هل يمكنك القيام بتعذيب شخص لا تعرفه ولم تلتق به في حياتك في حال طلب منك ذلك، وفق اعتبارات معينة؟ لا تقلق، الإجابة إلى حدّ كبير هي : نعم!! أدبيات ما بعد الحرب العالمية الثانية أظهرت الأهوال التي تعرّض لها الآلاف من "البشر" في معسكرات الاعتقال النازية، ودفعت بباحثين كثر حول العالم لدراسة ظاهرة "التعذيب" ومنهم ستانلي ميلغرام (Milgram, 1974)، الباحث النفسي في جامعة يال في أمريكا، الذي أظهر بتجربته الفريدة عام 1961 بأنّه ليس من الضروري أن يكون القائم بالتعذيب سادياً أو عنصرياً أو طائفياً أو عنيفاً (رغم أهمية هذه العوامل)، بل يتجذّر العامل الحاسم للإتيان بهذا العمل الشنيع في وجود "سلطة" أو "شخص يمثل سلطة" تتمتّع "بشرعية" معيّنة، غير خاضعة للنقاش في عقل القائم بالتعذيب، وعندها تبدأ الرحلة…
تعتبر التجربة التي قام بها "ميلغرام" إحدى أهمّ تجارب علم النفس المثيرة للجدل في القرن العشرين، حيث طُلب من مجموعة من المفحوصين (على فكرة..من جميع الأعمار و المهن والطبقات) تقمصّ دور المعلم ومراقبة أداء شخص في تعلم سلسلة من الكلمات، وذلك عبر تقديم "صدمة كهربائية" في كل مرة يقوم فيها المتدرّب بارتكاب خطأ في التذكار. الصدمات الكهربائية تم تقديمها بشكل متدرّج من 30 إلى 450 فولت وبمعدل تصاعدي يبلغ 15 فولت في كل مرة. نتائج التجرية أظهرت أن حوالي 65% من المفحوصين (المعلمين) قد وصلوا إلى الصدمة ذات القيمة 450 فولت وذلك رغم الصيحات المتعالية وطلبات الرجاء المتكررة من قبل المتدرب بالتوقف! (قام بهذا الدور ممثل دُرِبَ على الاستجابة للصدمات الكهربائية بشكل يبدو حقيقيا إلى حدّ كبير). صُدم فريق البحث بالنتائج "المروعة" وتمت مناقشة المفحوصين "الجلادين" بعد التجربة. ولدى سؤالهم عن سبب المتابعة في تقديم الصدمات الكهربائية رغم سماعهم استغاثات المتدرب البائس في الغرقة المجاورة، كان هناك إجماعٌ مفاده: هكذا كانت التعليمات! أو هكذا طلب منا رئيس التجربة!؟ رئيس التجربة هذا تم اختياره بعناية فائقة، رجل يتمتع بملامح حادة نوعاً ما وذو نبرة تتسم بالوضوح الممتزج بالصرامة! هذا الرجل كان يتابع الموقف عن كثب، وعندما يتردد بعض المفحوصين في تقديم الصدمة، كان يتفوّه بعبارة محدّدة من قبيل : أكمل لو سمحت.. أو..ليس لك خيار آخر، أكمل التجربة لو سمحت!
شكلت هذه التجربة "صدمة" عالية المستوى في الوسط العلمي السيكلوجي حول الكيفية "السهلة نسبياً" التي يتم فيها الخضوع لسلطة معينة وتنفيذ أوامر تتعلق بإيذاء وتعذيب أشخاص أبرياء من قبل أناس عاديين لا بل "طيبين"، من المرجح أن يعُدُوا للمرة الألف قبل الإقدام على هذا الفعل لولا وجود هذه السلطة التي تم إسباغها "بشرعية مفترضة"! أعيدت هذه التجربة مرّات عديدة وفي أماكن مختلفة من العالم (مثلاً في استراليا وإيطاليا) واستمرت المفاجأة في النسبة العالية للأشخاص الذين ينفذون أوامر تتعلق بإيذاء الأخرين، فقط لأنّ "رئيس التجربة طلب ذلك أو..هكذا كانت التعليمات"؟!
في تحليله لظاهرة "الخضوع الأعمى للسلطة" أشار زيمباردو (Zimbardo, 2008) (أحد أهم علماء النفس على مستوى العالم حالياً) إلى أن ظاهرة التعذيب تتركز على "بعيرين" إثنين، أحدهما يتصل بالإيديولوجيا السائدة والمهيمنة في زمن معين والآخر على علاقة كبيرة بالحاضن الإجتماعي لفكرة التعذيب ومدى تقبلها في المجتمع بشكل عام. وهنا بيت القصيد…
هل تتذكرون برنامج حكم العدالة، الذي كانت تبثه إذاعة دمشق (لا مئطوعة ولا ممنوعة كما يقول المثل) في الواحدة والنصف من ظهر كل ثلاثاء في فترة الثمانينات والتسعينات من القرن الغابر؟ أحسنتم، إنه "المساعد جميل" الذي كان يهدد به أحد الأخوين "قنوع" المتهمين "الافتراضيين" بعبارة أصبحت مثالاً للتندّر: بدك تحكي ولا بجيب لك المساعد جميل؟
إنظروا مرة أخرى إلى مشاهد العنف الوحشي من قبل أجهزة الأمن ضد المتظاهرين العزل ولا تتعبوا أنفسكم كثيراً في البحث عن جماعة "طائفية" أو "عرقية" لتجاهروا وتقولوا: ألم نقل لكم! لا..بل تفحصوا مرات ومرات في "آليات السلطة والخضوع" في بيئة حاضنة، وعندها ربما سترون مثلي بأن "المساعد جميل" قابع في القمقم المسكون فينا، وستعرفون بأن العنف لا دين له ولا طائفة ولا مذهب..إنه الاعتقاد الجازم، غير القابل للنقاش بأن ما نفعله هو في "مصلحة الوطن" ومن "ضرورات الأمن" و"التصدي للمؤامرات" وهذا كافٍ إلى حد بعيد حتى نتحول لقوم "لا يُمَيزون الجَمَل من الناقة"..والسلام عليكم.
المراجع: Blass, T. (2004). The Man Who Shocked the World: The Life and Legacy of Stanley Milgram . New York: Basic Books.
Milgram, S. (1974, 2009). Obedience to Authority: An Experimental View. New York: Harperprennial Modernthought.
Zimbardo, P. (2008). The Lucifer Effect: Understanding How Good People Turn Evil. New York: Rndom Hause.
عن موقع الأوان