Alef Logo
المرصد الصحفي
              

هل ينتحر الاستبداد العربي بفائض عنفه أخيرا !/ مطاع صفدي

2011-05-14

منذ أن نجحت الثورة الفرنسية في إسقاط ما يُدعى بالنظام القديم – أي الحكم الملكي المطلق بجناحيه الإقطاع و سلطة الكنيسة - ، سادت في الفلسفة السياسية النظريةُ القائلة: أن الطغيان و الإصلاح نقيضان لا يلتقيان أبداً، إلا بإزاحة أحدهما للآخر . فليس ثمة نظام ديمقراطي أصيل في تاريخ الغرب، لم يولد إلا من رحم ثورة حقيقية ، جذرية و شاملة. ذلك أن الطغيان لا يمكنه أن يُصلح نفسه بنفسه، و إلا فَقَدَ أمانه الذاتي، و عَرّض بنيته الحديدية للتفكيك. لا يمكن للطغيان أن يحتفظ بامتيازاته المفرطة ، و هو يتقبل جرعات من إصلاح مهادن مرحلياً.
لكنه يراكم نجاحاته النسبية حتى اللحظة التي يغدو فيها الطغيان مجرد ذكرى عهد بائد.
من هنا يقول التاريخ أن أكثر الطغاة يصمّون آذانهم عن الإصلاح معتقديِن أنهم ما داموا ممتلكيِن لوسائل العنف و البطش التي أتاحت لهم ديمومة سلطانهم الماضي، فإنهم قادرون على إجهاض حركات الاحتجاج التي لم تتمكن بعْد من إثبات قوتها الذاتية.
فالطاغي ينطلق دائماً من موقف الرافض للاعتراف بالآخر، طالما لم يتْح للآخر أن يكتسب بعض عوامل المقاومة. الطاغي لا يؤمن إلا بمنطق العلاقة الرأسية مع الآخر، مع اﻟﻤﺠتمع الذي يعتبره الخصم المنافس له غير المؤتمن على مصالح القمة المتسلطة و رعيتها اﻟﻤﺨتارة. ذلك أن كل طاغية محتاج إلى استبدال كلية اﻟﻤﺠتمع بحفنة من أزلامه، يعتبرها هي الممثلة لشعبيته، و بالتالي يحدث ذلك الانفصامُ العميق بين السلطة و قومها من ناحية، و الأكثرية العظمى من بشرية القاعدة. و لن يتهدّد هذا الانفصامُ الذي يريح شعب القمة، إلا عندما يُتاح لهذه الأكثرية من يكشف لها عن أصالة القوة التي تمتلكها، و أنها هي المالكة الفعلية لإمكانياتها، بما يجعلها، في الصراع القادم، هي المرشّحة لقلب المعادلة الرأسية البائسة.
أما ( الإصلاح) فقد يتم اللجوء إليه للتغطية على حقيقة المعادلة غير المتكافئة هذه، بين قوة للبطش الأعمى تعويضاً للطاغية عن لا محدودية الخوف الغريزي المحركة لأفكاره و خططه وأفعاله، و بين ما ينطوي عليه عدوه، الشعب، من مخزون قواه الطبيعية و الإنسانية المكبوتة أو المقموعة؛ فيحاول ( الإصلاح) أن يجعل الطاغية يختار بينه و بين حالة الانفجار المتوقعة لتلك القوى الجماهيرية التي يخشاها، وإنْ كان لا يعترف بوجودها. كأنما الإصلاحيون يدخلون كوسطاء لمقايضة خوف القمة من انفجار القاعدة، فيما يشبه صفقة تجارية ، فيها يدفع المتسلط الثمنَ ببعض التنازلات الشكلانية ، مقابل أن تتراجع المعارضة عن مطلب الثورة الناجزة ، الهادفة إلى إسقاط النظام كلياً، و تتقبل ما يسمى بأنصاف الحلول. هذا الوضع الملتبس يُصطلح عليه بالنفاق السياسوي.
الثورة العربية الجديدة مهددة بعدوها المفهومي المزمن الذي هو هذا النفاق السياسوي. سواء أطاح الشارع الشبابي بالطاغية و بعض الحاشية كما في القاهرة و تونس، أو أنه يصارع سلمياً أمنياً كما في اليمن، أو يقاتل حربياً كما في ليبيا، فإن المستقبل المرسوم لليوم التالي على التغيير القمّي بالشخص ، أو ببعض الإجراءات الفوقية ، كما في الجزائر و المغرب و سورية... و ربما الأردن و السعودية ، إلخ..
