غيّروا التاريخ

لم يعد اللبناني العنيد مبدعاً. لا ابداع في الادعاء ان بقاء النظام السوري ضمان للمسيحيين في لبنان. الاصح ان في هذه المعادلة ابتذالاً ما بعده ابتذال. كذلك الادعاء ان سقوط النظام السوري سيؤدي الى توطين الفلسطينيين. كل مسيحي يصدّق هذه المعادلات، إما انه ساذج يعيش في عصر الظلمات، وإما انتهازي لا همّ له الا اللعب على التناقضات ليحظى بالسلطة. الارجح ان السبب الثاني له الاولوية على ما عداه في قاموس طرابين الحبق الذين استفاقوا على عروبتهم وممانعتهم وتمنعهم عن اغراءات الغرب، تماماً كما استفاقوا على الاخطار التي تحدق بالمسيحيين ومن غير الجهة التي استباحتهم ولاحقتهم وحرمتهم المشاركة في لبنان ما بعد الطائف.
قبل السياسة والاستراتيجيات، ثمة في هذا الطرح مأخذ فظيع لجهة الاخلاق والانسانية، اذ لا شيء يبرر قتل النفوس البريئة بحجة خوف الاقليات من الاكثرية. من هنا يصبح التبرير مشاركة في الجرائم التي ترتكب في حق الشعب السوري، ومن يقتل شعبه لا يملك مبادئ وقيماً تقضي بحماية اقليات في عينها، الا اذا كانت تخدم مصالحه وتستر جرائمه وتمنحه شرعية صورية لا يؤمن بها حتى من يتشدق بها. مشينٌ القول ان الاقلية المسيحية تتعرض الى الخطر اذا تغيّر النظام في سوريا من دون اي اعتبار للغالبية التي تُقتل يوميا وتُنحر وتُنزع حناجرها وتسلخ رؤوسها!
الحقيقة ان هناك من يخاف على النظام في سوريا. يحسبها على الشكل الآتي: اذا راح الاسد فقد يضعف حليفه القوى الذي منحته سلطته، ما يعني ان محسوبكم مهدد بخسارة اصوات الشيعة الذين يصبّون كتلة واحدة له ليفوز هو ومَن في كتلته في الانتخابات النيابية ويحصل على اكبر عدد من الوزراء.
هذه هي الحسبة. اما التلطي خلف مصلحة المسيحيين فليست اكثر من حجة مبتذلة. من يطرحها ويستخدمها يخالف الطبيعة، ويتناسى عامداً متعمداً ما حصل منذ سبعينات القرن الماضي بقصف الاشرفية وقصف قصر بعبدا بالطيران السوري وما أسفر عنه من هرب جنرال الرابية وتحوله لاجئاً في السفارة الفرنسية، وإقامته في الغرب الذي حفظ له حقوقه الانسانية وقدّم إليه المأوى واستقبل عائلته ورفاقه.
اذا لم يكن الامر كذلك، فيجب أن نغيّر التاريخ ونلغي الاحداث التي حصلت وأدت الى شعبية جنرال الرابية. فلا سبب كان يدعوه الى مواجهة عسكرية مع النظام السوري، ولا الى قصف تلاميذ المدارس في مواجهة فاشلة مع هذا النظام، ولا تعريض قصر بعبدا الى قصف الطيران السوري، ولا خروجه بالبيجاما تاركاً حريمه في أقبية القصر. لم يحصل شيء من هذا القبيل. لم يلجأ الجنرال الى سفارة اجنبية ليطلب الحماية ويتم اخراجه من البلد، ومن ثم وبكرم أخلاق من الذين غزوه لم يتم سبي نسائه، ليغادرن من المطار تحت رحمة المخابرات بعد التفتيش و"استعادة" ملايين الدولارات التي كنّ يهرّبنها على انها تبرعات المريدين الباحثين عن منقذ.
سبحان من يغيّر ولا يتغيّر. لكنه زمن الابتذال على ما يبدو. وحدهم الانتهازيون يريدون للنظام ان يبقى ليبقوا هم. ليس للمسيحيين او المسلمين او غيرهم من البشر الاسوياء علاقة بمثل هذه المعادلات التي تستوجب وفق منطق التخويف تشجيع ابادة الاكثرية، كأن الشعوب عبيد تقطع رؤوسها وتنتزع حناجرها اذا طالبت بالحرية لوطنها.
اما قمة الابتذال ففي اللجوء الى العروبة في هذه الايام لإمرار بقاء النظام السوري. كأن العروبة ترشح زيتاً من هذا النظام، مع أن أمجاده بنيت على شرذمة هذه العروبة وقضاياها، واولاها القضية الفلسطينية.
مرحبا عروبة، عندما لا حديث الا عن الاقليات التي يجب ان تُذبح الشعوب لحمايتها، ما يذكّرنا فوراً بأقلية عدوانية متغلغلة في نسيج منطقتنا، وبحجة الخوف والتخويف من محيطها العربي ترتكب أفظع الانتهاكات وتحتل وتصادر وتستعمر وتجيّش العالم ضد المطالبة بدولة فلسطينية. الانكى أن أقليات أخرى تستخدم العداء لاسرائيل ذريعة لقهر شركائها في الوطن، وتنتهج استراتيجيا تخويف الاقليات من الغالبية المسلوبة حقوقها الوطنية وليس الدينية لتبرر ارتكاباتها.
رجاءً غيِّروا التاريخ.