ديمقراطية حاكمة و ديمقراطية محكومة / عصمت سيف الدولة
خاص ألف
2011-05-17
يقترح الأستاذ جورج بوردو ، في الجزء الرابع من موسوعته العلوم السياسية ، تقسيما تجديدا و طريفا للديمقراطية. فبالإضافة إلى تقسيمها التقليدي إلى ديمقراطية مباشرة و ديمقراطية شبه مباشرة و ديمقراطية نيابية ، يقول إنها نوعان : ديمقراطية محكومة و ديمقراطية حاكمة. يقصد بالديمقراطية المحكومة نظاما تتوفر فيه كل الأشكال الدستورية التي تسمح بإسناد قرارات الحاكمين إلى الشعب المحكوم : الحرية الفردية و الاقتراع السري العام ، و الانتخابات الدورية ، و المجالس النيابية.. إلى آخره ، و مع ذلك لا تكون قرارات الحاكمين ، المسندة دستوريا إلى الشعب معبرة عن الإرادة الشعبية الحقيقية. و يقصد بالديمقراطية الحاكمة نظاما تتوفر فيه كل الأشكال الدستورية أيضا و لكنه يتميز بأن القرارات التي يصدرها الحاكمون فيه معبرة عن إرادة " الشعب الحقيقي ".
و يدور كل اجتهاد الأستاذ بوردو حول المحور الذي تعبر عنه هذه الكلمة الأخيرة " الشعب الحقيقي " إذ للشعب ، عنده دلالتان تتصل كل منهما بمفهوم متميز للديمقراطية فتكون ديمقراطية حاكمة أو ديمقراطية محكومة تبعا لما تعنيه كلمة الشعب في كل نظام.
و قد جاء أبسط ما قدمه إيضاحا لفكرته في كتابه عن " الديمقراطية " . فنجده هناك يتحدث عما يسميه " شعب المواطنين " و يميزه بما يتميز به " المواطن " ، فيقول إن المواطن ليس هو الفرد بكل خصائصه الذاتية من أنانية و طمع و تحيز لمصلحته الخاصة في مواجهة المصالح الدائمة للمجتمع ، بل هو الإنسان الواعي المتحرر من الانحياز إلى مصالحه و من متاعب ظروفه الاقتصادية ، القادر دائما على أن يدلي برأي محايد في الشؤون العامة غير متأثر بما يفضله لنفسه. إنه ، باختصار ، ملاك علماني مجرد من المصلحة الشخصية. بمجرد تشكيل صورة المواطن على هذا الوجه يصبح سهلا تحديد مفهوم " شعب المواطنين ". يقول الأستاذ بوردو أن المميز الأساسي لهذا المفهوم هو غربته الكاملة عن الحقيقة الاجتماعية. إذ أنه يتجاهل كل ما يوجد داخل الجماعة من أسباب التنوع و الانقسام و التميز و التعارض كالمولد و الظروف الاجتماعية و الموارد الاقتصادية و الأذواق و المقدرات. إن " شعب المواطنين " شعب من أفراد نمطيين. شعب مسخت حقيقته الاجتماعية ليطابق فكرة مجردة.
في مواجهة هذا المفهوم للشعب يوجد مفهوم آخر مناقض له. إنه الشعب المكون من " الإنسان " كما هو في الواقع. و في الواقع لا يتميز بجوهره أو بعلاقته بنمط مثالي و لكن بخصائصه التي يكتسبها من وضعه الاجتماعي المختلف عن وضع غيره من الناس. إنه الإنسان الذي نقابله في علاقات الحياة اليومية كما تحدده مهنته و أسلوب و وسائل حياته و ذوقه و احتياجاته و الفرص المتاحة له. إنه الإنسان في ظروفه و الذي يمكن التعرف عليه عن طريق ملاحظة أسلوب حياته الواقعية و ليس عن طريق التأمل الميتافيزيقي في جوهره. هذا الإنسان الواقعي يتميز بخصائص مناقضة تماما لتلك التي تميز المواطن. و يؤثر هذا الخلاف الجذري تأثيرا عميقا في نوع الديمقراطية. ففي حين يحمل المواطن في ذاته الامتيازات التي اكتسبها من طبيعته الإنسانية و يحاول أن يفرضها على البيئة التي يعيش فيها ، يتعين على الإنسان الواقعي أن يتوقع من الوسط الذي يعيش فيه إتاحة الفرصة لاكتسابها. هذا من ناحية ، و من ناحية أخرى تعتبر " حرية " المواطن إحدى خصائصه الذاتية فهي مشروطة و ميتافيزيقية و لصيقة به أينما كان و بالتالي في غير حاجة إلى أن توجد بل إلى الاعتراف بها. و هي لا تتطلب من النظام الاجتماعي القائم إلا عدم المساس بها. أما " حرية " الإنسان الواقعي فهي مفتقدة دائما بحكم أن احتياجاته متجددة أبدا. لهذا نجد أن الإنسان الواقعي ، على عكس المواطن تماما ، ينزع إلى التحرر من أية علاقات اجتماعية تسمح له بالتمتع بحريات شكلية لم يكتسب مضمونها الواقعي بعد ، فهو نزاع دائما إلى التغيير الاجتماعي.
على هذا الأساس تفترق الديمقراطية المحكومة عن الديمقراطية الحاكمة. الأولى قائمة على أساس شعب من المواطنين فتكون غايتها أن تحكمه حكما مناسبا للمجتمع القائم فعلا بصرف النظر عما يريده الشعب الحقيقي. أما الديمقراطية القائمة على أساس الشعب الحقيقي فتكون غايتها خلق عالم جديد. عالم متحرر بديل عن الواقع تشبع فيه الاحتياجات الفعلية للشعب. ديمقراطية تكون القرارات فيها خاضعة لتلك الاحتياجات.
**
من الممكن أن نقول إن " الديمقراطية المحكومة " كما عرضها الأستاذ جورج بوردو هي نموذج لما نعنيه " بالاستبداد المتحضر ". فها هنا نظام ديقراطي كامل الشكل و المواصفات التقليدية ، يحكم فيه الشعب نفسه بنفسه ، كل ما في الأمر أنه شعب زائف. يطبق هذا النظام على شعب حقيقي واقعي مناقض في خصائصه و مصالحه و إرادته للشعب النمطي الزائف. و فيه تسند إرادة موهومة لشعب زائف إلى إرادة غائبة لشعب حقيقي. و لما كان الموجود حقا هو الشعب الحقيقي لا يكون من العسير أن نتبين في الديمقراطية المحكومة أداة استبداد بالشعب الحقيقي بالرغم من كل ما يتوفر فيها من أشكال دستورية للمارسة المسماة ديمقراطية. إنها إذن " استبداد".
من كتابه الإستبداد الديمقراطي – دار الكلمة للنشر
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |