حوار مع علا شيب الدين / رغم وعورة الطريق سائرون...ولن نتوقف
2011-10-12
حوار هيئة تحرير موقع "frog" فروغ مع علا شيب الدين
هيئة التحرير: مع انطلاقة الانتفاضات في المنطقة العربية نُظر إليها كانتفاضات للشباب، الآن بعد أشهر كيف يمكن تقييم دور الشباب في الانتفاضة؟
علا شيب الدين: بعد أشهر من ثورات حرية وخبز تريد القطع مع عهد التهميش والإقصاء؛ صار بالإمكان الحديث وبثقة لا حدّ لها عن تشكّل وعي ثوري عربي/إسلامي، وبدقة أكبر، وعي شبابي يدرك أن الديمقراطية لا يمكن تحصيلها من الغير؛ لأنها السّير الشاق بحذاء أو من دونه؛ فما تشهده ساحات التغيير من إصرار تعمِّده إرادات شعبية تريد حياة مفعمة بقيم الحق والخير والجمال رغم العنف والتقتيل والتنكيل المرعب الذي تواجهه، ورغم التفافات "الثورات المضادة" لثورات الحق والخير والجمال؛ ما تشهده الساحات يؤكد أن ثمة إرادة شابة تعي الديمقراطية أو ربما تحدسها على أنها مكابدة، عيش، تدريب للذات وتهذيبها عبر مرورها بمقامات وأحوال تكاد تشبه تلك التي يجب أن يمرّ فيها الصّوفي السّالك على طريق المشاهدة، ولعلّ الصّبر أهم تلك المقامات التي تمكّن السّالك من تحمّل ما يحلّ به من نكبات.
ما يفعله الشباب اليوم ليس إلا رد اعتبار للشعوب العربية/الإسلامية، كاشفين بذلك ضبابيّة النظرة الاستشراقية الاستعلائية والازدرائية التي عملت على "تذويت" هذي الشعوب بسِمَة "القاصر" العاجز على أن يرتقي أو ينضج؛ هذا من جهة. ومن جهة أخرى يردّ الشباب الاعتبار لذات ابتلعتها أنظمة ديكتاتورية قمعيّة فاسدة ومفسِدة، حكمتها على مدار عقود طويلة عبر نظرة أيضاً اتّسمت بالازدرائية وبعنجهيّة لا تقلّ استكباراً عن استكبار الغريب إيّاه، ولا شكّ أن الوجع هنا أكثر وجعاً.
يبدو فعلاً أن دور الشباب الأهم يكمن في رد الاعتبار لشعوب أثبتت انتماءها إلى المجتمع الإنساني ودلّلت على أنها لا تختلف عن غيرها من الشعوب في كل الأصقاع من حيث تطلّعها إلى الحرية والكرامة والعدالة وهذه المفاهيم تُترجم سياسياً بالدولة المدنية الديمقراطية، وقدّمت الأدلة الدامغة على أن " قصور" هذي الشعوب إنْ هو إلا وهم حاكه حكامها بالتشارك وخارجٍ عمل جاهداً بدوره من أجل إخماد جذوة الحياة لديها، وكل ذلك حكَمته مصالح جشعة سياسية واقتصادية ولا شيء غير المصالح. ولا بأس في هذا الصدد في استحضار مصطلح نظّر له الماركسي الفرنسي لوي ألتوسير، أي "التذويت". والتذويت هو تشييء الإنسان وتحنيطه بسِمَة محدّدة عبر استدخال السلطة في الذات، وقد اعتبر ألتوسير أن استدخال السلطة في الذات يعني ألا يغدو أعضاء المجتمع الأفراد "ذواتا" قبل أن "تستدعيهم" قوى المجتمع الحاكمة أو ما يدعوه ألتوسير بـ(أجهزة الدولة الأيديولوجية)، فالشخص لا يولد "ذاتا" بل المجتمع هو الذي يحوّل الشخص إلى ذات. أي أن الشخص بهذا المعنى ليس إلا موضوعاً أو شيئاً. هكذا تُختزَل الذات وتُختصَر إلى مجرد سِمَة محددة ساكنة مغلقة، وانطلاقاً من هذا الأساس تم التعاطي مع الإنسان في المنطقة العربية/الإسلامية، أي تم "تذويته" على أنه "شيء" " قاصر" سواء على يد سلطة داخلية (أنظمة الحكم) أو على يد سلطة خارجية (الاستعمار، أو الآخر الانتهازي المتمثل بالغرب المركزي الذي يتعاطى مع العالم من خلال نظرة أحادية اختزالية). وعلى هذا "الشيء" "القاصر" ثارت ثائرة الشباب عاصفين بكل نموذج متسلّط، دافعين الغالي والرخيص لتحطيم الأصنام والأيقونات، مؤكّدين أن النّبض الحي وإرادة الحياة أهم وأعلى شأناً من كل الأوهام التي لازمت شعارات خاوية رزحت الأمة تحتها طيلة عقود. فلا مثقف سلحفاتيّ الإيقاع ومغترب عن واقع نظّر له مراراً وتكراراً مع عجز تام على النفاذ إليه سيظلّ "نجماً" بعد الآن؛ ولا سياسيّ فاسد مدّع للوطنية ومحتكر لها وللمقاومة والصمود والممانعة عبر شعارات أكل الدهر عليها وشرب سيظلّ "بطلاً" بعد اليوم، ولا شيخ فقيه للسلطان يتشدّق بالحِكَم والمواعظ سيظلّ "ملهماً"، ولا ثريّ جشع متدثّر بأموال الناس من قبل ومن بعد سيظلّ "سوبراً"، ولا ولا...، فعلها الشباب الثوّار، فكانوا أنصار الحق والخير والجمال قولاً وفعلاً دفعة واحدة، ويبدو أن هؤلاء الثوّار لم يغب عنهم أن الأهم يكمن في مواصلة التنصّر لتلك القيم والتصدّي لأية محاولة نكوص تعود بالبلاد إلى ما كانت عليه قبل الثورة، فإن كانت المرحلة الأولى قد تحققت في بعض الدول مثل تونس ومصر، أي مرحلة هدم النظام الاستبدادي القائم، فإن المرحلة التالية الأصعب هي مرحلة البناء التي يقف في وجهها ما يُسمى بالثورة المضادة التي تفتعلها على الأغلب بقايا الأنظمة البائدة أو فلولها.
هيئة التحرير: بالنظر إلى الوضع في سوريا خاصة، كيف تغيرت صورة الشباب السوري اجتماعياً؟ وكيف تغيرت نظرة الشباب السوري إلى نفسه أيضاً؟ مثلاً هل كانت هناك مفاجآت إبداعية لم تكن في الحسبان؟
علا شيب الدين: عاشت سوريا جموداً -لا استقراراً- دام عقوداً طويلة، وفتكت بالناس كآبة مرّة، فلا تفاؤل ولا فرح ولا أفق يُطمَح إليه. لم يعش السوريون كشعب، ككلٍّ مشخّص، بل كانوا دوماً جزءاً مجرَّداً ومغيَّباً في عوالم تائهة لا تمسّ عالم الإنسانية الحقّة في شيء. كان ذلك الجمود كافياً لإماتة الكثير من الإمكانيّات المتميّزة، فالإبداع غالباً ما يكون وليد انشطارٍ وتناقض.. حركة وقلق إيجابي، وغالباً ما ترتبط يقظة الوعي بالصّدمة، وهذا ما لم يوفّره مناخ شابته طمأنينة قسريّة استعبدت العقل وطوّقته قامعة لكل محاولة يتجرّأ من خلالها على الوثب أو التفكير في التعرّف إلى المختلف أو النّقيض، إذ أن كل نقيض يجب أن يكون مكتفياً بذاته غير راغب في ولوج عالمِ نقيضٍ آخر، وهذا جزء من تربية الاستبداد - إن صحّت كلمة تربية -، وربما يكون "التّرويض" أكثر دقة. إنه ترويض قائم على الإفساد والعزل، والإعلاء من شأن الجهلة والجهل.
وكان ذلك المناخ القمعي الذي عاشه الإنسان السوري طويلاً، كافياً ليس فقط لإماتة الكثير من إمكانياته المتميّزة، بل كافياً أيضاً ليجعل منه مجرماً كبيراً في أية فرصة تسنح لذلك؛ لكن المفارَقة المذهلة تجلّت وقتما هبّت عواصف التغيير في أواسط الشهر الثالث من العام الحالي، لتكشف عن أن المناخ السّكونيّ الجامد، الكاره والحاقد إيّاه لم يقوَ إلا على صنع كائن ودود، مُحِب ومسالِم. كائن يختزن في عمقه حبّاً جمّاً للحرية، ورغبة عارمة في استعادة كرامة مهدورة، وتوقاً لعدالة غائبة وفرح مكبّل، فلو تأملنا المظاهرات التي عمّت وتعم أرجاء سوريا من حيث هي "كرنفالات" تعتمر بالأغاني وبالأهازيج والمظاهر الاحتفالية مثل البالونات والتصفيق- احتفالية ممزوجة بسخط وغضب عارمين طبعاً، وبألم وحزن صارخين أيضاً-، ولو تأملنا مسْرَحَة التظاهرات عبر طقوس تسخر من شخوص قُدِّسَت وأفكار بَعْثٍ أُلِّهَت، لو تأملنا كل ذلك وأكثر؛ لاكتشفنا حبّ هذا الشعب للحياة وتوقه للفرح المقموع، وقدراته الإبداعية في استثمار ما بين يديه من تكنولوجيا أوصلت صوته للعالم ووثقت مآسيه عبر كاميرات محمول صغير فضح ما يجري في دهاليز بلد معتم لا يوجد فيه سوى إعلام ينطق باسم سلطة تقمع وتذل وتهين في كل حين.
نعم، أحدثت عواصف التغيير في الوعي السوري عموماً والشاب خصوصاً، صدمة جعلته "يبدع" مفاهيم حرية وسلام، صدمة جعلت منه داعٍ من طرازٍ عالٍ للتآخي وللوحدة الوطنية، فقد أبدع عبرعواصف محمَّلة بالحرية وبالعنفوان والكبرياء، وعبر لغة ثائرة متوهجة تعبّر عن روح شعب يظمأ مع كل نبضة لحرية تليق بروحه الوثابة. أبدع مع أن ما قوبلت به هذه الروح العطشى للحرية كان من أقذر أنواع البطش ربما على مرّ التاريخ الإنساني.
ولعل الإبداع الأهم كان ذلك الذي اندلعت عبره إحدى شرارات الثورة السورية المبارَكة، أي ما أبدعه أطفال درعا حين خطّوا على الجدران بأناملهم الطريّة عبارات ملهِمة. أسّست لحظة الكتابة تلك لزمن جديد لا يعود للوراء، فقد افترش هؤلاء الأطفال بأرواحهم الطفوليّة المتفلسفة الهائمة في التساؤل، مسافة بينهم وبين السواد أو الغالبية..مسافة مكّنتهم من إبداع ما أبدعوا، فكانوا روّاد حرية...ثوّار تمرّدوا على "دولة" تعاديهم.
"إن بومة مينيرفا لا تحلّق إلا عند الغَسَق" عبارة نحتَها هيجل تفيد أن الحكمة تلقّن في أحلك الأوقات، وليس من حكمة أجلّ وأبدع من تلك التي يحاول الشباب السوري "الثوري" المسالم ترجمتها قولاً وفعلاً عبر رفضه لثلاثة أمور( الطائفيّة - العنف والتسلّح – والتدخل الخارجي العسكري) ، وتالياً عبر إصراره على المضيّ قدُماً نحو دولة مدنيّة ديمقراطيّة تعدّديّة!
هيئة التحرير: ما هي الآفاق المتوقعة لدور الشباب السوري، في حال نجحت الانتفاضة في تحقيق المطالب الشعبية؟
علا شيب الدين: مع أنني أميل الآن إلى (تغيير العالم وليس فهمه)، ومع أنني أرى أن الإنسان كائن لا يخضع للتوقّع عبر حصره بسبب ونتيجة. ومع أن التوقع يبدو صعباً، فالثورات منذ بداية العام الجاري تميّزت بعفوية لا تسمح بالتوقع، فلسنا هنا أمام قضية منطقية واضحة ننطلق من مقدماتها المحددة لنصل إلى نتائجها المساوقة للمقدمات، بل إننا أمام حياة تضجّ انفعالات وصيرورات متسارعة؛ ومع ذلك سأعطي لنفسي بعضاً من الحق بأن أتوقع أموراً تتّسم بعموميّة مُستنتجة أو مُلتقطة من تفاصيل تحدث على الأرض.
ما يحدث على الأرض السوريّة الحبيبة "ثورة"، ثورة شعبية يعتمرها الاحتجاج منذ أواسط الشهر الثالث من العام الحالي، احتجاج على عقود من قهر مادي ومعنوي كان محصِّلة لما ليس بدولة، فالدولة يُفترض بها أن تكون كائناً غير متعال على أسّه وفحواه أي (الشعب)، كائن يحتضن الناس عبر المساواة بينهم في الحقوق والواجبات (المواطنة)، وهذا ما لم تفعله دولة غاب عنها القانون لصالح طغمة حاكمة وأجهزة أمنية علت سلطتها على سلطة القانون وابتلعت الدولة ومؤسساتها مقصية الشعب سياسياً واقتصادياً وكليّاً.
لذا فإن دور الشباب سيكون في نسف هذا الواقع الذي ثار عليه، تحقيقاً للهدف الذي ثار من أجله، أي الدولة الديمقراطية المدنية، وهنا لا بد من أن يكون الشباب السوري واع لمخاطر الالتفاف على ثورته، إذ إنه ليس من الوعي في شيء تجاهل من يتربّص بالثورة لينقضّ عليها في الفرصة المناسبة ويلتهم ما ليس من حقه، أي أنه من الوارد جداً أن يلتفّ بعض المخضرمين المتمرّسين في الفساد على ثورة الشباب ليختطفوا ثورتهم وهذا سيهدد تحقيق مشروعهم الذي ثاروا لأجله، حينها سيدرك الشباب أن عليهم أن يتقنوا العمل السياسي إيجابياً، وتبعاً لذلك سيكون للشباب أدوار محوريّة تحرص على إرفاق التبصّر والتعقل مع حماسهم الثوري ومتابعة تحقيق أهداف الثورة خطوة بخطوة، ولعل أهم هذه الأدوار سيكون في تفعيل مؤسسات المجتمع المدني وتسطير دستور جديد للبلاد من خلال روح شبابية واعية وثائرة، ترسّخ حق الشعب السوري كأي شعب في أن يحيا في كنف دولة حديثة معاصرة.
وأحسب أن التعاطي مع ثورتي تونس ومصر الذي كان سلبياً بالمطلق من قبل النظام السوري الذي راعه ما أفضت إليه الثورتان فما كان منه إلا أن لجأ إلى أشدّ وأبشع أنواع العنف حين وصلت الثورة إلى سوريا؛ سيكون إيجابياً تماماً من الشعب، فالشباب السوري يستفيد وسيستفيد جيداً من ثورتي تونس ومصر وخصوصاً في التعامل مع مسألة الثورة المضادة.
هيئة التحرير: ما هو الدور الذي يقع على عاتق الشباب في المرحلة الانتقالية؟
علا شيب الدين: في البُخل ربما يكمن بؤس الإنسان. فالبخيل هو ذلك الذي منح وجوده هوية مغلقة قائمة على تملّك وابتلاع مع إصرار على تكبيل هذي الهوية عبر إغلاق كل منفذ ممكن أن يخرج منه شيء، وهو من ثم من أحكم قبضته على مفاتيح تمنحه وحده حقّ فتح هذه المنافذ وقت ابتلاع جديد. البخيل هو ذلك الذي لا يريد ولا يرغب – إن جاز الحديث عن إرادة ورغبة- أن يعطي. لا يعني البخيل الوطن ولا العشق يعنيه، كما لا يعنيه الأطفال. لا تهمّه حرية وكرامة وعدالة. ولا يكترث لتغيير. يستكثر الحبّ وتبادل العاطفة. إنه عدوّ أي حراك يغيّر من هويّته وقد اكتظّت بممتلكات ومحمولات تأبى الخروج. لا يؤرِّقه ألم الآخر أو وجعه. وعلى هذا؛ البخيل لا يتفاعل..لا ينتفض.. ولا يثور.
في الفقرة السابعة من مونادولوجيا ليبنتز نقرأ: "ليس للمونادات نوافذ قط يستطيع بها شيء أن يدخل إليها أو يخرج".
وإذا كانت هذي حال الموناد (الجوهر، النفس) فمن المستحيل إذن أن يعرف موناد بوجود مونادات أخرى طالما أنه ليس من تفاعل، ولا أخذ ولا عطاء، ولا صدّ ولا رد. إن موناد ليبنتز كائن فرد حرّ الفاعليّة، ثابت الوجود، منعزل في عالم لوحده. حقاً إن عالم مونادات ليبنتز معكوس في كلّ موناد، وإن الموناد عاكس للكون ومنعكس في المونادات الأخرى، ممثِّل لها في ذاته ومتمثِّل هو في ذاتها؛ لكن هذا لن يلغي عزلة الموناد وانطوائه عبر اكتفائه بذاته. هكذا، ربما يكون من الحكمة التفكير في إحداث ثقوب أو نوافذ في وجود كل موناد، نوافذ يخرج منها أشياء ويدخل عبرها أشياء. وبمعنى آخر، ربما يكون من الحكمة التفكير في إحداث نوافذ تمكّن محمولات كل موناد من تبادل العناق ومحمولات موناد آخر، وإذ تتخارَج محمولات المونادات متعانقة يبدأ الحُبّ في حكم العالم وتنحلّ الأنانيّات المحايثة للفرديّة المطلقة المنغلقة. والحب من الجمال لدرجة أنه لا يحاول هزيمة الفرادة وخصوصيّاتها، فلا مخاوف مع الحب إذن من ذوبان الفردية في الجموع؛ لأنه سيضمن فرادة الفرديّة في عمق أعماق الجموع. ولا مفرّ إذن للانعتاق من بؤس البخل من فتح النوافذ في موناد البخيل الذي أغلق كل منفذ يمكن أن يخرج منه شيء.
إذن: الكثير من الحب والرغبة في فتح النوافذ ووأد البخل هو ما يقع على عاتق الشباب في المرحلة الانتقالية وغير الانتقالية، مع حرص كبير من البخلاء واقتراب حميمي من المحبّين.
هيئة التحرير: برأيك، بعد حصول التغيير، ما هو الأفق الذي تتجه إليه سوريا في المستقبل القريب؟
علا شيب الدين: تعلِّمنا الفلسفة كيف نفكّر شموليّاً - شمول رحب ومغامِر، وليس شمولاً مستبدّاً منغلقاً وأنانياً-، فالتفكير الشّموليّ يفيدنا في التخلّص من مآسي الرّاهن لنتفكّر مليّاً بالإيجابي الحكيم الذي نسير نحوه. إن التأمّل في الطريق المتعِب المرعِب الذي يحاول الشعب السوري اليوم السّير فيه يحثنا - رغم الألم الذي يعتصرنا- على الالتفات إلى الأهم، والأهم يكمن في القراءة المتفلسِفة لما يجري، قراءة تجيد التّرحال ما بين مبنى التاريخ ومعناه، فما تضجّ به ساحات الحرية والتغيير في سوريا ليس فقط مجرد صراع بين نظام وشعب، بل هو أيضاً سير شاق ومضن على طريق الديمقراطية الوعرة، يلازم هذا السير وعي متفطّن إلى أن الأحذية قد لا تحتمل وعورة الطريق وأن الأقدام قد تضطّرّ لمواصلة السّيْر حافية.
إن قراءة ما يحدث الآن قراءة فلسفيّة؛ تنقل العقل إلى فضاء أرحب يتسامى فوق صغائر الآني الفاني، وأقول صغائر على سبيل المجاز لأن هذي الصغائر معجونة بكِبَر الضّرورة والأهميّة لكنها صغيرة قياساً للزمن الممتد اللامحدود. وقد قالها فولتير صراحة: إن بعض المؤرِّخين يهتمّ بالحروب والمعاهدات ولكنني بعد قراءة وصف ما بين ثلاثة آلاف وأربعة آلاف معركة وبضع مئات من المعاهدات لم أجد نفسي أكثر حكمة مما كنتُ قبلها، لم أتعرّف إلا على مجرد حوادث لا تستحقّ عناء المعرفة. وقائع التاريخ إذن تعوزها الحكمة ومساره ينقصه إدراك المغزى أو المعنى، وذلك ما يغفله المؤرِّخون ويهتمّ به فلاسفة التاريخ.
بالرغم من كل المحاولات القاصدة إلى ثني الثورة السورية عن هدفها وبتر استمرارها عبر التخويف من "بعبع" الأصوليات الدينية أو تفجّر المنطقة بأسرها عبر حروب أهلية أو أو. بالرغم من كل شيء، أقرأ ما يجري على أرض بلدي فلسفياً فأرى أن سوريا سائرة نحو أفق جميل وهام، نحو دولة مدنية ديمقراطية تعددية، وأعرف أنه علينا ألا نتوقع تحقق هذه الدولة قبل المرور بمرحلة قد تتّسم بشيء من الفوضى، فمنطقياً وتاريخياً، لا تنظيم إلا بعد فوضى، لكن مستقبل سوريا سيكون ديمقراطياً، وستنجح ثورة الشعب السوري ربما أكثر بما لا يقاس من الثورات في بقية الدول العربية لسبب أراه من أهم وأعمق الأسباب وأكثرها ضروريّة ألا وهو اعتماد الشعب السوري على نفسه اعتماداً مطلقاً؛ فهو الشعب الذي تآمر عليه القاصي والدّاني من المغرضين، وهو الذي بدأ ثورته وحيداً، وبقي وحيداً، وسيظلّ وحيداً، وسينتصر وحيداً.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |