من «تحالف الأقليات» إلى أين؟ «استبداد الأكثرية» أم سياسة المواطنة؟
2011-09-18
ليس المستغرب في ما صرّح به أخيراً في باريس البطريرك الماروني بشارة الراعي عن الشأن السوري اختزال الانتفاضة السورية إلى حراك سنيّ، واختزال هذا إلى الإخوان المسلمين، بل خلو التصريح من أي بُعد قيميّ، أو حتى من الحصافة السياسية. لا شيء عن الحرية أو المساواة أو العدالة أو الكرامة الإنسانية، أو «المحبة». فقط إن المسيحيين سيدفعون الثمن إذا وصل الإخوان المسلمون إلى السلطة في سورية، من دون أن يعرف من يعتمد على تصريحات البطريرك وحدها أن في سورية انتفاضة تحررية منذ نصف سنة، وأن النظام الذي يقلق البطريرك على مصيره قتل فوق 3000 من محكوميه المسالمين الثائرين، واعتقل وعذّب عشرات الألوف.
تكلم الرجل كسياسي، ومن صنف سياسيي «الريال بوليتيك» الذين يُسقِطون أي بعد قيمي من تفكيرهم، ويقتصرون في التحليل على الوقائع الصلبة، وفي العمل على مصالح دولهم. ولكن ليست مصلحة لبنان هي ما يشغل بال الراعي، بل مصلحة مسيحييه وحدهم. وهو لم يشعر بالحاجة إلى شرح الصلة بين وصول الإخوان إلى السلطة في سورية وبين تحالف «السنّة» في سورية مع «سنة لبنان»، وتأزيم «وضع الشيعة» اللبنانيين الذين لا يقنع البطريرك أحداً بأن قلبه عليهم فعلاً.
القارئ المعتاد على لغة المداورة والإحالات الخفية يفهم أن البطريرك يعتبر الانتفاضة السورية انتفاضة سنّية، وأن الإخوان المسلمين هم الممثلون الطبيعيون للسنّيين السوريين. ولن تفيد أية شواهد مغايرة لدفع السياسي الواقعي، البطريرك الراعي، إلى العدول عن هذا التقويم الاختزالي. فالسياسيون الواقعيون خشنو التفكير والتصرف، يصرفون باستهانة التمييزات الدقيقة وتشابك الهويات وتحولها وبالطابع المتشابك والمتحول لكل هوية، ليردوا الجميع إلى الأشكال الأشد ثباتاً وواحدية للهوية، الدين والمذهب. السنّيون سنيون، في سورية أو في لبنان، وسيتحالفون في ما بينهم ضد الشيعة اللبنانيين. ومع كل سياسة هوية، وبدرجة تتناسب مع أشكالها الأكثر ثباتاً وعتقاً، ثمة عنصر ملازم لا يغيب: الكراهية. سياسيو الهوية كارهون أكفاء. وعلى كل حال السياسي الواقعي كاره جيد. وعاطفة الكراهية هي ما يلفح وجه قارئ تصريح رجل الدين اللبناني الذي لا يشرح لقارئه لماذا سيدفع المسيحيون الثمن من التغيير السياسي المأمول في سورية، ولا يقدم شواهد على ذلك.
وليس مستغرباً بالمثل أن يجد علي عبدالكريم علي، السفير السوري في لبنان، أن كلام البطريرك «تعبير عن رؤية فكرية ووطنية وسياسية متوازنة ومسؤولة ومنسجمة مع دور الكنيسة التي يمثلها في مواجهة المؤامرة التي تستهدف المنطقة برمتها». لا وجه للاستغراب، وقد لا يمضي وقت طويل قبل أن تقال أشياء وأشياء عن مستوى السفراء السوريين والبعثات الديبلوماسية السورية وعن الجهات التي تختارهم وعن معايير اختيارهم، وعن التركيب الداخلي لكل من هذه البعثات. هذا ضروري منذ الآن، ودوماً، ولكن قد لا تتاح المعلومات الكافية في شأنه قبل «سقوط النظام». وهو ما يجعل السقوط هذا حاجة معرفية، فوق كونه مطلباً سياسياً ووطنياً، وواجباً أخلاقياً.
ولكن ما هي الرسالة التي تصل للسنّيين وللإخوان المسلمين من التصريح الفريد لرجل الدين اللبناني؟ وإذا كان كلامه يندرج ضمن منطق «تحالف الأقليات» الذي تواترت الإشارة إليه أخيراً، فكيف لا يسوّغ سياسة هوية معاكسة تعتمد على الأكثرية، مُعرّفة بالدين والمذهب؟ وهل يشغل البطريرك موقعاً سياسياً أو أخلاقياً يبيح له التحفظ عن استناد الإخوان المسلمين المحتمل على سياسة أكثرية، «يدفع المسيحيون ثمنها»؟
هناك نقيضان لسياسة تحالف الأقليات. نقيض أول على أرضية سياسة الهوية هو استبداد الأكثرية، الإسلامية السنّية في سياقنا. ومن بين جميع الناس، لا يحق للبطريرك بشارة الراعي الاعتراض على هذه السياسة لأنه لا يقترح شيئاً أفضل من إبقاء الأكثرية ذاتها تحت وطأة استبداد قاتل، ولأنه يجاهرها بالكراهية، ويعتبرها خطراً على المسيحيين والشيعة. بهذا يضع البطريرك الماروني نفسه في علاقة وجه وقفا بالإسلاميين السياسيين الأكثر تشدداً، الذين يعتبرون مجتمعاتنا إسلامية، وتالياً ينبغي أن يعود حكمها إلى الإسلاميين. إذ ما دامت المسألة سياسة واقعية، أطرافها هي الطوائف، فلماذا ينبغي أن تتردد الأكثــرية الطائفية في الاستفادة من وضعها الأكثري؟
لكن النقيض الحقيقي لسياسة تحالف الأقليات هو ما يناقض أيضاً سياسة الهوية ككل، ويقوم على مبادئ المواطنة والمساواة. نخرج هنا من منطق التفكير بمسيحيين ومسلمين، وسنّيين وشيعة، إلى التفكير بمواطنين أفراد، متساوين حقوقياً (أمام القوانين) وسياسياً (وراء القوانين، أي في صنعها)، ويكافحون من أجل المساواة الاجتماعية.
لا يقبل الإسلاميون بهذا المنطق؟ لديهم تحفظات عنه؟ بلى، ولكن لماذا ينبغي أن يكون عبء القبول واقعاً عليهم، فإن لم يقبلوا، اقتدى بهم الكل؟ وهو ما يترك موقع الدفاع عن مبادئ المواطنة ومحاولة تجسيدها في الواقع خالياً. وما ينذر مصير مجتمعاتنا، في سورية ولبنان على الأقل، لتوازن القوى بين الطوائف: لـ «تحالف الأقليات»، وقد تجسد بديكتاتورية عاتية في سورية في العقود الأربعة الأخيرة، أو لاستبداد الأكثرية المحتمل.
من شأن الاستناد إلى مبادئ المواطنة والمساواة السياسية والحقوقية والاجتماعية المرتبطة بها أن يؤسس لتشكل أكثرية اجتماعية جديدة، ليست متميزة عن الأكثرية الدينية أو المذهبية فقط، وإنما هي ما يتيح لمتحدّرين من الأقليات أن يكونوا جزءاً من هذه الأكثرية الجديدة المتحولة.
الانتفاضة في سورية هي أقرب إلى منطق المواطنة بما لا يقاس من النظام الذي اعتمد على تحالف الأقليات منذ نحو أربعين سنة. ليس انتصار الانتفاضة على النظام نهاية للصراع السياسي في سورية، ولا هو إيذان بدخولنا جنة المواطنة متساوين، لكن فوز النظام لا يعني شيئاً غير تغذية التمايزات الطائفية وسياسة التحالفات الطائفية التي لا تصلح قاعدة عامة لنظام سياسي مستقر، كيلا نقول متحرر.
من المرجح جداً أن يكون للإسلاميين وزن أكبر في الحياة العامة والسياسية في سورية بعد سقوط النظام. ولكن من شأن ذلك أن يقرب، لأول مرة منذ نحو جيلين، بين الديموقراطية والعلمانية، بعد تباعد، وبعد أن ارتضى العلماني النمطي في سورية أن يكون شاهد زور على استبداد طائفي مضاد للإسلاميين. ومن شأنه أيضاً، والأهم، أن يعيد الأقليات الدينية والإثنية والمذهبية إلى مواقع نقدية وتحررية، خرجت منها منذ عقود بفعل سياسة تحالف الأقليات.
عن ملحق تيارات – جريدة الحياة 18/9/2011
08-أيار-2021
04-شباط-2017 | |
02-تشرين الثاني-2015 | |
22-تموز-2015 | |
في الذكرى الثالثة للثورة السورية نهاية جيل من التفكير السياسي السوري وبداية جيل |
20-آذار-2014 |
04-كانون الأول-2012 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |