الاستبداد السياسي / ماجد الغرباوي
خاص ألف
2011-06-20
لم يبق أمام الشعوب الإسلامية خيار للحد من ثقافة الموت و الاحتراب و العداء و الإقصاء المتفشية في كل مكان ، سوى تبني قيم التسامح و العفو و المغفرة و الرحمة و الإخوة و السلام ، لنزع فتيل التوتر و تحويل نقاط الخلاف إلى مساحة للحوار و التفاهم بدل الاقتتال و التناحر. و هو عمل صعب يستدعي جهودا يتضافر فيها الخطاب الإعلامي مع الخطاب الثقافي و الديني و السياسي و التربوي. و يتطلب تعاون الفرد مع المجتمع ، و الشعب مع القانون ، و الدولة و الدستور . إنه عمل جذري يستهدف البنى الفكرية و العقيدية للمجتمع ، و إعادة صياغة العقل و الأولويات و الوعي ، و تقديم فهم عصري للدين و الرسالة و الهدف ، و نقد للمفاهيم و القيم و السلوك ، و رسم مستقبل جديد للفرد و الشعب و الوطن ، و قراءة متفهمة للتراث و التاريخ ، و عودة إلى القرآن و العقل ، و التخلي عن العنف و التنابذ ، و التمسك بالاحترام و التسامح ، و فهم آخر للحياة و العمل الصالح.
إن ما نشاهده اليوم من مظاهر عنف و احتراب يستدعي العودة إلى الذات لمراجعتها و نقدها ، و الوقوف على مواضع الخلل فيها لتقويمها و معالجتها. ثم الارتكاز إلى قيم جديدة تستبعد الكراهية و الحقد ، و تنفتح على قيم الإنسانية و الدين. و هذا يتطلب الغوص في أعماق الفكر و العقيدة بحثا عن جذور المشكلة. أي ينبغي البحث عن الدوافع الحقيقية وراء ثقافة الموت و الاستهانة بالحياة و تكفير المجتمع. و تقصي المفاهيم المسؤولة عن صياغة البنى الفكرية و المعرفية لعدوانية المرء تجاه الآخر ، أيا كان الآخر داخليا أم خارجيا ، دينيا أم سياسيا. و لنفهم أيضا كيف يستمرئ الإنسان القتل و الاحتراب و يرفض السلم و الوئام ؟. هل هناك مفاهيم عقيدية أو دينية أو أخلاقية وراء ذلك؟. إذن التسامح ليس مجرد مفهوم يراد استبيانه ضمن النسق القيمي للمجتمع و إنما هو نسق ثقافي و فكري و عقيدي مغاير ، له آليته في العمل ، و أسلوبه في التأثير ، و منهجه في التفكير ، و طريقته في الاشتغال. فلا يمكن سيادة قيم التسامح ما لم تكتمل جميع مقدماته. أي أن التسامح يقوم على سلسلة عمليات فكرية و ثقافية يخضع لها الفرد و المجتمع كي يعمل بشكل صحيح و مؤثر. أو ثمة قيم يجب استئصالها و إحلال قيم جديدة محلها كي تكون قاعدة و أرضية لعمل التسامح. آنئذ فقط تتجلى آثاره السياسية و الدينية و الثقافية و الإنسانية. و تختفي مظاهر العنف و الاحتراب لتحل محلها قيم المحبة و السلام. كما ستظهر بحلول التسامح و المداراة مواقف جديدة بعد اختفاء ما كان يترتب على التشدد و التعصب و التسامح و العنف من مواقف سياسية و اجتماعية ، تفضي دائما إلى تأزم العلاقات ثم الدخول في متاهات الحروب و العداء.
......................
ثمة ما يجعل الاستبداد خصما حقيقيا للتسامح . ففي الوقت الذي يعتبر فيه الاعتراف بالآخر جوهر التسامح الديني و السياسي و الاجتماعي ، يعتبر رفض الآخر و تهميشه جوهر الاستبداد السياسي ، لذا لا يمكن التوفيق بينهما ، و لا يصار إلى صيغ توافقية لصرامة التضاد. و بالتالي لا يمكن إشاعة قيم التسامح في ظل أجواء التفرد و الاستبداد بالسلطة ، لأن طبيعة الاستبداد تقتضي عدم الاعتراف بالحقوق السياسية للآخر ، التي منها حقه في ممارسة السلطة مع استكمال الشروط اللازمة. مهما كانت صفة الآخر و هويته. و الشيء ذاته يجري على جميع أشكال الاستبداد ، فربما قبل المستبد العادل التعايش مع الآخر ، لكن شريطة أن يكون مسلوب الإرادة و الحقوق السياسية التي ركيزتها حقه في ممارسة الحكم ، أي أنه يقبله على أن يبقى المستبد ، بسلطاته الواسعة و امتيازاته المتعددة ، خطوطا حمراء يمنع تخطيها أو القفز عليها. و كذلك الأمر بالنسبة للاستبداد الديني ، فإن رجل الدين يمارس استبداده من خلال سلطة النص ( الفتوى ) ، و منهجه في تكريسها لخدمته و خدمة مصالح المؤسسة الدينية الكهنوتية أو مصالح الطاغية عندما يتصدى الفقيه لتبرير الاستبداد السياسي. و في هذه الحالة يكون الاستبداد الديني أشد خطرا من الاستبداد السياسي ، لأنه باسم الدين و الشريعة و الإسلام. و هي مرجعيات لها قدسيتها عند الشعوب المسلمة ، التي ائتمنت الفقيه على فهمها و تقنينها ، فهي تثق به ثقة مطلقة.
و قد عانت الشعوب الإسلامية تداعيات الدكتاتورية و حكم الطاغية ، و التفرد بالسلطة و الاستبداد السياسي منذ بداية الدولة الأموية ، و ما زالت تسعى لتحقيق آمالها في حكومة تسودها قيم العدالة و التسامح ، إلا أنها لم توفق إلا في فترات محدودة ، لهيمنة الاستبداد و قابلية الشعوب عليه. مما يعني أن الخطوة الأولى على طريق التسامح هي تفكيك القيم الرابضة في اللاوعي ، التي تعمل على ترسيخ و تجذير الاستبداد ضرورة حياتية ، و إعادة تشكيل العقل ضمن سياقات تؤسس لوعي جديد تتمرد على قيم الاستبداد و سلطته العتيدة التي ظلت تحاصر العقل ، و تضغط باتجاه قبوله منفذا لأزمة السياسة و الحكم. و كأن قدر الشعوب الإسلامية أن تبقى مسلوبة الإرادة عاجزة قاصرة غير قادرة على إدارة نفسها و تدبير أمورها. و كأن حاجتها إلى المدير و المدبر و القيّم حاجة فطرية متجذرة في لا وعيها. هكذا تعي ذاتها أو بهذه الطريقة يوحى لها. فالمطلوب سيادة خطاب يبعث الثقة في ( الأنا ) المتهالكة ، و يعيد تماسكها ، كي تكتشف ذاتها و تعرف حجمها و قدرها. و إلا مع استمرار تزييف الوعي من خلال عقلنة الاستبداد و شرعنته دينيا ، و استمرار ضحالة الوعي لا يمكن التفاؤل بمستقبل يعيد للفرد دوره المغيب. و بالتالي يبقى التسامح مفهوما غير قابل للتطبيق ، لأن تطبيقه يعني رفض الاستبداد ، و الاعتراف بالآخر و حقه في ممارسة السلطة من خلال العملية الديمقراطية ، و التداول السلمي للسلطة ، و احترام رأي الشعب ، و حقه في الترشيح و الانتخاب. ثم لا يمكن أن يصار إلى صيغ توافقية بين المستبد و شعبه ، فإن ذلك لا يصدق عليه مفهوم التسامح ، إذ ليس التسامح التنازل عن بعض الحقوق ، و إنما اعتراف متبادل بين الطرفين. أي ثمة تضاد بين الاستبداد و التسامح ، منشأه التضاد بين القبول و الرفض ، قبول الآخر و الاعتراف به ( التسامح ) ، و رفض الآخر و عدم الاعتراف به ( الاستبداد ). من هنا يتضح أكثر أن التسامح نسق قيمي جديد ، لا ينسجم مع منظومة القيم القديمة لصرامة التضاد بينهما.
- صدر كتاب التسامح و منابع اللاتسامح : فرص التعايش بين الأديان و الثقافات لماجد الغرباوي عن دار الحضارية بالتعاون مع دار العارف – بغداد و بيروت – ط1 2008 .
الاقتباس بإذن من المؤلف
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |