مقعد رقم A3
2008-03-26
لا أعرف كيف بدأ شغفي بالسينما. قد يكون أول فيلم شاهدته هو "الملكة سميراميس" في سينما الدنيا، أو هو "ماشيستي قاهر الجبابرة" في سينما الفردوس، أو فيلم "رحلات السندباد" الذي أخذ عقلي عندما وصل البطل إلى جزيرة فرأى فتاة رائعة حجمها صغير لدرجة أنه حملها براحة اليد. كانت ترتدي تلك الثياب النمطية لبنات الشرق بالجلباب الحريري المضموم عند راحة القدم وعلى رأسها ما يشبه الطربوش المحاط بغلالة ناعمة ملفوفة حول ذقنها، وكانت غاية في الصغر، وغاية في الجمال، وكنت أنا في غاية الانبهار
كانت العتمة عندما تحل على الصالة تشبه وعداً برحلة في الخيال، وكم كنت أتضايق من الذين يقفون بمجرد انتهاء اللقطة الأخيرة لأنهم ينتزعوني عنوة من العالم الآخر الذي كنت أعيش فيه. كانت الأفلام تشدني لكنني كنت أيضاً أنتظر حلول الاستراحة ليأتي بائعو "شيبس بكور" و"شوكولا غلاسيه" الذين يحملون صينية خشبية مربوطة بأعناقهم وعليها أنواع البطاطا المقرمشة والبوشار
والشوكولا وتلك المثلجات البيضاء المغلفة بطبقة صلبة من الشوكولا والمحاطة ببسكوت يفترض أن يحمي أصابعنا لكنه غالباً ما كان يميل مع اللقمة الأولى فتقع المثلجات على ثيابنا وتسيل على أصابعنا فنلعقها قبل أن تسقط على الأرض، وتعنفنا أمي لأننا وسخنا ثيابنا.
كنت مع أمي وأخوتي من المداومين على السينما التي كانت تشكل جزءاً أساسياً من إيقاع حياتنا اليومي. وكانت الصالات فخمة تحمل أسماء الزهراء والحمراء والدنيا والفردوس والأمير. ولا أعرف من هو صاحب الصالة التي كانت في بوابة الصالحية، لكنني أذكر أهلي يتندرون لأنه يبدل إسمها مع التبدلات السياسية: فتلك الصالة التي كانت تسمى سينما "أمبير" قبل ولادتي تحولت إلى سينما "فريال" تيمناً بشقيقة الملك فاروق الذي كانت قصص عائلته تشغل الناس، ثم صار إسمها "القاهرة" مع بداية الوحدة مع مصر، ثم "أوغاريت" بعد الانفصال.
كنت أحب صور الممثلين على جدران الدرج في سينما الدنيا، والشرفات المخصصة للعائلات والمجهزة بستائر لتخفي المتفرجين عن أعين الفضوليين في سينما أمير، والستائر المنثنية على شكل هلال ترتفع بطريقة خاصة في سينما الزهراء. أما الأفلام، فأذكر منها "صوت الموسيقى" الذي شاهدناه عشرات المرات، و فيلم "جنكلي" الهندي الذي شاعت أغنيته "سوكو سوكو" وحركات ممثله شامي كابور التهريجية حين ينزلق على الثلج، وفيلم "ذهب مع الريح" و "هل تحبين براهمز" و"الشارع الخلفي"، وبالطبع أفلام هيتشكوك التي كنا ننتظرها بشغف ونتبارى في قدرتنا على متابعتها دون أن نصرخ من الخوف. أما الصورة التي ظلت عالقة في ذهني أكثر من غيرها فهي لفيلم "سبارتاكوس" حيث بكت الصالة بأجمعها لآلام العبد الذي صلبه الرومان وأتت زوجته لتريه إبنه قبل أن يموت. بكينا في الفيلم لدرجة أنه لم يبق معنا مناديل فكان أن استدارت أمي لأختي الطفلة وقتها وخلعت عنها قميصها ومزقته إلى قطع ناولت كل منا منها قطعة، وأختي تصرخ مستنكرة حتى اختلط بكاء المتفرجين بالضحك على طرافة الموقف.
ثم افتتحت صالة الكندي! كان نادي السينما في المنتدى الاجتماعي قد بدأ نشاطه وبدأت أساهم فيه كمترجمة لنصوص الأفلام التي يعطيني إياها بدر عرودكي المشرف على النادي وقتها، وكنا نحضر الأفلام التي ينظمها النادي في سينما الكندي. كانت أفلام برغمان وبازوليني وفايدا تصل إلى دمشق في نفس الشهر الذي تخرج فيه إلى الشاشات في أوروبا. كان نادي السينما كل ثلاثاء في حفلة التاسعة ليلاً وكنت أذهب وحدي من بيت أهلي القريب في بوابة الصالحية وأعود وحدي بعد انتهاء الفيلم في الحادية عشرة والنصف، وعلى الرصيف وقع خطواتي وفي رأسي بقايا صور.
أذكر من أفلام النادي فيلم "غابة البتولى" للبولوني فايدا بلقطاته الساحرة، وأفلام فيلليني وبازوليني الغريبة، وأفلام الموجة الجديدة مع غودار ولوي مال وتروفو، وتلك اللحظة الساحرة في مطلع فيلم برسونا لبرغمان الذي كان يبدأ بلقطة مكبرة للغاية لوجه ليف أولمان مستلقياً على عرض الشاشة، وكنت أميل رأسي بنفس الاتجاه لأمعن النظر في تقاسيمها المريحة. شاهدت الفيلم خمس مرات لأستعيد متعة اللقطة الأولى الساحرة التي كنت أرى فيها وجه الممثلة قريباً قريباً، وأنا أميل رأسي وكأني أريحه معها على نفس الوسادة... وكان مقعدي المفضل في صالة الكندي يحمل رقم A3 لا أغيّره حتى صار المسؤول عن التذاكر يعطيه لي دون أن يسأل.
اليوم سأعود إلى صالة الكندي بعد أن تم تجديدها بسعادة لا يدرك غيري مقدارها. سأجلس في مقعدي المفضل A3 في آخر صف من الصالة منتظرة أن تحل العتمة، علّ ذلك الضوء الرمادي الشاحب الذي يعلن بداية الفيلم يعيد إليّ شيئاً من طفولتي، إذ يعيد إلى المدينة واحدة من عادات أهلها التي كادت تغيب في النسيان.
حنان قصاب حسن
عن موقع احتفالية دمشق عاصمة ثقافية
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |