من مذكرات نذير فنصة 1

في السابعة من صباح 30 آذار ( مارس ) 1949 ، بدأ أول فصل في مأساة الانقلابات العسكرية ، و وجدت نفسي فجأة في خضم حدث عربي كبير غير منتظر ، غير في وجه سورية و المنطقة العربية تغييرا عميقا.
**
بالنسبة إلى المواطن السوري أو العربي آنذاك ، الغموض كان كاملا : قائد الانقلاب لم يعلن عن نفسه ، و اقتصر على مهر البلاغ رقم واحد بتوقيع " القيادة العامة للجيش و القوات المسلحة ". لماذا ؟ ماذا يخشى ؟ هل سيعيد أمانة الحكم إلى أهلها ، أم أن مظاهر الشرعية الدستورية سيستهلكها شيئا فشيئا. الأمر الواضح هو أن سورية لن تكون بعد الآن كما كانت في الماضي.
قائد الانقلاب هو الزعيم حسني الزعيم ( الزعيم كان اللقب العسكري المعرب عن " كولونيل " و قد تغير إلى عميد عندما توحدت في ما بعد الرتب العسكرية في الجيوش العربية ). و كان عمره يوم الانقلاب خمسين سنة. لم يكن اسمه أو حتى صورته أمرا مجهولا على السوريين في ذلك الصباح من آذار ( مارس ) 1949 .
معرفتي بالزعيم حسني الزعيم تعود إلى سنة 1945 ، إثر إجراء الانتخابات النيابية التي حملت إلى الواجهة السياسية الأولى زعماء سورية المستقلة ، مثل شكري القوتلي و جميل مردم و سعد الله الجابري و رشدي كيخيا و ناظم القدسي و عدنان الأتاسي و حلمي الأتاسي و أسعد هارون ، و الشاعر بدوي الجبل و أكرم حوراني و رئيف الملقي و عبد الرحمن العظم و نجيب الريس و غيرهم. كنت رئيس تحرير جريدة " ألف باء " الواسعة الانتشار آنذاك. كان بعض هؤلاء السياسيين و الصحافيين يجتمع يوميا في مقهى " الطاحونة الحمراء " على ضفة نهر بردى في دمشق. كانت الحلقات الدائمة تتشكل من أكرم حوراني و صلاح البيطار و ميشال عفلق و فريد مرهج و هاني السباعي و رئيف الملقي و حلمي الأتاسي و الشيخ طراد الملحم ، معظمهم كانوا مجموعة النواب الشباب الذين يلتقون مع الصحافيين لساعتين قبل ظهر كل يوم حول فناجين القهوة و دخان النرجيلة. أحيانا كان يدخل علينا شخص قصير و سمين يقدم نفسه إلينا باسم حسني الزعيم. كان يجلس مع بعض هذه الحلقات الدائمة ، و لا يبدو أنه كان على معرفة وثيقة بأعضائها.
كان أحيانا يتحدث إلينا فيقول إنه ضابط سابق في الجيش الذي كان في أيدي الفرنسيين عندما كانت سورية لا تزال تحت الانتداب كان يخبرنا أن الفرنسيين الديغوليين اعتقلوه خلال الحرب العالمية الثانية و أن سلاحه أطلق عندما حصلت سورية على استقلالها ، و لكنه سرح من الجيش.
كان أحيانا أيضا ، يعود أكثر بذاكرته فيحدثنا عن دراسته العسكرية في سورية و تركيا ، ثم في فرنسا في ما بعد ، و كيف اعتقله البريطانيون في مصر خلال الحرب الأولى ، و كيف التحق بعد ذلك بالجيش الفيصلي العربي.
ثم بدأ حسني الزعيم يشكو وضعه الحالي ، فكان يخبر بعض هؤلاء النواب الذين كنا نجالسهم بأن قادة سوريا المستقلة يترددون في إعادته إلى صفوف الجديش ، و أنه ينوي إقامة دعوى لدى مجلس الدولة لاسترداد حقوقه العسكرية. كان يرتدي طبعا الملابس المدنية ، و لكن آخر رتبة له في الجيش عند تسريحه كانت رتبة عقيد. كان يدخن النرجيلة باستمرار طالما هو جالس معنا.
بعض النواب في حلقتنا في مقهى " الطاحونة الحمراء " تحمس لمطالب حسني الزعيم و وعده بالتدخل من أجل إعادته إلى الجيش. ثم ، شيئا فشيئا ، تعمقت علاقته معي و صار يزورني يوميا في مكتبي في جريدة " ألف باء ".
من خلال جلساتي المسائية معه في مكتبي تعرفت أكثر على حسني الزعيم و ماضيه. فهو من مواليد حلب عام 1889 . و والده كان رجل دين و كان مفتي الجيش العثماني ، و له شقيق هو رجل دين توفي قبل أعوام قليلة و اسمه الشيخ صلاح الدين الزعيم ، و شقيق آخر هو بشير الزعيم. و كان حسني يردد دائما موضوع رغبته في العودة إلى الجيش ، مما جعلني مرة و خلال زيارة لي إلى وزير الدفاع آنذاك المرحوم أحمد الشراباتي ، أتحدث في هذا الموضوع مع الوزير ، و لكن ما أن لفظت اسم حسني الزعيم حتى هب الوزير الشراباتي واقفا و صارخا : يا لطيف ... لا تذكر هذا الاسم مرة ثانية أمامي. هذا رجل مغامر و العياذ بالله منه.
و عندما حل جميل مردم محل أحمد الشراباتي في وزارة الدفاع ، ذهبت لمقابلته و قلت له إن جيشنا فتي و نحن بحاجة إلى ضابط مثقف عسكريا مثل حسني الزعيم الذي مر على المعاهد العسكرية الكبيرة في تركيا و سورية و فرنسا.

المؤلف ( نذير فنصة ) : من مواليد حلب . و من رجال الصحافة في سوريا بعد الاستقلال. رافق حسني الزعيم في التخطيط للانقلاب ثم في إدارة الدولة. و كان عديله أيضا.
منشورات دار الآفاق الجديدة ، بيروت ، 1982 . ص : 9 – 13 .