هذا المستقبل القريب أو المؤجل يراد له أن ياتي بكل الحواجز الممكنة لمنع الثورة ، باسم مسيرة الاصلاح.
في هذا السياق سوف تسود ثقافة النفاق السياسوي إعلاميًا و حركياً في آن معاً. فقد يمكن تحويل الثورة إلى مجرد إيديولوجيا مشاعة ، في الوقت الذي يتفاقم عجز النُخب الشبابية القائدة عن تفعيل المضمون الاجتماعي للديمقراطية المنشودة. إذ لا يمكن تغييرُ النظام الحاكم.. بمجرد الإطاحة بالرأس وبعض الحاشية، أو بالحد من سلطانه فحسب. هنالك ماهو الأهم والأفعل في هذا النظام: إنها بورجوازية الليبرالية الغربية المستوردة. فاﻟﻤﺠتمعات العربية عانت، في ظلِّ الاستبداد، انقلاباتٍ طبقيةً حادّة وصارخة، أقامت سدوداً نفسية واقتصادية أمام
نزعات الأدلجة القديمة، ما أبطل تأثيرها الشعبي.. إلى أن ارتدَّ الوعيُ العام إلى بديهية التغيير التأسيسية و هي: الحرية.
لكن المناداة بالحرية أولاً لا تعني التوقف عند حدود التغنّي بالكلمة وحدَها. فهي قد تموّن الشبيبة بذخيرة الاندفاع الجماهيري المطلوب لإطاحة أرباب النظام ، أو التوصل إلى تبديل رموزه أو بعض سلوكه ، لكنها محتاجة إلى نوع من المواجهة الجذرية مع المركّب الأعلى و الأعقد في صيغة الاستبداد / الفساد. فقد يتم تحديد المستبدين بسهولة ، لكن الفاسدين و أوكارهم، يستوطنون جذع الهرم الاجتماعي. فالمعركة مع هؤلاء تتطلّب أن يُعطىَ للحرية مضمونُها الاجتماعي الإنساني ، و ليس السلطوي المباشر وحده.
الفساد ليس عادة أخلاقية سيئة أو مرذولة ، تُكافح بالإرشاد التربوي أو القانون القضائي. إنه مصلحة طبقة كاملة ، ترعرعت في كنف الطغيان ، لكي تشكّل له مداميكه الاجتماعية. فالمركّب: الاستبداد / الفساد ، متضامن بنيوياً بين قطبيه ، مادامت الأكثرية محرومة من حق التعبير، و ليس من حق الاعتراض فحسب.
و لن يشرع هذا الوضعُ التضامني بالتصدّع إلا مع هبوب رياح من مصادرها الشعبية المتحركة. في هذه الحالة قد ينزاح قطب الفساد عن قطب الاستبداد المشخصن ببعض وجوهه القائدة. هكذا تُضطر البرجوازية الطارئة ، إلى التضحية ببعض تحالفاتها السياسية ، على أنها لن تتخلى سريعاً عن أسس المركّب الأصلي الذي يجمعها مع نظام التسّلط القديم.
و إن خلا من تماثيله السابقة. هذا يعني أنَّ انتهاء الثورة من رموز الحكم هو ابتداء الصراع مع قاعدته الطبقية. و لعلّه سيكون الصراع الأصعب ، إذ لن تفيد معه فقط وسائلُ المعارضة الشارعية الناجحة في إسقاط نموذجيْ الطغيان المطلق، كما وقع في القاهرة و تونس المرحلة الراهنة من تاريخ ثورتيْ هذين البلديْن ، سيكون لها عنوان واحد هو الحيلولة دون إعادة إنتاج مركب الاستبداد / الفساد ، و ذلك بالتصدي الاجتماعي و الثقافي ضد أية سلطة قائمة ، ظاهرة أو خفية ، سوف تفرزها شبكياتُ الفساد لحساب مصالحها الفئوية و الخاصة ضداً على مصلحة الأكثرية ، غير المتأطرة بعْدُ تنظيمياً أو سياسياً . في هذه المرحلة سيكون على الحرية الانتقالُ من مكافحة الطغيان السلطوي المنتهية رموزه ، إلى مصارعة سلطة المال مباشرة.
حينما يتطلب الأمر أن ينقلب اﻟﻤﺠتمع على ذاته ، أن يعيد صياغة التراتبية الطبقية لتوزع قواه البشرية.
ذلك أن سلطة المال تتمتع بقوتين متناقضتين ظاهرياً، قوة التمركز في أشخاص و مؤسسات و فعاليات فئوية أو قطاعية ، و قوة الانتشار في حلقات منداحة حول بعضها ، حتى تكاد تغطي مساحات شاسعة من أنشطة الدولة العصرية ، و معها جماعات الحراك الانتاجي.
فلا ننسَ أن ثورة الحرية هي ثورة استرداد الكرامة ، ليس من قبضة الطغيان الدولاني وحده ، بل من خزائن المال السياسي، و صفقاته الاحتكارية لجهود التنمية المزدوجة للبشر و الحجر معاً.
الحرية و النهضة ممنوعتان تحت قبضة كل من الأمن والاستغلال معاً. ما تدافع عنه القلاعُ الأخيرة للنظام العربي ، ليست هي السلطة المطلقة في حدِّ ذاتها ، إلا باعتبارها هي أداة الكسب غير المشروع. فما انتهى إليه هذا النظام هو تكوين أخطر طبقة طفيلية ، طارئة على بنية اﻟﻤﺠتمعات الأصلية ، عِمادُها الفُحْش غير المحدود في التسلط الغريزي ، و النهب اللامشروع و المضاد لأية مفاهيم أخلاقية ، واقتصادية ، بما فيها الليبرالية عينها ؛ فأصحاب الطغيان و زبانيته ، و زبائنه ، يؤلفون ثلاث زُمر متكافئة متضامنة ، واضعةً ذاتَها ما فوق الوطن و القانون و المواطنين. هذا الجشع للتملك من كل شيء ، هذا النَّهم البهيمي لطقوس الصلَف الأجوف ، و التمظهر الصارخ بأفانين البذخ الفاحش، حَفَر هوة سحيقة بين أهل السلطان وغالبية عظمى من أحرار الشعب ، الذين يراد لهم أن يتحولوا إلى مجرد عبيد لسادة الأمر الواقع.
عندما يُفاجأ مجتمعُ الطواغيت بصياح الناس اﻟﻤﺠهولين من حول قلاعهم الصمّاء و قصورهم الشاهقة ، ليس لهم ألا أن يعلنوا حرباً غير مقدسة على ( شراذم ) المتمردين على الذل و الهوان و الفقر. فكيف يمكن للسيد المتجبّر أن يتنازل طواعية عن السوط في يده، فيكفّ عن لسع ظهور عبيده القدامى. و قد آن لهؤلاء أن يطالبوا هم بانحناء ظهور أعدائهم ، و ليس فقط بالتخلي عن الأسواط كلها في الأيدي القاتلة القذرة.
هل كان لفرعون مصر أن يبكي بين أيدي قضاته أخيراً، لو لا أنه لم يخسر معركة اﻟﻤﺠزرة الأخيرة من سلسلة مجازره ضد أنبل شعب عربي في مصر الخالدة . فليس للاستبداد إلا رأسمال واحد، و هو فائض العنف الوحشي على كل عنف آخر لاعتراضٍ إنساني يمارسه شعبُ المضطهدين المظلومين. و لكن عندما تختلّ هذه المعادلةُ لن يتبقَّى لنظام الاستبداد إلا أن يبكي فرعونه الأكبر بين أيدي قُضاته العادلين.
أما زملاؤه الفراعنة الصغار فسوف يتبعون مصير زعيمهم أخيراً .. أليس من المحزن و المفجع حقاً ألا يتبقى لأي ( زعيم( عربي ثمة من رصيد له عند شعبه ، إلا مقابر القتلى و الشهداء، و مفاتيح السجون، و رسوم دماء المعذبين على جدران الأقبية المظلمة.
غير أن المؤسف كذلك في تاريخ الاستبداد أن سلالة الطواغيت فاقدةٌ لذاكرة أصنامها ، كبيرها و صغيرها، لذلك لن تنقرض هذه السلالة إلا عندما تتعلم شعوب العرب و الإسلام كيف تحترم ثقافة الحقيقة ، ما فوق كل أدلجة أو عقيدة أو طَقْسنة. المسؤول الحقيقي عن إنتاج سلالة الطواغيت و استمرارها هو هذه الشعوب نفسها. الفاقدة لحسّ الاتجاه عقوداً طويلة ، قبل أن تهتدي إلى الحرية كفعل و ليس كلفظ.
لعلّنا دخلنا عصر الرهان المستحيل الممكن: أن تُمارس جماهير العرب أفعالُ الحرية ، بديلًا عن أكاذيب الزعماء و الأدلجات.
عن القدس العربي

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow