأسود القاتل.
- لا تحزن يا بني، لا تحزن! كلها عشرة أيام! لم أفهم يومها ماذا كانت تعني بالأيام العشرة. نقّلت نظري بين صورة الأمل في عيني ابنة مريم الحزينتين وبين عيني رفيقي علي جاد الصغير القلقتين المتسائلتين. هل كانت تتوقع أن يرحل الظالمون خلال عشرة الأيام غير المعدودات..كانت ابنة مريم كثيراً ما ترجو الله أن لا يأخذها قبل أن ترى حساب الظالمين، هنا على الأرض وليس في مكان آخر، فكلمات مثل "حسابهم عند ربهم" كانت ترسم على وجهها ابتسامة يائسة مشوبة بالسخرية..أم أنّها حددت "عَشرة الأيام" أملا بالشفاء على يد الله!؟ لم تكن لتفعل. فهي كانت تصلي من أجل معجزة تحصل ليس في جسدها، إنّما في جسد آخر لا تتسع له يدها المنبسطة إلى الله، جسد لم يعد ينتمي إلى الماء، فيه تتوجع ويتوجع من تحب. كانت تصلّي لله، راجية المزيد من العمر، ليس طمعاً بالحياة بحد ذاتها، إنّما لتمنح الله فرصة أطول من أجل أن يثبت عدله هنا. كانت كلّما ضعف أملها بالله صلّت له أكثر. راح الإيمان يوماً بعد يوم يتسرّب من بين أصابعها المتباعدة في ابتهال إلى السماء، ومع أن الله لم يثبت لها شيئاً مماً قيل عنه، إلا أنّها أصرّت على الإمساك بذرّة الإيمان الأخيرة قبل أن ترحل. كانت لا تزال تؤمن بأن العدل يمكن أن يتحقق، وأن الحق يمكن أن يحقّ، ولكن ذرة الإيمان الأخيرة التي انزلقت إلى الفراغ بين أصابعها كانت تقول لها إن ذلك لن يحصل على يد الله. وقد لا تكفه العشرة الأيام التي تضمرها لإثبات ذلك، فيما أصابعها العشرة تقول لجلالته
- خلقت الكون في ستة أيام واستويت على العرش!
-2-
علت وجه ابنة مريم ابتسامة حين وطأت قدماها الأرض. فمغادرة القطار العتيق كانت تعني بالنسبة لها تأجيل تلقّي الحكم بالإعدام بضعة أيام. كنا في طريقنا إلى طبيب القلب، وكانت واثقة من أنّه كان سيقول ما قاله طبيب آخر قبله بإنكليزية لم تكن تعرف منها شيئاً لكنّها كانت تشعر بما تعنيه.
- ما عاد القلب يحتمل، ممكن أن يتوقّف عن النبض بين لحظة وثانية! قال الطبيب
-3-
على حبال غسيل مهجورة، عرّشت الياسمينة مرسلة جدائلها بعكس اتجاه الريح. كانت الياسمينة تفعل ذلك كل صباح ومساء، بل كلما رأت المعلّم وابنة مريم على السطح العتيق. كانت رائحة البُن توقظ الياسمينة في الصباح. من يد المعلّم كانت رائحة القهوة تنطلق لملاقاة الأريج الأبيض. لا مكان لقوانين الريح ساعة يلتقي المعلم وابنة مريم على الإسمنت المتشقق المكسو بالأشنيات، يحتسيان القهوة، ويتفحّصان نوايا الله. كان الله في مكان ما لا يريحهما أنّهما لا يريان منه إلا القبور، وأمّا البخور والنذور فكانت لقوى أخرى.
-4-
للخضر هنا سلّتان، كلما امتلأتا بالدعاء طار ما فيهما وحط على أوراق الخرنوب والسنديان في الدقاقة والكاديك، وللـ(عجمي) سلّة وللـ( شيخ يوسف) أخرى. من مقام الشيخ يوسف، مشت ابنة مريم، وكانت عينا الطبيب اليائستان قد أحالتاها إليه دون كلام، مشت، عابرة سفح (جبل سعد) إلى عين الغار. قرابة الساعة استغرق الطريق، الطريق نفسه الذي كان يقطعه المعلّم في ثلث هذا الوقت. وكانت طيور السمّان تخفق بأجنحتها، مُصدِرةً ضجيجاً في السماء القريبة، نحو السفح المطل على الطريق الأبيض الضيّق، لتبيت في الدغل.
-5-
كان علي جاد الصغير يعرف أنّ قلب أمّه لم يعد يحتمل المزيد من القهر. ذات مساء، نظر أخوه الصغير إليها مواسياً وقد انهدّت على الأرض بعد أن أنزلت (دبليزاً) كبيراً من الماء، حملته من العين المتفجّرة في أسفل الوادي: " بكرة يا أمّي بس صير رئيس رح انقلّك الميّة بطيارة هليوكوبتر!" ضحكت ابنة مريم. لم تقل له كعادتها: " إن شاء الله! " ففي عبارة " إن شاء الله! " موافقة ورجاء وأمل بالله على تحقيق الرجاء. لكنّ الرجاء هنا عتبة. كانت ابنة مريم تعرف معنى العتبات.
-6-
غادرْنا القطار. ولم يتخلّ عنّا الله، فقد لاح لنا ممرٌ في أطراف الغابة الممتدة من شريط أسود خلّفه حريقٌ غير قديم إلى مكان ما في الأسفل، كنا لا نزال نجهله، ولكنّنا خمّنا أن طريقاً ما للسيارات يجب أن يمتد هناك. وأخيراً، بلغنا أسفل الوادي، بعد قرابة ساعة ونصف، قطعنا خلالها بضع مئات من الأمتار، وركنّا خلالها إلى ثلاث مَضاءات بين الأشجار، كأنما أعدّتها الطبيعة لابنة مريم التي كثيراً ما كانت تنظر إلى السماء، بحثاً عن زرقة وأوكسيجين. وحين بلغنا الوادي، لجأنا إلى صنوبرة أُسند إلى جذعها الثخين حجر كبير. لا بد من أنّ أحداً ما ممن ضاقوا قبلنا ذرعاً بالقطار قد سبقنا إلى هنا.
كان أحدهم قد حفر على اللحاء البني السميك بيد صلبة: N+N = قلباً وسهماً يخترقه. لست أدري لماذا يكتب العشاق على الحيطان وعلى جذوع الأشجار تمائم عشقهم بأحرف أجنبية. ربما لشعورهم بأن الحب الممنوع هنا، ممكن في غير مكان! هذه ليست إجابة على أية حال. وإلى جذع الصنوبرة وإلى قلب العاشق المجهول، راح يتناهى من مكان قريب هدير سيارات.
إنّه الطريق إذن غير بعيد! ابتسمت ابنة مريم وحمدت الله على فَرَجه! وبعد استراحة أطول من سابقاتها، استجاب خلالها قلبها للدعاء، اتجهنا صوب مصدر الصوت. وأخيراً، لاح الإسفلت. لم أكن أحسب أنّ الإسفلت يمكن أن يُفرحَ أحداً كما أفرحنا في ذلك الصباح. وهناك، توقّفت حافلة صغيرة مستجيبة لإشارةٍ من يدي، وكنت أتمنى لو تأخّر قدومها بعض الوقت ريثما تستريح ابنة مريم قليلاً، على حجرٍ من البازلت تُرِك ليعيش على هامش الطريق دون أخوته الذين سُويت بوجههم الأرض من أجل أن نمشي عليها بأمان. وتبدد شيء من القلق على وجه علي جاد، بفضلٍ من سلام الصنوبر الباعث على النعاس.
توقّفت الحافلة، ولم يكن أمامنا خيار إلا الصعود، فحافلة أخرى قد لا تأتي عمّا قريب. ودخلنا حجرةً رمادية مغلقة مليئة بضجيج الأغاني والزمامير، وقرقعة الحديد، واهتزاز الزجاج، ودخان الركّاب، وزعيق طفل صغير.
- على مهلك، الطريق صعب يا أخي، انتبه، لو سمحت! قلت للسائق وقد تجاوزْنا بصعوبةٍ صهريجاً كدنا ننسحق تحت مؤخّرته. نظر السائق في مرآته متوعّداً
- أخي, السيارة سيارتي، وبْ سُوقها على كيفي!
-7-
حين وصلت ابنة مريم إلى دارها، ارتسمت على وجهها ابتسامة عاشقة تطلّ على حبيبها المقبل على فرس بيضاء. وكمثل فرسه, أبيضَ الملابس كان.
- الحمد لله والمجد لصاحب المقام، ما شعرت بالتعب، ومشيت كأنّي لا مريضة ولا شيء..يا شيخ يوسف، اشفني، ولك منّي كل يوم زيارة وبخّور لترابك...عندك أمل يامو!؟
كم كانت حاجة علي جاد الصغير إلى إتقان التمثيل عظيمة في تلك اللحظة. يومها أدرك قيمة التمثيل. وأمّا قبلها فكان يستغرب أن يمتهن المرء ارتداء الأقنعة، أن يفقد نفسه ويصير أحداً ما غريباً كل يوم
- أنتِ أدرى بصحتك من أي طبيب يامو، طالما مشيتِ وما تعبت، يعني حالتك مليحة، وان شاء الله بْ تتحسن!
- ادع لي يا حبيبي!
-8-
دعا علي جاد الصغير الحجرَ والشجرَ والريحَ والماءَ والنبتَ الأخضرَ والطيرَ. لم يدع الترابَ. خاف أن يختلط عليه الأمر بين مدّ الأرض تحت قدمي ابنة مريم نحو حياة منفتحة إلى سنوات بعيدة وبين قدّ لحد من أجل جسدها الأبيض المستتر بصلواتٍ يتماسك معها نسيج ثوبٍ تهالك عن العيون. ولم يدع كائنات البحار، خوفاً من أعماقها المدلهمة. ودعا الجهات الأربع. ودعا ما في صلوات المؤمنين والمحتاجين من قوةٍ وطاقة رجاء، وما في السماء من توائم لنا. ودعا كل الأشياء التي تخطر بالبال لمساعدة أمّه وترميم ما تهالك من قلبها. وكان كلما دعا، تحيك أصابع يديه نسيجاً جديدا للقلب، تضغطه راحتاهما ليتوقف عن التمدد. كان قد رأى القلب على جهاز (الإيكو). ومن لحظتها ابتدع صلواته الخاصة، جاعلاً يديه ليس في وضعية ابتهال، إنّما في وضعية إمساك بالقلب، كي لا يتضخم أكثر وينهار نسيجه. كلَّ ليل راح يغفو على صلاة الإمساك بالقلب، وكلَّ صباح يصحو عليها. وحين كان يرى أمّه تبتسم وتتحرك بخفة لتحضر له طبق طعام، يفرحه النجاح الذي حققته صلواته، فيمعن في شكر القوى التي يستحضرها. فلا أحد يعمل دون شكر. ويعاود الكرّة من جديد، راسماً ابتسامة على وجهه الحزين كأنّما ليشجع الجندَ المتعبة أيديهم من الإمساك بجدار القلب
- أكيد, يامو، أكيد! قال لها، وتلفّتَ نحو مقام الشيخ يوسف
- لا تخذلها، وأنا بدوري أعدَكْ بأن أؤمن بك إذا شفيتْ أمّي، وأعدك بالمجاهرة بإيماني!! وعده علي جاد، على الرغم من أنّه لم يكن واثقاً من قدرته على المجاهرة بإيمانه بالمقام أمام أصدقائه الذين سيسخرون منه ويتهمونه بالرجعية والتخلّف.
-9-
ما كان أصعب رسم ابتسامة فرح على الوجه. أدركتُ، فيما كنت أنظر إلى صديقي، كم من الصعب على الإنسان أن يصطنع الفرح، وما أسهل اكتشاف الحزن في العينين. وأمّا الحزن فلا يحتاج إلى أكثر من التوقّف عن التمثيل.
-10-
يوم رسب علي جاد الصغير في امتحان القبول في معهد التمثيل، لم يكن مطلوباً منه تمثيل الفرح، إنّما كان عليه أن يزاحم الآخرين لاحتلال موضع قدم على باب الحافلة المزدحمة التي تهمّ بمغادرة المحطّة. كان بإمكانه أن يضحك ساعتذاك. بل كثيراً ما كان يضحك ضحكة ليست فرحة ولكنّها ليست حزينة، يضحك ضحكة اندهاش..وكانت تبدو على ضحكته في مثل هذه المواقف علامات البلاهة.
- ما الذي تفعله!؟ صاح أحد أعضاء اللجنة، وربّما كان كبير الممتحِنين
- لماذا لا تزاحم؟ لماذا لا تحاول الصعود!؟ هل ستصعد إلى الحافلة بهذه السحنة اليائسة؟! التفت إليه علي جاد، مبتسماً، في إشارة إلى شفقته على المتزاحمين ورغبته في الضحك على طريقة تعلّقهم بباب الحافلة، وأسدلهما، ليس جفنيه إنّما يديه. فقد أسقط في يده. وغادرتْ الحافلة، وراح علي جاد يشيّعها بنظراتٍ لا بد أن يرى فيها المؤمن عبارة " لا حول ولا قوّة إلا بالله ". لكنّه لم يكن كذلك ولا الممتحنون كما بدوا له. لم يكن علي الصغير يمثّل. ولم يقتصر فشله على النظر المتكرر إلى عيون أعضاء لجنة الامتحان، فقد كان يستنهضهم ليدفعوا هؤلاء المتزاحمين المتدافعين عند باب الحافلة إلى قلبها أو إلى إحراقها، بدلاً من الاستسلام لمشيئتها والانجرار خلفها بهذه الطريقة المهينة، بل كان فشله واضحاً قبل البدء. كان قد تدرّب على الفرح، على الضحك الفرِح قبل مجيئه إليهم. كان يهرب من أشكال التعبير الأخرى في الشارع. يهرب من الشارع المتخم بها. كان عليه التخفف منها، إغماض العين عنها، الاستدارة إلى غير اتجاه، ثم العودة إلى البيت وتكسير المرايا
- وأمّا الفرح فلم أكن أجيده، ولست أقدر عليه الآن! حسبته سيقول للّجنة، ويضيف
- لو تشتغل معاهد التمثيل على رسم الفرح على الوجوه، ليس الرضى والاستسلام إنّما الفرح!
-11-
هوب هوب! لليوم العاشر على التوالي، يحتضر شرطي النجدة راجي، ويموت الورد والزيتون، وينقضّ صقر على قلب المعلّم فينهدّ على صخرة بيضاء، وتنظر ابنة مريم بعين الشك إلى السماء، وتروح الحافلة كاترينا إلى اللاذقية وتجيء، حاملةً الرجال والنساء، وتشرق الشمس وتغيب، كأن شيئاً لا يحدث في عين الغار، ويغادر الأولاد إلى الشام ويعودون حاملين البنادق من هناك، ويُطلق كثير من الرصاص.
...........(التتمة في الرواية)......
من إصدرات الدار العربية لللعلوم
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |