أقنعة البلاغة الأَيْروتيكية / 'بازي النسوان' للشاعر العراقي محمد مظلوم
2008-05-17
بازي النسوان" آخر إصدارات الشاعر محمد مظلوم. قصيدة طويلة، أو "نشيد" عالي النبرة لـ وعن زير نساء يجد في تدوين تجاربه الجنسية بديلاً عن الانخراط في طقوس "المجون،" أي الحرب الأهلية، شأن أولئك الذين يمضون "ملثمين إلى حواجزهم/ وتقطر من وجوههم شهوة الغموض"(ص7). تندرج القصيدة في خانة الأدب الايروتيكي، أو الشبقي، يشير إلى ذلك، ابتداءً عنوانها. أما صورة إيروس، إله الحب، التي تظهر على الغلاف فتعضد العنوان، من جهة، في تأكيد النوع الأدبي الذي تنتمي إليه القصيدة، وتفترق معه دلاليا، من جهة أخرى، على مستوى تصوّر الذكر، وتمثيله، لنفسه في علاقته بالأنثى.
يشير عنوان القصيدة بوضوح إلى هيمنة ذكورية مقابل خمول وعجز أنثوي: البازي مقابل فرائسه: فاعل نشط للفتك الجنسي، مقابل المرأة كموضوع للرغبة الجنسية خامل كلياً ومعدٍّ للاصطياد. ثمة أيضاً في استعارة البازي إيحاء بالسادية وكأنها من قرائن الفحولة، الأمر الذي
يتضمن أن التلذذ بالألم، أو المازوشية، عَرَض أنوثي، إذا جاز الاشتقاق. بيد أن إيروس، وقد يكون قناعاً آخر لبطل القصيدة، يظهر في الصورة خاملاُ، رِخواً، وكأن ليس هناك ما يمكن اصطياده، حتى ليبدو، هو نفسه، مادة للاصطياد.
في العادة، يُصور إيروس (كيوبيد لدى الرومان)، طفلاً يحمل قوسه الصغير متأهباً لإطلاق سهم الحب، وأحيانا رجلاً على قدر من الاكتمال الذكوري. ومن المعتاد، أيضاً أن تُزيَّن كتب الإباحة الذكورية بصورٍ تحتل فيها الأنثى، عاريةً أو في وضع مثير، موقع المركز بالنسبة لما حولها. مع "بازي النسوان" تبدو صورة الغلاف وكأنها إفصاح عن ذلك الذي تحاول الكتابة التستر عليه ابتداءً بالعنوان. البازي، ممثلاً بصورة إيروس، يظهر نصف عار، بالغ الوسامة، يرشح تثنِّيه الجسدي بغنج أنثوي، وفي التفاتته الحالمة ما يمنحه مظهراً فرائسياً صرفاً.
هذا التعارض بين ما يريده عنوان القصيدة، وما تشي به صورة إيروس، يجب القول، ليس مفروضاً على القصيدة من خارجها. فمصصم الغلاف (لم أعثر على اسمه) لا يتسبب بهذا التعارض، إنما يشير إليه فقط. ولأن "الكتابة،" كما يقول الزير، "غريزة تتنكر بالبلاغة" (108)، فالتنكر، سواء جاء بمعنى التمويه أم الإنكار، مسكون بذلك الذي يريد تمويهه أو إنكاره. أي أن التعارض الذي تنطوي عليه الكتابة في "بازي النسوان،" وفي سواه من النصوص، هو تعارض أصلي. وإذا اتفقنا مع بول دي مان، أحد التفكيكيين الأميركان، الذي يفرق بين قصد الكاتب وقصد اللغة، فأن المعنى، إذا كان للنص من معنى، هو في شقاق دائم لا مرد له مع نية واضعه. تعارض أو تناقض يسعى لتسويته كل كاتب، شاعراً كان أم ناثراً، من خلال ما يدعوه دي مان بـ "الستراتيجية البلاغية."
غلاف المجموعة
النص، حسب رأيه، مجموعة وحدات مفككة، أجزاء منفصلة يتم ربطها بلاغياً. هذا السعي لإضفاء قدر من التماسك على الكتابة يظهر في "بازي النسوان،" جلياً، من خلال الكثير من العبارات، الاستدراكية في معناها، والتي تبدو أحيانا كهوامش مفروضة بقصدية على المتن، غرضها تسويغ الايروتيكي وموضعته في سياق ما، سياسي أو اجتماعي، أو حتى أخلاقي. فالزير لا يترك الكلام عن تجربته الجنسية يأخذ مجراه كالرغبة التي تتحقق دون لعثمة أو تلكؤ. ثمة إحالات وإشارات ليست من الايروتيكي في شيء، تشكل بمجموعها نصاً آخر مبثوثاً بين ثنايا القصيدة لتوجيهها ولإحكام السيطرة على معناها. وكأن لا وسيلة لإبطال التعارض الذي يتحدث عنه الناقد الأمريكي، أو تخفيفه إلا بتقييد الكلام بوفرة من عبارات التوطئة، والتبرير:
أنا الآن مفلس من النساء
فلأكتب عنهن بندرتهن بأيامي هذه (ص9)
أو:
أنا الفاتك قبل الأربعين
الناسك بعد الأربعين (ص29)،
أو:
لست غازيا ولا إمبراطور نساء حقا، لقد
تحجبت بضمير الجماعة، وهو ذاته ضمير المثنى فلا
تنسبي الأفعال لي وحيدا، فأنا أتكلم بلسان تائه في أبجديتك. (ص121).
مع تعليقات كهذه تبدو القصيدة وكأنها مجبرة على مراجعة ذاتها، وتدارك المواضع التي يمكن للكلام، انطلاقاً منها، أن يتحرر من سلطة قائله. فالزير، والحالة هذه، لا يدوِّن سيرته فقط، إنما هو يبررها ويضعها في سياق للتأويل محدد، سعياً وراء تطابق بين القصد والمعنى، أو، بلغة الجاحظ، بين "البيان والتبيُّن".
تجد القصيدة مبررها ابتداءً في لحظة مفاضلة بين الملثمين الذهبين إلى "حواجزهم" والزير الذي يذهب لممارسة الجنس مع أنثاه. مفاضلة يلوح من بين ثناياها حكم قيمة أخلاقي بين المشاركة في حربٍ، أهلية يشير عنوان فرعي، وبين الانخراط في الإيروتيكي كتابةً أو فعلاً أو كليهما معاً. نحن إذاً إزاء شبق سياسي، أو ذو مضامين سياسية تعلن عنها القصيدة مقدماً.
"بازي النسوان،" للوهلة الأولى، أحتفال ذكوري بالحب، سرد ايروتيكي يغطي مراحل من سيرة الزير: ابتداء بالعماء، أي الطفولة واللاتمييز ـ أو اللا تميُّز ـ في الجنس، ثم التيه بين نساء عديدات، فالإهتداء، جنسيا طبعاً، إلى أنثى واحدة. إنها رحلة بحث عن الهوية، أو عما يكملها ويعيد إليها اللحمة. فالزير، كما يقول هو لأنثاه، "جريح الهوية والذكريات" (87)، وهو يبحث عن "شقة نفسه" (ص 95). مرحلة العماء أو الطفولة هذه تمثلها القصيدة من خلال التنويع على صورة الحلمة والفم، والحليب الذي يسيل من شفاه الزير أو يتناثر على وجهه. بيد أن الحليب، كما سنقرأ لا حقاً، هو من كنايات المني، الأمر الذي يوحي بأن الطفولة، طفولة الزير، هي ضرب من الأنوثة أو التأنث. يقول الزير: "أنا المقرَّط منذ طفولتي (22)، ويشير إلى أنه كان يطاردهن، أي النساء، "كَهرٍّ خجول" (ص20). أما هنَّ فيظهرن في كلام الزير عن طفولته مبادراتٍ جنسياً وقادرات على الانتهاك، إذ يهبطن من الأعالي للاصطياد:
"وأكتافهن تنسل من فجر عش في بحيرة عالية
.......
لتصطاد طائراً أعمى (19).
التيه لدى الزير، المرحلة الثانية في سيرته أو مسيرته نحو الاكتمال الجنسي، تستحضره القصيدة على شكل طواف مسهب في تواريخ وأساطير وأقنعة، وفي جغرافية شاسعة يتم اختراقها، وغزوها، باختراق وغزو أجساد النساء القادمات:
من بحار المتوسط والأطلسي
وما بينهما من جزر ميتة
......................
من صحارى العرب
وهضاب التتار
والغابات الآسيوية وشلالات الأزتيك (ص23).
ممارسة الجنس هنا، كما هو الأمر في مواضعات النقد ما بعد الكولونيالي، يأتي كفعل مقاومة، أو سرد مضاد لسرد الاستعمار. ثيمة جاهزة مفادها أن الغزو فعل جنسي، وأن في هزيمة المدن استسلام جنسي أيضاً، أنثوي طبعاً، للغازي:
كل غزوات الأمم ما وراء البحار
هي تنقيب ذكوري عاجل... (ص25).
ربما لهذا، وكفعل مقاومة كما أشرت، تكتنف الزير "شهوة لردم روح أروبا" (ص35). كما أن احتفاءه بعضوه، في هذا السياق، هو بمثابة احتفاء بقطعة سلاح. فهو يتحدث عنه بـ "سيفي الشره،" و" قضيبي... المنبثق مثل قلم... أو كرمح يحيي جمالك (ص108).
قصدياً يبدو المعنى واضحاً. كما أن الفارق بين ما يقوله الزير، وما يقوله قولُه، أو طريقته في القول، واضح أيضاً. ففيما هو يريد أن مضاجعة الشقراوات، على سبيل المثال، غزو مضاد، يتكشف إفراطه في استدعاء الآخر، الأوربي، عبر رموزه الذكورية ــ القيصر، ماركيز دو ساد، كازانوافا... الخ ــ عن استسلام جنسي مموه باستعارة ثقافية:
وجدت في سرير قيصر دمية الهزيمة
وملابس داخلية لنساء
أخفقن في التعرف على أزواجهن (ص40)
وأيضاً، فيما يحاول إبراز مزايا فحولته في مضمار العلاقة بالأنثى، يكشف بحميمية إنشاده للقضيب، عن إنجذاب أنثوي جارف لما هو ذكوري:
ديكي الأسمر الوامق
بازي الفاسق
غرابي الآبق
صقري الشاهق
سبع الطيور
صياد العسل في الديجور
حمال الإرث المهدور(ص62)... الخ.
الإهتداء إلى الأنثى التي سيعثر فيها الزير على كمال هويته، يتم أخيراً بعد تقلب بين نساء عديدات. بيد أن التقلّب بين النساء قد لا يكون بحثاً عن الأنثى إلا بوصفها رمزاً لهويته الجنسية الضائعة، الهوية بمعنى النوع: ذكراً أم أنثى أم بين بين. ففي طفولته المقرطة كان يلتذ بتحسس سخونة الحليب على وجهه، مشهد بورنوغرافي يتكرر، يأخذ فيه الزير دور الأنثى، كما تنص عليه القصيدة. مشهد الفحولة المعكوس هذا، والذي هو أيضاً، كما يشير الزير نفسه "إغواء معكوس" (ص125)، سيتم استدعاؤه لاحقاً في مواضع أخرى: "أريد أن أهيج حليبك الساخن عندما رششته مرة في تلك الحقول على وجهي ومضيت فرحة" (ص 109). ويبلغ هذا الإلتذاذ الأنوثي ذروته عندما يستسلم الزير لرغبات الأنثى التي "تلتمع" هي أيضاً في غريزته:
أضع في فمها قلما
وأناديها: يا حبيبتي
لتكتب به هذيانات لا يمكن أعرابها
في بلاغة الذهول
وأترك التأويل للبركان المتحفز في فمي (ص50).
يستعيض الذَكر هنا بالفم موضعاً للإتصال الجنسي بدلاً عن القلم الذي هو، كما تبين القصيدة، رمز قضيبي. وفي نفس السياق الدلالي يمكن قراءة إشارات مثل قوله:
أتنقب بخمارهن كذئب يتشمم أسمال ذكرياته
متفاديا غبار الوشاية،
ومتنكبا عواصف الغواية،
وأنقب في الكثبان
عن بقية الهياج الذي مررن به (17).
لماذا هذه الرغبة في استعادة "الهياج الذي مررن به،" ولماذا التزيي بإزيائهن؟!
يخترق القصيدة أيضاً ولعٌ "لذّيٌّ" بالسوائل التي تحيل في الغالب إلى المني:
ذوبان فضته البيضاء
وعسل محاقه (ص31)،
كل هذا السفر الأبيض
لنستجمع حليبنا البعيد كرجع مبدد (80)،
ما اشهى دسمك وهو يسيل من أسفل شفاهي (ص117)،
أو قوله:
وكان الزمن في تلك العتمة
يسيل لعابه الأبيض
بينما أكز أسناني
على لبن يتدفق ويقهقه (27).
في مقابل هذا التضور الأنوثي الطابع، تتسلح القصيدة بقاموس فحولي مدعوم بعدد من الشواهد الايروتيكية، فحولية هي الأخرى، من الشعر العمودي الذي سيجرب الزير استخدامه للإشارة إلى ما خفي من عِظم فحولته. فكتابة الشعر، أو "سكَّه"، بالنسبة إليه، مضمار سباق يستلزم قوة رجولية، وليس شعرية، خارقة:
هذا نشيد إغواء
لا يقوى على سكه قدامى الملوك لعشيقاتهم
ويعجز عن الوصول إليه
الرجال المعاصرون
بسياراتهم التي تتسابق في طريق خاطئ (ص83)
عموماً ليست الغاية من هذا العرض لقصيدة الشاعر محمد مظلوم القول بأن الزير أنثى متنكرة ببلاغة ذكر. لا. فقول كهذا مردود بمسوغاته ذاتها. إنما أردت فقط أن أرى كيف تتخلخل الحدود التي يرسمها ويكافح من أجل تثبيتها عنوان كـ "بازي النسوان،" على سبيل المثال. فعلى الرغم من أن ظاهره، أي العنوان، يفيد معنى التضاد بين البازي الصياد، والنساء الفرائس، بما يؤكد فحولة قائله، فهو ينطوي على احتمالٍ للمعنى آخر. فالإضافة، البازي إلى النسوان، قد تفيد معنى المِلكية، أي أن البازي ليس المفترس الذي يطارد النسوان، كما يتبادر إلى الذهن في الوهلة الأولى، بل أداتهن للإفتراس، أو رمز لتفوقهن الجنسي في مضمار التراتبية التي تقوم عليها القصيدة. عندئذ، تكون هذه البلاغة الذكورية كناية عن قناع لتمويه الخوف، أو عقدة الإخصاء التي تتمحور ــ شأن القصيدة تماماً ــ حول حيازة القضيب، من وجهة نظر فرويدية. فتمسي المرأة، لا مصدر متعة سادية، بل سبباً لمعاناة مازوشية الطابع. هذا المعنى يمكن ايضاً تقصّيه في العنوان الفرعي المثبت في صفحة الكتاب الأولى: "تضور زير نساء في حرب أهلية." فغاية الكاتب، هنا، تعضيد دلالة العنوان الرئيسي وقصرها على معنى الغلبة الذكورية. وعليه، فالمقصود بالتضور إنه جوع، جنسي هنا، يجد تعبيره، إو امتلاءه، في سادية البازي. بيد أن التضور، لغةً، يأتي كذلك بمعنى (التضعُّف)، وهو أيضاً (صياح وتلوٍّ عند الضرب من الوجع). أما الفعل (يتضور) فيعني (يتلوى ويضج ويتقلب ظهراً لبطن)، وله دلالات أخرى تشير إلى الضر والمرض. ومع ذلك، فإذا واصلنا النبش في المعاجم بحثاً عن المفردات والمعاني، كما يفعل الزير على مدار القصيدة، فلن نصل إلى أي مكان. فالبلاغة التي نتنكر بها ــ كأن الشاعر محمد مظلوم يريد ــ هي التي تتنكر بنا، ولنا أيضاً.
بازي النسوان- ضور زير نساء في حرب أهلية
شعر: محمد مظلوم
الطبعة الأولى: 2008
منشورات دار التكوين دمشق.
كاتب عراقي مقيم في أميركا
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |