الدين، جدل الحضور والغياب في تاريخ الفلسفة / المصطفى مرادا
2011-05-23
نستطيع الجزم أن الفكر السياسي والفكر العلمي الحديثين قد حسما مند مدة في حضور مقولات الدين في منهجيهما ونظرياتهما، بأن تمّ تحييد الدين عن مبحثيهما ليصير محض اعتقاد فرديّ خالص لا تتعلّق به "إنية" الإنسان، ولا وضعيته السياسية والأخلاقية، على خلاف ما كان عليه الأمر في القرون الوسطى، لكنّ هذا الحسم لم يكن على مستوى مبحث الفلسفة إذ أنّ قضايا الدين ومقولاته ما فتئت تموت وتحيا، لكنها ظلت دائما كمشكلة فلسفية، بمعنى أنّ الحداثة حسمت مع الدين رمزيا ومؤسساتيا واجتماعيا لكنها لم تستطع التخلّص منه على مستوى البحث الفلسفي، إذ ما لبثت القضايا والمقولات الدينية تصحو في استدلالات عقلية وحجاجية جديدة، وهذا ما سنحاول مقاربته بما يسمح به الحيز.
كان أرسطو الفيلسوف الأوّل الذي وضع ترتيبا للإلهيات يجعل منها مبحثا منفصلا في كل شيء، من حيث المقولات والمنهج والمقاصد، منفصلا عن مباحث الطبيعيات والرياضيات، فهي أي الإلهيات، تبحث في أسمى الموجودات وأشرفها كالله والعقول المفارقة، ويسمّيها أرسطو بالفلسفة الأولى(1)، وهذا المبحث ذو المقاصد النظرية الخالصة فصله عن مبحث الأخلاق وضمنه السياسة، وهذا واضح في كتابه "الأخلاق إلى نيقوماخوس"(2)..غير أنه يؤكّد على علمية علم الإلهيات لأن هدفها هو الوصول إلى الحقيقة، وبالتالي فهي مستقلة عمّن يدرسه.
وهذا الترتيب سيغيب لمدة قرون، هي قرون الفلسفة المشائية، عندما أصبحت كل المشكلات الفلسفية مشكلات دينية، من خلال استعارة المقولات الأرسطية وأغلبها من مبحث الطبيعيات، وتحميلها معاني من الإلهيات، وهذا الخلط كانت له أثاره الكبيرة على الفلسفة بحيث لا يخلو كتاب من أمّهات الكتب الفلسفية الحديثة والمعاصرة من تأمّل لموضوع الدين، سواء بالنقض والتفكيك والتجاوز، أو بالتبنّي محاولة استنبات بعض مقولات الدين وفقا النسق الحجاجي الفلسفي كما سنبيّن لاحقا.
فنقول إذن إن تاريخ الفلسفة لم يكن يوما فيما بعد أرسطو في منأى عن مشكلات الدين، فإذا كان هذا أمر بديهيا في القرون الوسطى كما سنرى- فإنه سيصبح مثيرا للانتباه أن نجد في القرن السابع عشر فيلسوفا وعالما كباسكال(3) يعتبر من أشد مناوئي مقولات العصر الحديث باستناده إلى مقولات تيولوجية، حيث نجده يتكلم عن الله بالأفق نفسه لطوماس ألاكويني وسان أوغوسطين، استمرار حضور إشكالات التيولوجيا في تاريخ الفلسفة أمر واضح في كل محطات هذا التاريخ، غير ان ما يميز باسكال هو كونه واضحا في إعلان الحاجة لتديين العلم وعقلنة الدين، بشكل يجعل الحقائق الدينية مؤسسة تأسيسا عقليا وبرهانيا، على النحو الذي نجده مثلا في كتابه " pensées" 4، في الفقرات التي يتناول فيها مفهوم الله، أي الفقرات، 124 و 397 و 680 و 738 221 وغيرها من الفقرات، أو مفهوم الخشية la crainte، في الفقرات 91 و 204 و 451 و 559، ونفس الأمر في مفاهيم الرحمة والكنيسة وآدم والعظمة الالهية والمعجزة، أو بالمقابل أن يؤسس للقضايا العلمية تأسيسا لاهوتيا، كما في مفهوم السبب كما في الفقرة 78 و 79 و 138 و 419 و مفهوم الصدفة في الفقرات 94 و 124 و 358 و 459 ونفس الشيء في رفضه لمفاهيم اللاتناهي والميتافيزيقا والأنا.
ويصبح الأمر أكثر جلاءً اليوم، خصوصا مع ظهور خطاب "النهايات"، والذي عندما "يعلن" موت الإنسان والمعنى ولواحقهما الذاتية من عقل وحرية وأخلاق جعل فلاسفة اليوم يعيدون النظر في قضايا قديمة.
الدين طرح على الفلسفة قضايا وإشكالات ظلت مرافقة بهذا القدر أو ذاك لتاريخ الفلسفة إلى اليوم، صحيح أن حساسية بعض القضايا تخفّ في عصر وترتفع في عصر آخر، مثلا فقضية إثبات وجود الله هي قضية مشائية بينما قضية الكمال الإلهي كمقابل للإرادة الإنسانية المطلقة هي قضية حديثة، ونجدها عند ديكارت بشكل واضح في التأملات(4)، حيث تصبح المشيئة الإلهية في عدم خلق الإنسان كاملا معصوما من الخطأ مدخلا لتثبيت إرادته الحرة، هذا لا يعني أن الطرح الوسطوي هو نفسه الطرح الديكارتي، بل إن هذا قلب لذاك، إذ بدل البرهنة على وجود الله نجد برهنة على وجود الذات، يصبح الوجود خاصية جوهرية للذات بعد أن كانت عرضا عند الوسطويين، لكن نؤكد أن ديكارت رتب مقولات الدين ترتيبا عقليا ولكن لم يتخلص منها.
فإذا رجعنا إلى أرسطو لا نجد عنده شيئا اسمه فرد، فالحدّ المنطقي للإنسان عنده يكون دوما بجنسه "الحيوان" وفصله النوعي" الناطق"، وبالتالي لم يكن للإنسان الفرد أي حظ في أن يجسد القوة النطقية في فرديته وشخصيته، وبالتالي لم يكن له أي حظ في أن يحظى بشرف حمل الحقيقة لأن من شأن ذلك أن يعتري الحقيقة ذاتها ما يعتري الفرد من "كون وفساد"، بينما نجد في الأديان حديثا عن "شخصية أخلاقية" للفرد، نجد إمكانية "للإختيار" على الأقل أخلاقيا، وهذه قضية اشتهرت عن المعتزلة مثلا، إذ لا معنى لوعيد الله ووعده إن لم يكن الإنسان حرا، صحيح أن الحرية هنا مقيدة بشروط عقائدية تحرر الله ذاته من صفات "خلقه"، مادام هو الأول والأخير، وبالتالي فالحرية المعتزلية أو التيولوجية عموما تختلف عن الحرية الديكارتية والكانطية فيما بعد، غير أنه لم يكن بالإمكان تبلور فكرة الذات في النسق الفلسفي الحديث بدون تنصيص الأديان على مسؤولية الفرد امام الله، وهذه الحلقة المفقودة في أذهان أغلب المشتغلين بالفلسفة اليوم يمثلها "دان سكوت" خير تمثيل، فهو الراهب من جهة ومؤسس مفهوم الفرد الذي سيعتمده شواريز وتلميذه ديكارت.
ويستمر مسار حضور المقولات والإشكالات الدينية(5)، ليس فقط عند ديكارت واسبنوزا هذا الأخير الذي سيسعى لبناء مفهوم الله بناء برهانيا يجعل جوهره غير منفصل عن الطبيعة ذاتها، وصولا إلى التيولوجيين والمتصوفة والأخلاقيين الغربيين المعاصرين والذين لا يخفون نزعاتهم الدينية كالفرنسيين أوليبيرا وفناسنت كارو والأمريكيين جون راولز وليو شتراوس، ونجدها بشكل أكثر وضوحا عند الألماني كارل شميت، المنظر النازي الشهير. وصحيح أن تاريخ التناول الفلسفي لقضايا الدين يتضمن محاولات قوية لنقض الدين كلية مع نتشه وماركس أو جزئيا مع اسبينوزا عندما نجده يبني مفهوم الله للبرهنة على وجود العالم، على عكس ما كان يقوم به الوسطويون الذين كانوا ينطلقون من وجود العالم لإثبات وجود الله، كل هذا صحيح لكن سواء أكان الأمر تطويرا للتعاطي الفلسفي مع الدين أو نقضا له، فإن الفلسفة لم تحسم في الإشكالات الدينية، بدليل أنه في غمرة القرن السابع عشر، قرن العلم الثورة الكوبرنيكية، قرن ديكارت ومونييه، نجد فيلسوفا لا يمكن المجادلة في انتمائه للفلسفة، هو باسكال، يبني حججا عقلية يصعب دحضها عن عقائد دينية ترسّخ أطروحات اعتقد بعض المحدثين انها ولت لغير رجعة، بل إن هناك من الباحثين أمثال "عز العرب بناني" من يربط استعمالات كيرغارد وهايدغر عن مفهوم L’Angoisse أو "الغم" بأصول دينية، كنص العهد القديم "إلهي لما تخليت عني"، فرغم أن كيرغارد كان رجل دين وهو متمكن من النص الديني إلا أنه يعتقد أن فكرة المعاد والحياة الأخرى التي يطفح بها النص الإنجيلي هي مصدر غم كبير.
لنخلص في البداية إلى أن الدين لم يكن عند أرسطو وعند أفلاطون يطرح أية مشكلة، وكانت "المشكلات من أجل الفلسفة" بلغة de lebira التي شغلت الفلاسفة المشائيين فيما بعد قضايا " لا مفكر فيها" عند اليونان عموما، بل إننا نلمس في "محاورة المحاكمة" " وقبلها "محاورة أقريطون" لأفلاطون كما يعتقد "الكسندر كويري" محاولة حقيقية لتأسيس دين عقلاني جديد يجعله منسجما مع الفضيلة، إذ لا معنى للخير مثلا إن كان هناك إلاهان يجسدان معنيين متناقضين للخير، ولا معنى للتقوى إن سعى شخصان تقيان لإطاعة هذين الإلهين المتناقضين، لكن الدين لم يصبح مشكلة فلسفية إلا في القرون الوسطى عندما ظهرت الديانات التوحيدية محاولة توظيف المقولات العقلية للفلسفة والعلم اليونانيين في خدمة قضايا دينية، يصبح هذا الكلام ذا معنى إذا عرفنا أن الطريقة التي تناول بها أرسطو مفهوم الله لا تجعل منه فيلسوفا لاهوتيا بل فيلسوفا بالمعنى الخالص للمفهوم، فيلسوف يعي جيدا حدود الفصل بين الفيزيقا والميتافيزيقا والتيولوجيا، سواء على مستوى الموضوع أو المنهج، غير أنه ابتداءا من الإسكندر الأفروديسي بدأت المحاولة الأولى لإفراغ المقولات الأرسطية من مضامينها العلمية والعقلية وملئها بحمولات تصير الفلسفة خادمة للدين، ووسيلة لإثبات العقائد الدينية، أو وسيلة عقلية لإثبات الغايات المتضمنة في النصوص النقلية، وعملية الإفراغ هذه لم تخل من مفارقات وإحراجات عاشها فلاسفة تيولوجيين، يهود و مسيحيين ومسلمين على السواء، إحراجات ومفارقات مصدرها تغليب رأي الملة في قضايا وتغليب رأي الحكمة في قضايا أخرى، وتحويل قضايا وردت عند أرسطو في فيزيائه إلى قضايا إلهية، ولا أدلّ على ذلك أن مجمل القضايا التي كفر فيها الغزالي الفلاسفة تنتمي معظمها لمبحث الطبيعة، كقضية الخلق من عدم التي يدعي الغزالي أنها تخرج غير القائلين بها من الملة، وهي فكرة كما نعلم لا نجد لها أصلا عند اليونان لكونها غريبة عن ثقافتهم، فهم كانوا دائما يعتقدون بوجود مادة أولى "هيولى" للموجودات، وهذه القضية سببت إحراجا كبيرا لابن رشد، وإلى جانب هذه القضية هناك قضايا أخرى كقضية الحركة والمحرك الذي لا يتحرك والتي هي قضية فيزيائية خالصة عند أرسطو ولكن تم تفريغها من حمولتها العلمية وتحميلها حمولة أخرى تيولوجية.
وما يهم في هذين المثالين هو تأكيد أن إشكالية العلاقة بين العقائد التيولوجية بعموم القول والعلم والفلسفة هي وليدة القرون الوسطى، ولم تنته هذه الإشكالية في العصر الحديث رغم أنواع التأريخات الغائية التي اعتقد أصحابها أنهم بجعلهم الدين في مرحلة تنتمي لطفولة العقل البشري يكونون بهذا قد حلوا مشكلاته، بل إنهم ومنهم أوغست كونط وهيغل وماركس، سقطوا في نزعة دينية عندا وضعوا للتاريخ غايات، وحيث توجد الغايات يوجد المطلق ويتم محق الذات لصالح أشياء متعالية، قد تسمى عقلا علميا عند كونط وقد تسمى روحا مطلقة عند هيغل، لكنها لاتخلو من نفحة دينية أو تقوم مقام الدين نفسه.
صحيح أن هناك تأملات فلسفية قوية سعت للإطاحة بالمقولات الدينية، كنتشه وماركس وإنجلز وفيورباخ وشوبنهاور وسارتر، وصحيح أيضا أن هناك تأملات فلسفية حديثة حاولت بالمقابل تحييد النسق الديني عن النسق العلمي والطبيعي والأخلاقي كما فعل كانط، لكن هذا التضارب في نتائج التأملات المتراوحة بين النقض المطلق وإضفاء طابع العقلانية النقدية عليه، لهو دليل آخر أن القضايا الدينية لم يحسم فيها، والمسألة غير متعلقة بأي حكم قيمة قد تتبادر إلى ذهن القارئ العادي عن أهمية الدين او عدم أهميته.
لكن ما نؤكد عليه هو إننا إذا قرأنا تاريخ علاقة الفلسفة بالدين بعمق، سنجد أن الحديث عن القطيعة هو من باب التسرع أو الانزياح عن الفلسفة نحو الإيديولوجيا لا غير، بينما البحث الفلسفي الرصين سيقود صاحبه إلى إيجاد مفاهيم يتفق العامي والخاصي اليوم أنها مفاهيم حديثة، بينما هي مفاهيم بدأت في أصلها دينية، بل ولو لم يكن الدين لما وجدت أو لنقل بلغة أقل وثوقا أن ستتطلب قرونا أطول بكثير من القرون الفاصلة بين ظهور الأديان وظهور الفكر العلمي والفلسفي الحديث.
الهوامش:
1-chapitre 6 Aristote، La métaphisique ، livre 5
2- "كتاب الأخلاق إلى نيقوماخوس كان واضحا في جعل السياسة والأخلاق مبحثا واحدا بغاياتهما المتمثلة في تحقيق السعادة، وهو الأمر الذي انتبه له الفلاسفة المسلمون وخاصة الفارابي في كتاب "تحصيل السعادة" لكن هنا تظهر مشكلة أخرى هي لماذا لم يقرأ هؤلاء كتاب "السياسة"؟ هل لأنهم لم يتعرفوا عليه أم لأنه يسبب إحراجا للنسق السياسي القائم على الخلافة، وهنا نتساءل ماذا لو دخل مفهوم المواطن مثلا كما تناوله أرسطو النسق الفلسفي الإسلامي؟ وما يظهر إمكانية وجود حرج، هو كون ابن رشد أرسطيا في كل المباحث إلا السياسة فقد شرح كتاب الجمهورية لأفلاطون، وهذا في حد ذاته ذو دلالة كبيرة.
3- للمزيد من المعلومات حول إشكالية علاقة باسكال بالعصر الحديث، وخاصة تأسيسه لتيولوجيا عقلية في قلب القرن السابع عشر، أنظر مقال "مفهوم اللاتناهي كمدخل لفهم براديغم الأزمنة الحديثة". المنشور في وقت سابق ضمن موقع الأوان.
4- pascal ، pensées، les classiques de poche، texte établi par philippe sellier.
5- أنظر التأمل الأول، حيث يقول ديكارت، يقول: "مع ذلك فقد رسخ في ذهني،منذ زمن طويل، معتقد فحواه ان هنالك الها قادرا على كل شيء، هو الذي خلقني، وصنعني على نحو ما انا موجود، فما يدريني لعله قضى أن لا يكون هناك ارض، ولا سماء، ولا جسم ممتد، ولا شكل، ولا مقدار، ودبر مع ذلك أن أحس بهذه الأشياء، جميعا، فتبدو لي كائنة على غرار ما اراها، ثم لما كنت أرى، أحيانا، كيف أن الآخرين يغلطون في الأمور التي يحسبون أنهم اعلم الناس بها، فما يدريني لعله قدر لي أن أغلط أنا أيضا، كلما جمعت اثنين وثلاثة، أو أحصيت أضلاع مربع ما، أو أطلقت حكما على شيء أسهل من ذلك، أن كان ثمة شيء أسهل، لكن أما قيل عن الله انه كريم رحيم، لعله لم يرد تضليلي على هذا النحو، فاذا كان مما يتنزه عنه الله ان يكون قد خلقني عرضة للخطأ دائما، فما لا يليق بمقامه ان يأذن بوقوعي في الخطأ احيانا، واني على يقين أن هذا لا يقع بأذنه".
6- يميز الفيلسوف الفرنسي المعاصر المتخصص في الدراسات التيولوجية Alain de Libera بين "des problèmes de philosophie " و "des problèmes pour la philosophie" الأولى مشكلات فلسفية، هي القضايا التقليدية في تاريخ الفلسفة كالمعرفة و القيم والوجد، أما الثانية "مشكلات من أجل الفلسفة" فهي القضايا التي طرحت على الفلسفة في سياق تطورها، وقضايا التيولوجيا إحدى هذه القضايا الأخيرة.
عن موقع الأوان
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |