«السفير» في حماه: للحرية غضبها ومواجعها!/ غدي فرنسيس
2011-07-15
منذ شهر، حضنتنا حماه، بتعاضدها الاجتماعي حول جراحها. كانت التظاهرات السلمية في أوجها، وكانت المطالب المحقة تقرع الحق في كل النفوس. لم يكن باستطاعة الزائر ألا يعود مغرماً بهذه النهضة الحموية.
أمس، بعد جولة ست ساعات في المدينة، كانت طريق العودة ترسمها الدموع والقلق: حماه تحت حصار أهلها... نوافذ البيوت مقفلة... مئات العائلات فرّت خوفاً من المجهول الآتي. السواطير تلف المدينة... وهذه ليست أي مدينة. هذه حماه، وجراح حماه وذاكرة إبادة جماعية. هذه حماه وآلاف حماه وزيارة حماه الدبلوماسية. هذه حماه التي تتذرع بتاريخها... لتعزف لحناً خاصاً من دون قيود.. كانت في عقاب منذ 30 عاما، وخرجت من العقاب بفائض حقد يكفي لإشعال ثورة، ويدوس على بوصلتها.
في البيت الذي كان يدافع بغضب عن الثورة الحموية منذ شهر، ثمة شاب لا يريد أن يترك أهله وحدهم. لم يعد يعلم ممن يخاف على من.. يرى الحرية التي انتفض معها، تشوّه حياته ومدينته ومستقبله وعمله، ولا يستطيع ان يدعو للقوة او لقمعهم، فهو يفهم جراحهم... «الوضع سيئ... الوضع سيئ جداً، وقد خرجوا عن السيطرة».
في بيوت أخرى، أقفلت الأبواب ولجأت العائلات إلى تخوم المدينة أو المحافظات القريبة. ولم يقتصر النزوح على «الأقليات الطائفية»، بل إن أهل حارة «الشريعة» و«غرب المشتل» أغلقوا النوافذ الحديد والخشب وخرجوا من المدينة هم أيضا. فلم يعد مسموحاً أن تفتح المتاجر، ولم يعد مسموحاً أن تتجول، ولم يعد مسموحاً أن تقصد المقهى، ولم يعد مسموحاً أن تعيش... حماه تمارس هوايتها الجديدة وتلبس ثوب «قندهار» سوريا، كما يردد البعض لوصف بعض احيائها، وتحيّي السفير الأميركي وتلف عنقه بالزهور.
بعد قيام الجهاز الأمني باعتقالات في المدينة، نزلوا وأغلقوا الطرق لمنع الأمن من الدخول. «عصيان مدني» في عرض الطرق، جميعها. يقولون إنهم لن يخرجوا قبل إطلاق سراح هؤلاء، لكنهم لم يقولوا أسماءهم أو أعدادهم. اللجان الشعبية تستمتع بالسلطة الجديدة المكتسبة وتتعرّف إلى لباسها الجديد: «شبيحة ضد النظام». وفي هذا الوقت، تتصاعد علامات الاستفهام الحموية: إن أحدا لا يفهم ما الذي يجري...
من سيارة حموية إلى أخرى، هنا رحلة الساعات الست في مدينة الغضب المحرر.
حامل الساطور الصغير
تحت إبطه ساطور أضخم من زنده. ينظر من فوق لحية سوداء من دون شاربين إلى لائحة بأرقام السيارات المسموحة... يتفقّد السيارة، فيطلق المراهق سراح الأسرة الحموية في طريقها نزوحاً إلى السلمية. هذا حاجز من أصل الحواجز الكثيرة. أحجار وحديد وسواتر وسكاكين وسيارات محترقة في كل الشوارع... من أول المدينة وصولاً إلى حي الجراجمة، تكاد لا تستطيع السيارة أن تعبر في خط مستقيم واحد. كأنها ميدان لعبة جديدة مفادها: حصار أهل حماه المفروض بالقوة والترهيب على حماه.
هناك أكثر من مئة حاجز في كل أنحاء المدينة، وعشرات الشبان والرجال يتكوّمون حول السيارات والأفراد لتفقّد الهويات. سلاح أبيض، لكنه سلاح، وتحت ذراع شاب لم يبلغ العشرين من العمر، عصي في أيادي الأطفال والمراهقين. الأكبر سناً يجلسون على كنباتهم أو يفترشون الأرصفة... بينما ينهمك الشبان في مهمتهم الجديدة: لعب دور الأمن السوري البشع، وهذه المرّة بلحى طويلة ومن دون صفة رسمية ولكن بتهذيب.
وصولاً إلى الجراجمة، يفرض «العراعرة» البسّامون حاجزا مغلقا قرب بيت شيخ الفتنة الذي يحاضر في الثورة من منفاه السعودي. «عد أدراجك» مع ضحكة حموية بسيطة...
نعود صعوداً في احد الأحياء البائسة في الجراجمة. ولد صغير في خلاء الشارع يلعب تحت حرّ الظهر بالمياه. يهددنا «بالرش» ممازحاً. تقترب منه السيارة، فيرفع إبهامه من يمناه على شكل مسدس ويصرخ ضاحكاً «حرية».
بعد لعبة «الحرية» نصل إلى مفرق أسود بآثار العصيان المدني المستمر منذ الاثنين الماضي. هنا الطريق ليس مسدودا بالرجال أو الحجارة، بل عملت «اللجان الشعبية» على غرز رؤوس الحديد في الطريق لإتلاف أي سيارة تحاول المرور. شتائم لآل الأسد وحزب البعث طبعت على كل الحواجز. العلم السوري يظهر هنا او هناك... والذقون الطويلة تلبس «جلابياتها» وتفترش الطريق... حواجز «سوداء» عند كل المفارق... وتفقّد مستمر لبطاقة الهوية الحموية. يمازح السائق «لو قلنا له معنا السفير الأميركي، لما أوقفنا».
«كوماندوس»
للقاء شباب التنسيقية
هنا، الخوف بالمقلوب. إن كنت صحافيا في دمشق، ستكوّن ملاحظاتك على النظام وسيعيش في رأسك رجل استخبارات صغير. ستخاف من أي كلمة تكتبها في انتقاده. أما في حماه، ستخاف من أي ردة فعل ثأرية إذا انتقدت الثورة. وسيكون رجل الاستخبارات الصغير في رأس»التنسيقية»، سيقول لك «هذه ليست للنشر»، «وهذه ستكشف لهم من أنا»... سيعطيك إسماً «وهمياً».. وسيكذب كثيراً في تصريحه...
في إحدى سيارات الثورة الحموية، نلتقي بمسؤول الإمدادات في احد أحياء العصيان الحموي. عند السؤال يفيد أن الإمدادات هي الأكل والشرب والمواد التموينية والطبية... إلخ. وطبعاً لدى السؤال عن مصدر التمويل يقول «معك 200 ليرة، نأخذها، معك مليون نأخذه... وإلخ».
يقول الحاج الأربعيني، الجميل بعينيه الخضراوين وكلماته البسيطة، «لقد ولدت على كره حافظ الأسد ثم حين أتى إبنه أحببته لأنه مختلف. ما كنا نحلم يكون عنا «موبايل» بسوريا، وسيارات من الوكالة، ومشاريع سكنية... بعدين طلع الموبايل لقرايبينو (اقاربه) مو إلنا، والسيارات مو إلنا، والشقة مو إلنا... انا مسجّل عشقة وما طلعلي شقة لأن ما عندي واسطة».
كيف تخرجون من الشارع؟ يجيب الحاج أن مطالب الحمويين هي الإفراج عن المعتقلين وضمانة بعدم اعتقال غيرهم. من هم أولئك المعتقلون؟ هنا يجيب «فليفرجوا عمن لديهم في الاول ثم نتحدث عمن لا يزال لديهم».
كيف يسقط النظام؟ يتخيل الحاج ان ذلك بتسليم السلطة إلى نائب الرئيس وتشكيل حكومة جديدة... يترجّل قرب بيته.. فنرمي عليه سؤالاً أخيراً بالمزاح «ماذا لو لم يسقط النظام؟»...فيجيب سريعاً بالضحك «بلى سيسقط».
في سيارة حموية أخرى، ننطلق من حي «الشريعة» حيث الأغنياء. هنا للحصار شخصية خاصة تليق بسكان الشارع. فلم تغلق بعد أواصر كل المفارق وما زال «العصيان المدني» على المداخل الأساسية. صعوداً إلى إحدى ضواحي المدينة، نصل إلى حيث «اللقاء الأمني المرتقب مع ثلاث من قيادات الثورة الحموية».
حوالى 10 دقائق تفتح للعقل أن يتخيّل اشكالهم. يسأل نفسه المترقب «هل يسلّمون باليد او انهم إسلاميون؟ هل انظر في عيونهم أو أن ذلك «حرام»؟ هل «التنسيقية» هي حقاً تملك أن تتكلم باسم الثورة ام أنهم مجموعة ناشطين على الإنترنت؟ كيف ينشطون ولا إنترنت في كل المحافظة؟ يستمر السؤال في طبخة العقل إلى أن تصل إلى «المكان السري» سيارة التنسيقية بوجوهها الثلاثة. تكاد تضحك من أسئلتك لدى رؤية نموذجهم.
فالتنسيقية الحموية تلك، ثلاثي شبابي يكثر استخدام «الفايسبوك» وما زال يتعلّم الحياة السياسية. أكبرهم يبرر لهم أخطاءهم الدائمة ويقطّبها «نحن كنا في موت سياسي منذ 30 سنة لذا لا نعتب على الشباب... إذاً ماذا يمثّل هؤلاء الشباب الذين سمّوا أنفسهم اسماء مستعارة أجملها «سعيد».
يجيب «سعيد» العشريني: نحن في التنسيقية نقوم بدور التشاور مع الكتل والمجموعات التي على الأرض، نصوغ البيان، ونعرضه على الباقين.
والكتل تلك هي مجموعات الحارات الحموية. وهنا يعددها سعيد ويشرح انتماء كل واحدة:
«كتلة أحرار حماه» تشكّلت بداية في حي الجراجمة، «أحرار حماه» و«تجمّع نادي الحرية» و«فجر الثوار الأحرار» للمنطقة الشمالية أي شارع الحاضر وحوله، و«أحرار مدينة حماه» في المنطقة الغربية.
يقر الشباب بأنهم لا يمثلون الشارع، كما يقول احدهم إن هناك تجمعات كبيرة لا اسماء لها، ولا يمكن لاحد سوى امراء الشوارع ان يجيّروا الناس إلا ان «مهامنا تنسيقية بحتة، برسم الخطط وإعداد البيانات»....
واحد له خال مقتول في الثمانينيات وواحد له أعمام قتلوا، وواحد قتلوا والد زوجته... الجرح الحموي القديم متفش في جميع العائلات... والحقد نفسه حتى في صفوف الشباب الذين ولدوا بعد الأحداث. ماذا تهتفون في التظاهرات؟: «يلعن روحك يا حافظ»، أهذه هي قضيتكم؟ يضحكون!!! لا ولكن الهتاف طيّب. أطيب شيء أن تصعد في التاكسي وتقول «خذني على التظاهرة».
حين تسأل التنسيقية عن رؤيتها حول سقوط النظام، يسرع واحدها للإجابة «سينهار الاقتصاد، ويفقد شرعيته الدولية، وهكذا. أما العرعور، فيعتبرونه مهما ويلقبونه «بوق الثورة» إلا انهم حين رأوا صورته في التظاهرة، منعوها سريعاً: «قلنا له منخلص من صورة منعلّق صورة!».
حين يسألون عن مدى صحة مزاعمهم «الحرة» تحت غيمة العصيان المدني السوداء الذي أخرج ما لا يقل عن مئات العائلات الحموية من المدينة تكون الإجابة... «لن تستمر الأحوال هكذا، الجمعة ستكون تظاهرة كبيرة لأجل أن نبرهن أننا لم ننزل من اجل السفير أو سواه. والسبت ستبدأ الأسواق بحياتها... وربما تبدأ اللجان الشعبية بتقليص عصيانها إلى الإحياء السكنية».
في حديثهم تقرع الأخطار الاجتماعية على أنواعها: أولها العرعور وثانيها السلفيون الأتراك الجميلون، وثالثها تصنيف الطوائف وفرزها، ورابعها الاستعداد للفوضى. لكنهم شباب بأحلام قيد البناء، ليسوا تركيا وليسوا اميركا وليسوا العرعور. حلمهم بحاجة لامر من إثنين: إحباط كبير... أو نصر. وإحباط احلامهم لن يكون سوى لغم مؤقت ينفجر حين تولد احلام اولادهم.
فيلم حموي طويل
فقط في حماه، تطلب سيارة أجرة، فيأتي السائق بأمه وإبنته وإبنه الصغير لإمتاعك في الرحلة. انطلقنا باتجاه دمشق، عبوراً بالحواجز الكثيرة، لنعرّج اولاً إلى «الضاحية» حيث بيت الحجة الوالدة. تنزل الستينية بنقابها الأسود وولدين صغيرين. السائق، يداوم نصف نهار في «اللجان الشعبية»... والدته محللة سياسية تداوم على تلفزيون «الوصال» دواما كاملا، وأولاده: حماسة طفلين جميلين، «آلاء» و«محمد» سيشاهدان الشام للمرة الاولى في حياتهما.
تبدأ الحاجة في «تذاكيها السياسي» بتقييم زيارة السفير الأميركي روبرت فورد: لو لم نستقبله هكذا لكانوا قالوا إن الحمويين قاتلون ومجرمون... ثم لولا السفير الأميركي لنزلوا علينا بالدبابات، الله لا يوفقهم... والسفير كريم وجميل و.... يستمر الدرس السياسي ثم تبدأ المساءلة الطائفية: من أين من لبنان...
بعد العبور من حماه والرستن قرب آثار تمثالين أزيلا... نصل إلى تلة عالية يقف فوقها تمثال لحافظ الأسد يحيي القرية من اليسار، فتدل الطفلة بأصابعها لتلفت نظر جدّتها «أنظري يا تيتي»، لترد الحاجة «لسه ما شالوه من هون؟ وين هون يا عمر؟ فيرد السائق: دير عطية».
بعد دقائق طويلة من هذا السرد والحوار الملتبس ببساطة الأسرة الحموية المحببة... يعلو صوت «أليسا» تغني: لو ما تجي عنوم عينيي... كيف لهذه الحاجة التي حرصت على تغطية معظم وجهها باستثناء النظارات ان تحلل لنفسها سماع الأغاني وبصوت مرتفع، ما هو هذا الإسلام الحموي المنفصم الشخصية. متشدد ومنفتح في الوقت نفسه.
ننسى تحت الموسيقى وجود بعضنا البعض، فتنزلق للحديث عن حصص الاكل والتموين الذي حصل عليها «عندي 20 كيلو بالثلاجة» يشتكي عمر من فائض باذنجان وبندورة... تسعل الحاجة، لترد بصوت مرتفع «لو بتشوف الرز عم يبيعونا ياه اغلى 10 ليرات ليه؟» فيرد إبنها «استغلال». السكر.... فيرد الإبن «استغلال»... ونعود إلى الدرس السياسي على لسان الحاجة التي زارت دمشق ثلاث مرات طيلة سنوات حياتها الستين. هناك بطل للثورة، تؤكد الحاجة ولكن «في حدا كبير أكيد بس ما منعرفو...» نسأل «هل هو العرعور؟» فترد: أكيد لا، العرعور ما منعرفو ولا بدنا ياه.
«هل ستحررني انا هذه الحاجة؟» وصولاً إلى دمشق، يثقل انفصام حماه كاهل الزائر... إسلامية لا إسلامية، سلمية لا سلمية، حرية لا حرية، أميركية لا أميركية، يدخل علينا الجيش او لا يدخل؟
يحكى عن وفد حموي قابل «آصف شوكت»، وتفيد المصادر المطّلعة عن لقاء جمع مجموعة تجّار بأحد المقربين من الرئيس. يحكى عن دور المحافظ الجديد ومحاولة إفشاله، ويحكى عن تغيير ما بعد يوم الجمعة. وتحت كل ما يقال، ليس في وجه حماه ما يدلّ على قدرة التحاور أو الإقناع... فربما ما زال التحاور في المكان الخطأ. لم يكن في حماه وحواجزها أي ممنوع من رؤوس الدولة ولم توقّر احدا...لكنها تخاف كثيراً لانها تشعر للمرة الثانية في التاريخ، انها قد تدفع الثمن وحدها. تنظر إلى الشام وحلب، فتشعر بوحدتها اكثر.
هكذا هي حماه اليوم، لا تشبه أحداً سواها في سوريا، وعلى وجهها ملامح «قندهار». بعد قهر عقود ثلاثة، تذوّقت ما يشبه طعم الحرية، وقد تسيء استخدامها. بعد قمع عقود ثلاثة، تذوقت طعم السياسة، وقد تنزلق البوصلة... وبعد جرح العقود الثلاثة مهما فعلوا، لا يستطيع النظام أن يفتح جراح الحمويين من جديد، ولكن إلى متى يستطيع ان يشاهدها تبتعد وتخرج من القلب؟!
وبينما يستفيق المجهول في عيون الشباب على الحواجز، تستطيع بكلمتين ان تطيّب خاطرهم وتقلب «الغضب» الذي فوق الساطور إلى ابتسامة. الحموي أكثر من صارع الأنظمة في تاريخ سوريا، ولذلك هو أكثر اللاعبين مهارة... ولكنّه لم يربح يوماً.. بل دفع جراحه عن كل سوريا.
جريدة السفير
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |