الثّقافةُ العربيّة وسلطةُ النّموذج
خاص ألف
2011-03-16
قد يفيد أن نحاول وضع يدنا على المعنى المراد من كلمة "نموذج " قبل أن نبحث في سلطته في الفكر العربيّ. وأول ما يتبادر للذهن أن من الوجاهة المعرفية النّظر إلى معنى النّموذج من خلال اندراج هذه الكلمة في سياق العبارة نفسها " سلطة النّموذج في الفكر العربيّ " حتى لا ننداح في تشقيق معانٍ ودلالاتٍ قد يحتاجُ التّوسّع فيها إلى عدد كبير من الصّفحات . لذلك فإنّ وجهة النّظر هنا ستقارب معنى النّموذج من داخل علاقة المفردة بما يجاورها من قبل ومن بعد من المفردات، لاسيما وأنّ العبارة تعطي من تلقاء ذاتها فضاء ممكنا لترسيم المعنى وفهمه على نحو محدّد.
الفكر العربيّ إذاً له نموذج، يقع تحت سلطته، ودلالة السّلطة هنا تعطي معنى التّسلّط والاستبداد والقمع، بطبيعة الحال. سواء أكانت سلطة سياسيّة أو فكرية أو رمزيّة... الخ. وحتى لو كانت السّلطة متساهلةً أو متسامحةً فما ذلك إلا لتأكيد سلطويتها في نهاية المطاف، بدليل أنها هي من يزعم امتلاك التسامح متى تشاء، وترفضه متى تشاء. وبذلك امتلأ الفكرُ العربيّ بحشدٍ منَ الأزمات (الموضوعيّة أو المصطنعة) والانغلاقاتِ والانسدادات. هذا ما تفصح عنه حركيّة هذا الفكر في مدوّناته وآليّات عمله والسّجالات التي انتشرت هنا وهناك، مما لم يعد بحاجة إلى ذكاءِ لاكتشافه أو للبرهنة عليه. ومن جهة أخرى فإن أبرز وجوه أزمات هذا الفكر وقوعُه - بوعيٍ منه أو بلا وعي - ضحيّةَ النّموذج، ولأنّ الفكر فاعليّةٌ عقليّة ونشاطٌ معرفيّ وعمليات إدراك وتحليل وتركيب واستدلال واستنتاج وخلق مفاهيم... أيْ أنّه (ومع أنه يتجسّد ويتجلّى في النّهاية عبر أشخاص ووقائع) ليس شخصاً ولا واقعاً متعيّناً، لذلك فإنّ النّموذج الذي سيحتكم إليه الفكرُ سيكونُ من جنسِهِ، أيْ فكراً ولكنّه فكرٌ وقدْ تحوّل إلى نموذج يُحتذى ويُطلب (ويُفتقدُ في اللّيلةِ الظّلماء). ولكنّ الفكر هو من شغلِ العقلِ البشريّ في النّهاية، صحيحٌ أنّه ليسَ سلوكاً مادياً، ولكنْ بالضّرورة هو نتاجُ بشرٍ يعيشون في لحظة تاريخيّة ما، أو لحظاتٍ تاريخيّةٍ متجاورةٍ، متسلسلةٍ أو متقطّعة. إذاً ما السّرُّ وراء تحوّلِ هذا النّتاج البشريّ المشغول على يد البشر في التّاريخ إلى نموذجٍ ذي سلطة تتمتع بقوّة التّأثير والهيمنة؟ باختصارٍ إنّ كلّ فكرة ينتجها عقل، كلّ مفهوم يصل إليه إنسانٌ في لحظةٍ من التّاريخ، كلّ تأويل وتفسير ونتيجة، لا يمكن لكل ذلك، أن يكتسب صفة النّموذج المسيطر المتسلط إلا إذا وُضعَ قسراً في سياقٍ غيرِ تاريخيّ مفارقِ لشرط اللّحظة التي نشأ فيها. عندها سينأى الفكر عن ديار البشر، حتى يسكن في أعلى علّيّين ويصبح متعالياً، مغادرا انتماءَهُ للتاريخيّ خائناً بُعده البشريّ، ويتحول إلى نموذج. وبطبيعة الحال فإنّ كلّ ما هو فوق تاريخيّ متفلّت من الحدود البشريّة قافز فوق احتمالات الواقع وتقلّباته؛ سيكون نموذجاً مقدّساً. وعندها تكتمل للفكر أدوات السّلطة: لقد تنمذجَ الفكرُ وتقدّسَ فلماذا لا يتسلّط؟ لكن على ماذا يمارسُ سلطتَه؟ إنّه يمارسُ سلطتَه من بابِ المقدّس، في مجالِ الفكرِ أيضاً. أيْ ينبغي أن يجدَ الحقلَ المناسبَ ليمارس فيه صلاحيّاته. وهي صلاحيّات مطلقة، وإلاّ فلا معنى لقداستهِ ولا لسلطتِه. بل إنه بمجرّد أن أصبح النّموذج ذا منشأ ما فوق تاريخيّ فقد اكتسب صفة الإطلاق. وما هو مطلقٌ لن يسمحَ بالاختلاف معه، ولا بالشكّ فيه، وسيقاوم ولادةَ أيّ وعيٍ فكريّ يلبَي تطوّر الواقع وحِراكَ التّاريخ، لأنّ ذلك يتناقضُ مع تعاليه على البشر وتاريخهم ووعيهم بواقعهم.
ثمّةَ وجهٌ آخر لسلطة النّموذج، فطبيعةُ النّموذج تتيح له أنْ يتحوّل إلى (أسطورةٍ) من نوع ثانٍ، تتملّكُ عقولَ البشرِ وتوحي لهم بدلالات استيهاميّةٍ ذاتِ طابعٍ ميثولوجيّ حول ظاهرة مقدّسة ما. وبهذا المعنى فالنّبيّ نموذجٌ مؤسطَرٌ، والإمامُ نموذج مؤسطرٌ، وتفاسير القرآن وشروحه نموذج مؤسطرٌ. والأمثلة عديدة في هذا المضمار. (أصحاب المقامات والأوّلياء والشعراء والقديسون...الخ) وهي نماذج منحتها الأسطورة قوّة الرّمز ودشَنتْ لها رؤيا ميثولوجيّة تمعن في إحداث شرخٍ بين وعيِ الإنسان وواقعه التّاريخيّ، حيث يتحوّل هذا الوعي إلى متلقّ لما تلهمه هذه القوّة الرّمزيّة ذات الطبيعة الكلّيّانية...
يحتاجُ النّموذج ليتحوَّلَ إلى سلطةٍ مهيمنةٍ إلى قوّة رمزيّة وأن يكونَ (أصلاً) يفرضُ على اللاحق ان يتبعه بحذافيره ويمشي على هداه مقلّداً إيّاه. والأصلُ يفوّتُ الفرصةَ على التّطوّرِ ويمنعُه إلاّ إذا جاءَ مطابقاً لفتاواه محافظاً على أعرافِه وتقاليدِهِ. فما حاجةُ حتى العقل إلى أن يعمل طالما أنّ هناكَ من يعمل ويفكّر ويقرّر ويستنتجَ عنه؟
يطرحُ النّموذج نفسَه على أنَّهُ نموذجٌ دائريٌّ منغلقٌ مستعصٍ على الانفتاح، يتأبّى على المساءلة ويحتقر السؤال، لأنّ الأسئلةَ بالنّسبةِ له صيغت وطُرحت وأجيبَ عنها هكذا دفعةً واحدةً ومرّة واحدةً وإلى الأبد. إنّه إيديولوجيا مطمئنّةٌ راضيةٌ مَرضِيّةٌ مكتفيةٌ بذاتِها لا ينالُها مللٌ ولا يصيبُها قلق، لأنّها مُحصّنةٌ داخلَ منظومتِها المَحْمِيّة منَ التأثّرِ بأيّ عاملٍ من عواملِ البشرِ وصفاتِهم، حيث هي تتحرّكُ في مسارٍ لا يلتقي مع طبيعتهم، مع أنّها تُعطي لذاتها كامل الأحقّيّة والشّرعية في التّدخّلِ في طبيعتهم، ساعية إلى صياغتِها من فوق...
معَ سلطةِ النّموذج ستسودُ مفرداتُ العصيان والانشقاق والمروق والزندقة والإلحاد والكفر، في توصيف أي وعي خارج عن سلطة النّموذج. لأنّ هذا النّموذج يتطلّب موافقة، موالاةً, رضا، قناعةً يقيناً، إيماناً، توافقاً، خضوعاً... وهذه هي المفردات المطلوبُ توفّرُها لتدعمَ شرطَ العلاقة مع النّموذج المتسلّط المطلق. ومع ازدياد المارقين والزنادقة والملاحدة (بالمعنى المعطى من خارج التّاريخ، أي من طرف السّلطة) سيزداد النّموذج استبداداً وتحكّما للدّفاع عن نفسِه ضدّ أيّ تحوّلات ممكنة. ولكنّ التّاريخ مهما انتابته الغفلة والكسل والاتكال والتسليم والخضوع، فإنه ذو مسار تراكميّ بالضّرورة، إيجابا وسلباً، ولا بد أن يخلق التّراكم وعياً آخرَ، ينتج وعيا آخرَ يعصى وينشقّ، يزحزحُ أركانَ النّموذج، ضائقاً به وباحتمالاته المنتهية المكتملة. هذا الوعيُ الآخرُ سيقوم برفضِ النّموذج عبر مجموعةِ أدواتٍ تستطيعُ القيامَ بفعل الحفر والتنقيب في بنية هذا النّموذج، واصلاً إلى شهوةِ تفكيكه وتهشيمِ مواقعه حتّى يستلّ منه اعترافاً بالضّعفِ والتّسليم، وإعادة ترتيب اللّعبة ليأخذَ النّموذج موقعه المفضي إلى تركِ فسحة للتاريخ ليمارسَ هو الآخر صلاحيّاته المُرجَأَةَ.
في الأزمنة الحديثة انفجرَ السّؤال المعرفيّ عربيّا بتأثيراتٍ شتّى، ووسائل وأشكال شتّى أيضاً، وبدأت العلاقة بين النّموذج المطلق (السّيّد)، والوعي البشري (العبد)، بالتصدع، متمظهرة في حالات صراعٍ وتجاذب فكريّ ومشاريع ثقافيّة متنوعة تهدف كلها إلى مساءلةِ التّراث العربيّ الفكريّ منه والسّياسيّ والدينيّ والفلسفيّ، وكان الهدف الأكبر من وراء كل ذلك بلورة طريقة أو صيغة لينخرط المجتمع العربيّ والثّقافة العربيّة في الدخول في العصر الحديث وتحقيق نهضة أو حداثة أو ثورة... كيف يدخلُ المجتمع في عصر حديث وكيف يحقّقُ نهضتَه وثورته، وهو وريث النّماذج المتسلّطة؟ إنّ المتتبّع المدقّق في معوّقاتِ هذا الفكر الدّاعي للنّهضة والثّورة والحداثةِ سيجد أنه جُوبهَ بأنماطٍ من سلطات نماذج فكرية في التّراث لا عدّ لها، حيث وجد هذا الفكر نفسه في مجابهةٍ معها ما زالت قائمةً بصورةٍ أو بأخرى، وسيجد المدقّق المحايد والموضوعيّ، أنّ من أبرز هذه النّماذج المهيمنة المتسلّطة المتغلغلةِ في البنيات العميقة للإنسان العربيّ هو نموذج النصّ القرآنيّ وقد انقلب إلى نسق ثقافيّ متعال مفارقٍ للتّاريخ ملحقٍ بما فوق، مع أنه كان يأتي كنصّوص وشذرات متفرّقةٍ ليواكبَ ما يجري تحت وليس فوق، أي أنّه كان تعبيراً عن حاجات بشرٍ على أرضِ الواقع، بتقلّباتِ مصالحهم وتغيّرِ أمكنتهم ووقائعهِم، شارحاً مفسّرا موجّها منظماً. فكيف أصبح نموذجاً ذا سلطة مطلقة ومغلقة؟ إنّ هذا النّموذج أصبح ثقافةً فاعلةً في غير مواضعها متغلغلاً في حقولٍ ليسَ له علاقةٌ بها، وحُكِّم في وقائع ليست من طبيعة اختصاصِه، وارتبط هذا النّموذج بأشخاصٍ من أرض الواقع هم أيضا ولكنهم اكتسبوا صفة القداسة لاحتمائهم بضرورات الانسياق وراء النّموذج المقدّس الأوّل، وأصبح ما يقولونه مقدّساً كتحصيل حاصل، كما خلّف هذا النّموذج المقدّس حركاتٍ وتيارات تحترف اغتيال العقل والبشر والحجر، مطمئنة إلى أنّ ظهرها مسنودٌ بنموذج لا أبهى ولا أقدس. هذا النّموذج من وجهة النّظر المطروحة هنا يشكّل العائق الأوّل للفكر العربيّ شئنا أم أبينا. لأنه كفّ عن أن يكون نصّا دينيّا للتعبّد وتلبية حاجات الرّوح والإيمان، الأمرُ الذي لا يعترض عليه أحد، ولكن يجب الاعتراض بشدّة لا هوادة فيها على الكيفيّة الّتي تحوّل فيها هذا النّصّ إلى مُنتِجٍ للثقافة والمعرفة، يصوغُ التّاريخ والمستقبلَ ويحدّد معالم الحاضر بدءاً من حدوده هو، يجبُ الاعتراض بقوّة على تمفصلِ هذا النصّ في حياة الإنسانِ ووعيِه وصمتِه وأكله وشربه ورغباته وأحلامه.
سيجدُ الفكرُ العربيّ نفسَه واقفاً في منطقةِ التلفيق والمداورة حين يعثرُ في النّموذج الثّقافيّ القرآنيّ على بذورٍ للعلمانيّة مثلاً أو أثرٍ من عقلانيّة. ويجلبُ الفكرُ على نفسه صفة الكذب والاحتيال حين يقيم علاقةً ممكنةً بين الدّين كسلطةٍ ثقافيّة ومرجعيّة نهائية مكتملة، وبين الحداثة الحقيقية. يصيبُ الفكرُ منظومته بشروخٍ استراتيجيةٍ حين لا يرفض الرّبط بين دساتير جمهوريّاتٍ حديثةٍ، وتعتبر، في لحظة تقنّعِها بالحداثةِ والعلمانيّة، أنّ الدّينَ الإسلاميّ هو مصدر التشريع، يكذبُ الفكرُ العربيّ ويمعنُ في الكذب حين لا يرفض ذلك رفضا مطلقاً لا لبس فيه ولا شبهة، لأنّه أمامَ حالةٍ نموذجيّة ساطعة، لمحاولةٍ هزليّة كوميدية سوداءَ للمواءمةِ بين مفهوم حديث بحت ومحض، " علمانيّة "، وبين نسقٍ غيرِ تاريخيّ يقف على النّقيض تماماً من مفهوم العلمانيّة، المفهوم الذي جاء ليخلّصَ الفكر من مرجعيّته الدينيّة. ويعيدَ النّموذج الدينيّ إلى مكانه الطبيعيّ، عازلا إياه عن عرش العالم.
لا تريدُ وجهةُ نظرنا أنْ تتعاملَ مع موضوعها الذي تتأمل فيه، من قبيل المجاملة ومراعاة المشاعر، ففي الفكر والمعرفة لا مراعاة للمشاعر بالطريقة المائعة التي يقتنع بها مثقفون عرب كثيرون، لأنّ الفكرَ الذي يريد أن يتصدّى لإنجاز مشروعِه الحديثِ والعقلانيّ والتنويري والنهضويّ، عليه أن يبادر إلى الانقلاب المعرفيّ نهائياً على سلطة النّموذج الثّقافيّ القرآنيّ، وخاصة أنّ هذا النّموذج خلّف حوله عبر التّاريخ، نظريّاتٍ تسخَرُ من البشر وإرادتهم محوّلاً إياهم إلى عبادٍ بل عبيدٍ وقطعانِ غنم لها راعٍ، وأراد أن يقنعهم بمتعة العبوديّة ولذة الخضوع عبر تثبيت الإيمان داخلهم بأنّ الله له مندوبون من طبيعته على الأرض، تكونُ طاعتهم من طاعته، والعبوديّة لهم تسليماً بمشيئته. إنّ هذا النّموذج الثّقافيّ فرّخ نماذجَ فكريّة وثقافيّة موازية له في شتّى المجالات من السّياسة حتى الاقتصاد والإبداع والنّقد. وأصبح انتقادُ هذه النّماذج من قبلِ وعيٍ مختلفٍ معها، عملاً منْ رِْجسِ الشّيطانِ يجبُ اجتنابُه واجتثاثُه، لأنّهُ يشكل خطراً لا على النّموذج الثّقافيّ القرآنيّ، بل وبالّدرجة الأوّلى خطراً على من يتقنَّعُ به ويختفي أو يتخفّى وراء كرسيّه وصولجانِه المقدّسين.
إنّ واقعَ المجتمع العربيّ لم يعد يتحمَّلُ في أيّ حالٍ منَ الأحوال المزيدَ من الرّموز المقدّسة، فهو مجتمعٌ ممزّق مشروخٌ منقسمٌ على نفسه بطريقةٍ عشوائيّة غير قابلة لإعادة البناء بمنطقٍ سليمٍ، لأنّ انقساماتِه تتمّ نتيجةَ استبداد قوّة الرّمز والنّموذج المؤسطر الذي دحرجَ المجتمعَ خارج السّياق الطّبيعيّ للتّطوّر والبناء. وتركَه ممتثلاً للضّياع والانشطار والقلق، يتحرّك بتثاقل بما يشبهُ حركةَ كائنٍ مُعاقٍ. فلا مشروعُ نهضة اكتمل، ولا مشروع حداثة أُنجز، ولا هويّةُ دولةٍ حديثةٍ تبلورتْ، ولا وعيٌ بالعالمِ تشكَّلَ، ولا أحلام صغيرة أو كبيرة تجسّدت. مجتمع مضعضعٌ مرضوضٌ مشوَّشُ الرّؤيا فاقد للذّاكرةِ التّاريخيّة، يرمّمُ شروخَه ويعالجُ رضوضَه باللّجوء إلى أنساقٍ ثقافيّة مطلقةٍ يعتبرها وصفاتٍ سحريّة تحقّقُ له الشّفاء والإيمان والاستقرار. ويتوهّم عبرَها أنه مجتمعٌ ديمقراطيّ علمانيّ حديثٌ، في الوقت الذي هو عاجز فيه عن التّفكير الحرّ، يتوسّل حلولَ مشاكله الكبرى من منظومات ميثولوجيّة معوّقة يعطيها شكلَ الواقع، يحيا في الماضي، يسبحُ في الرّحمِ السّحيقِ من الزّمن، يخشى الانفصالَ عن الرّحم ليدرأَ عن نفسه مزيداً من الضّياع والخذلان والشتات...
في مشهدنا الثّقافيّ المتوتّر والموتور عربيّا وإسلاميّاً، وبالتّزاوج بينهما أحياناً، يسودُ وعيٌ يتبنّى ثقافةَ الاغتيال، ببعديه الرّمزيّ والماديّ، بسببٍ من هيمنة سلطة ذلك النّموذج، فالجميع يغتالُ الجميعَ، معتمداً على مبرّراتٍ ثقافيّة ورمزيّة وإيمانيّة مسحوبةٍ حرفيّا من نصّها القرآنيّ. ولن تزول هذه الحال ما لمْ يضع الفكرُ كلّ شيءٍ، كلَّ مفهوم، كلَّ نصّ مقدّس، كلَّ خليفةٍ وأميرٍ ونبيّ وملاكٍ، موضعَ السّؤالِ المعرفيّ المحض، موضعَ الفحصِ المنطقيّ المجرّد منْ كلّ هوىً وعقيدةٍ، ما لمْ يصبحْ كلّ هؤلاء موضوعاً ملتصقاً بالتّراب لا بالسّماءِ، بعالم الشّهود لا عالمِ الغيب. ما لم يصبحْ كلّ شيءٍ مادّةً لنقدٍ تاريخيّ بدءاً من الله وانتهاءً بممثّليهِ على الأرضِ من أشخاص وثقافاتٍ ونظريّات وقوميّاتٍ. حتى يكفّ اللهُ عن رسمِ سياسات البشرِ، ويكف عن التدخل في تكوين دولهم ودساتيرهم واقتصادهم، مكتفياً برمزيّته المعنويّة والأخلاقيّةِ الرّوحيّة، جالسا في مملكته الخاصة، تاركاً شأن العالم للعالم، وأنْ يسحبَ الغطاءَ عمّنْ يحتجّ به وبمشيئته في قتلِ الفكرِ والإنسانِ. عندها سيتمكّن الفكرُ من تحديدِ ماهيّةِ المجتمعِ الحديث، مجتمعِ العلمانيّة والعقلانيّة والقانون. عندها سيمارس من شاء إيمانه وعباداته وطقوسه الشّعائرية والرّمزيّة دون أن يكون هذا عائقاً أمام طبيعة المفهومات التي لا تمتّ بأدنى صلةٍ لا بعبادة ولا بخالقِ العباد.
مع التّحرّر من سلطة النّموذج سينمو الفكر نموّاً طبيعيّا تحتَ الشّمسِ، وستولدُ مناهج لها علاقة بأشكال البشر وطبائعهم وأسئلتهم هم، لا بأشكال موتى يبثّون أوامرَهم ونظريّاتهم من قبورهم.
ممكنٌ عندَ تفكيكِ النّموذج أن تولدَ الأسئلةُ الوجوديّة الحقيقية، أن يقوم العقل بإنجاز حداثاته المتولّدة بعضها من بعض، متنبّهاً إلى ضرورة عدمِ الوقوع في فخّ ما تحرَّرَ منه. أي لا يجوز أنْ تصبحَ الحداثةُ هي الأخرى نموذجاً يحلّ مكان نموذج، لأن ذلك تقزيمٌ لطبيعةِ إنجاز الحداثة وتحويل لها إلى فعلٍ كيديّ، والتّاريخ لا يُبنى بكيديّاتٍ وأهواءَ انتقاميّة. ثم إن طبيعة مفهوم الحداثة في معناها الجوهريّ، قائمةٌ على النّقد المستمرّ لنفسها وهدم مفهوماتها وإعادة بنائها بما يتوافق ويتناغم مع سيرورة الزّمن والبشر، ولا يوجد حداثة في العالم إلاّ في الثّقافة العربيّة، تركن إلى منجزاتها ونتائجها، ذلك لأنّ هذا الفكر تعاطى مع الحداثة كمن يتعاطى مع النّموذج المقدّس، فانقلبت إلى وصفةٍ سحريّة لعلاج الأمراض الثقافيّة المزمنة، ولكنها وصفة نهائية ثابتة أي مقدّسة. وهذا في عمقه قراءة قرآنيّةٌ لمفهوم الحداثة. لقد أراد الفكر العربيّ أن يتحرّر من سلطة نموذج قائمٍ في تاريخه، لا ليخلقَ بدائله من قلب مجتمعه وتغيُّرِه وتحوُّلِه، فاستقدم نماذجَ قدّسها هي الأخرى، وفُرّغت الحداثةُ بهذا من درسها الحقيقيّ وأصبحتْ تزييناتٍ وزخرفاتٍ على ثوبٍ هو بالأساس يتعارضُ مع طبيعة الحداثة. ذلك لأنّ الذّهن العربيّ في أعماقه المترسبة لم يتمكّن في مجالات كثيرة من التّحرّر من تقديس النّموذج، فنقلَ القداسة من نموذج وأسقطها على نموذج آخر، وبقي يدور في الدّوامة نفسها. إن الفكر عندما يبحث عن مرجعيات نموذجية خارج التّاريخ سيخونُ مهمته ويشوّش على نفسه. فالغربُ الذي كان الأجدرَ تاريخيّاً بتحقيق الحداثة، لم يسمحْ لها أن تصبح نموذجاً، بل من غير المفهوم غربيّا أنْ تكونَ الحداثة نموذجاً، لأنها ليست مرحلةً ينتهي إليها التّاريخ مستقرّا عليها، فالتّاريخ لا يستقرّ ولا ينتهي. بل على العكس من ذلك تماماً، إنّ الحداثةَ حالةٌ مستديمة مستدامةٌ معاً، جاءت من خلال نقد التّاريخ بما فيه من معرفة وثقافة ولاهوت وإبداع، وبالتّالي تحتوي الحداثة في داخلها على جميع إمكانيات وظروفِ أن تولد منها حداثة ستحمل في داخلها هي الأخرى إمكانياتٍ لحداثةٍ تاليةٍ، هذا لا يتمّ إلا من خلال دوام مساءلتها لذاتها وتفكيكِها ونقدها بل ونقضها. فأين المجتمعُ العربيّ من ذلك؟ هذا المجتمع الذي تعامل مع الحداثة متوهّما أنها نهاية التّاريخ فعلاً، قبلَ أن تتبلور فكرة نهاية التّاريخ عند فوكوياما. الحداثة لا تُنهي تاريخاً، هي مضادّة للنّهاياتِ محتفيةٌ بالبدايات بشكلٍ مستمرّ. ولهذا قام العرب بتحويل الحداثة إلى نمط نهائي أرادوا له أن يتنمذجَ ويتأبّد، وليتهم استطاعوا حتى أن يكونوا على مستوى هذا النمط، بل ظلوا عالقين في اللّحظة الحرجة ممّا قبل الحداثة!.
(الحداثة النّموذج) تحولت هي الأخرى إلى نمطٍ قائمٍ في الذّهن فقط، تجلّى في حداثات أدبية ونقدية نظرية، لا رصيدَ على أرض الواقعِ لها. وكانَ يلزمُها شعراء يضمرون وعياً دينيّا بالعالَم وبالآخر وبالذات، لكنهم يكتبون مع ذلك قصيدة حديثةً بأشكالها المختلفة، فكان شعرهم خارج التّاريخ لأنّ وعيهم لا تاريخيّ بالأساس. وكان يلزم هذه (الحداثةَ النّموذج) نقاد يضمرون الوحدانيّة والإطلاقيّة عثروا على ضالّتهم البديلة في مناهج نقديّة أحاديّة استمسك كلّ منهم بمنهج معتبرا إياه، وبالصّيغةِ الإسلاميّةِ الأصوليّةِ، طريقةً تحتوي الحقائقَ كلَّها، وصمّمَ أن قراءته هي أنجح القراءات وأصوبها، وكل ما يخرج عن مسارها قراءة باطلةً غيرَ صحيحة، أيْ كافرة بتلك الصيغة الأصولية. معتقدا أنه امتلك النَّسقَ المتكامل والشمولي، وهو نسقٌ غيرُ موجود إلا في قرارةِ الوعي الدينيّ البحتِ، العائمِ خارجَ الواقعِ وتنوُّعِهِ واحتياجاتِهِ المتبدّلة. ولا يوجدٌ نسق شموليّ إلا لدى من يخضعُ لسلطةٍ رمزيّة تتغلغلُ في تلافيف تفكيره بصورةٍ ماكرةٍ تنتجُ وعياً زائفاً ماكراً بالضّرورة.
إنّ النّسقَ الشّموليّ داءٌ عضالٌ لادّعائه احتواءَ ما يستحيل احتواؤه حين يزعم أنّ "المعرفة" كلها داخله، متماهياً بذلك مع الوعي السّماويّ المهيمن الممتلك للمعرفة كلها. ولا حلّ أمام هذه الحالة، (وهنا – أخيراً - تلخّص وجهةَ النّظر هذه مقولتها) إلا في ضرورة الانتقال من شعار " لا إله إلا الله " إلى " لا إمام سوى العقل "...
[email protected]
• محمد علاء الدين عبد المولى – مكسيكو سيتي
08-أيار-2021
26-تشرين الأول-2019 | |
28-أيلول-2019 | |
07-نيسان-2018 | |
30-أيلول-2017 | |
28-كانون الأول-2013 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |