Alef Logo
دراسات
              

العنف السياسي / دين كيث سايمنتن / ترجمة : شاكر عبدالحميد ـ

ألف

خاص ألف

2011-10-15

قال غبن : " إن التاريخ ليس أكثر من سجل لجرائم بني البشر و حماقاتهم و مصائبهم ". و وافق فولتير كذلك على أن »التاريخ ليس أكثر من صورة للجرائم و المحن الإنسانية. « و لو عددنا هذه الجرائم و المحن التي تركت أكبر الأثر على سجل التاريخ فإن الحرب ستكون ، دون شك ، على رأس القائمة. فالتاريخ ، أكثر من أي شيء آخر ، هو قصة الغزوات و المؤامرات و المعارك و الثورات. و يبدو من الطبيعي أن نتوقع أن يستغل القياس التاريخي هذا السجل ليجيب على عدد من الأسئلة الحاسمة المتعلقة . وضع المبدعين و القادة في التاريخ. و تبدو دلائل هذا التطبيق للقياس التاريخي واعدة بشكل خاص في ضوء النجاح الذي حققته أساليب القياس التاريخي إلى الآن . لكن من المهم أن نختار أسئلة جوهرية يمكن إخضاعها للبحث القياسي التاريخي ، و السؤال الذي سأطرحه هنا هو: ما الشروط السابقة للعنف
السياسي و النتائج المترتبة عليه ؟. ما المتغيرات المسؤولة عن الصراعات الداخلية و الحروب العالمية ؟.
ما المضاعفات المترتبة على اندلاع موجات العنف الجماعي هذه ؟. إن مراجعتي للبحوث المتعلقة بهذا الموضوع لا يمكنها أن تستوفي كل ما يمكن أن يقال حول هذا المضوع ، و ذلك لأن عليّ أن أحدد مناقشتي بالنتائج المتصلة بموضوعي الإبداع و القيادة. فمن الواضح أن العنف السياسي يولد فرصا فريدة لظهور القادة البارزين ، كما ينبغي أن يكون واضحا أن العبقري المبدع يتأثر هو أيضا ، إلى حد ما ، بخبرة الحرب.
الاضطرابات المدنية
يصل العنف السياسي ، على المستوى المحلي أحيانا ، إلى درجة الثورة التي تقضي على السلالات الحاكمة والطغاة أو الديموقراطيات ، و يصغر في أوقات أخرى إلى مستوى الشغب المحلي في المدينة ، أو يقتصر على مؤامرة في القصر. والأسباب و النتائج المترتبة على الاضطرابات الداخلية أسباب و نتائج مركبة لم تفهم إلا فهما جزئيا إلى الآن. لكن بحوث القياس التاريخي ألقت بعض الضوء على هذه الظاهرة.
بعض محددات الشغب والتمرد
لنتذكر .... أن الثوريين من وزن لينين يكونوا لأن يكونوا من الأطفال المولودين بعد عدد من الأخوة في أسر كبيرة العدد. وترتبط هذه النتيجة بالنموذج النظري للثورة الذي طوره ماتوسيان و شيفر( 1977 ).
و يمكن تلخيص هذا النموذج في النقاط الأربع التالية: أولا ، إن الشرط الأساسي السابق لاندلاع الاضطرابات الداخلية هو زيادة مفاجئة غير عادية في ضغط السكان زيادة تتجاوز الزيادة التي يتمكن نظام اجتماعي اقتصادي معين من استيعابها في الظروف العادية. وتعد ظاهرة زيادة معدلات إنجاب الأطفال التي حدثت في الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية مثالا على هذه الزيادة المفاجئة في السكان. و قد لا تكون مصادفة أن جيل أولئك الأطفال هو الذي قاد تمرد الشباب في الستينات. ثانيا ، يعد أهم جانب من جوانب تلك الزيادة في عدد السكان تلك الزيادة الحادة في نسبة صغار الراشدين من الذكور. و يعمل هذا التدفق المفاجئ من الذكور الذين يشعرون بالاغتراب على توفير احتياطي من الثوريين الممكنين ، و ذلك لأن الذكور يهيمنون على الثورة هيمنتهم على الحرب تقريبا. ثالثا ، يعتبر الضغط السكاني مسؤولا عن وجود قدر أكبر من العداوة بين الأب و الابن، و كذلك بين الأخوة ، بينما يعزز العلاقة الإيجابية بين الأم والابن. و تؤدي معدلات الخصوبة المرتفعة إلى وجود أسر كبيرة و تكون هذه البيوت المكتظة بالسكان تربة خصبة لثوار المستقبل. رابعا ، تبلغ الفترة الفاصلة بين ضغط السكان و بين العنف السياسي الداخلي حوالي 25 سنة - مع وجود زيادة أو نقص مقداره 4 سنوات - أو ما مقداره جيل واحد تقريبا. إن صغار الذكور الذين يتعرضون لعلاقات لا تتسم بالتآلف أو الانسجام مع آبائهم و أخواتهم تنمو فيهم شخصية متمردة عليها أن تنتظر مجيء مرحلة الرشد المبكرة لتعبر بعنف عن سخطها ضد من يحكمون اﻟﻤﺠتمع.
و قد اختبر ماتوسيان و شيفر نموذجهما هذا بطريقة غير تقليدية. فدمجا العينات التاريخية و المعلومات السياسية من ناحية ، و المعلومات الخاصة بالعلاقات الأسرية المستقاة من سير شخصيات الأدباء الفرنسيين و الإنجليز.
و قد اختيرت الشخصيات الأدبية هذه بسبب وفرة المعلومات المتاحة حول الحياة المبكرة لكل منهم. و نحن لسنا ملزمين لدى الاستفادة من المعلومات المأخوذة من السيرة بأن نفترض أن درجة التوتر الأسري في حالة مبدعي الأدب تساوي درجة التوتر الأسري لدى الثوريين. و لكن علينا أن نفترض أن تقلبات التوتر الأسري عبر التاريخ تسير بشكل متواز لدى هاتين اﻟﻤﺠموعتين.
فإذا قبلنا هذا الافتراض فإن البيانات المتاحة تدعم تقريبا فرضية ماتوسيان و شيفر. فقد جاءت ثورات الأعوام 1830 و 1848 و 1871 كلها في التاريخ الفرنسي مثلا عقب زيادات مفاجئة في الضغوط السكانية كانت قد حدثت في أوقات سبقت تلك الثورات بثلاث و عشرين سنة ، و ست و عشرين سنة ، و تسع و عشرين سنة على التوالي. كما ظهر أن التوترات الأسرية تقدم الرابطة السببية التي تربط ما بين تلك الانفجارات السكانية و الثورات.
لقد قدم ماتوسيان و شيفر بعض الملاحظات المثيرة التي تربط نموذجهما بالنظريات الأخرى في العلوم السلوكية. فقد زعما ، مثلا ، أن نموذجهما يتفق و الفكرة القائلة إن العنف السياسي ينشأ نتيجة لخيبة الآمال. والمثال المعاصر الذي نقدمه لتوضيح هذا الأمر يتعلق بجيل " زيادة معدلات إنجاب الأطفال " الأمريكي ، و هو جيل عاش في فترة من التوقعات المزايدة و من التوسع الاقتصادي الماثل للتفجر المفاجئ في الخصوبة. و لكن عندما وصل أبناء هذا الجيل المتفائل إلى سن المراهقة و إلى عشرينات أعمارهم أصبحت ملامح الواقع أقسى ، و انحدرت الآمال بشكل عنيف ، محدثة الإحباط . و هذه الزمرة تكون- وفقا لما ذكره ماتوسيان و شيفر- أميل للعنف عند سن الخامسة و العشرين ( زد أو نقص أربع سنوات ) -أي للتمرد ضد الشخصيات الممثلة للسلطة. لقد شهدت أمريكا في الستينات صراعات .ثلت في تولي الطلاب مقاليد الأمور في جامعات كولومبيا وهارفرد وبيركلي ، كما شهدت المظاهرات التي حدثت في شيكاغو أثناء انعقاد مؤ تمر الحزب الديقراطي عام 1986 و في جامعة كنت الحكومية بعد غزو كمبوديا عام 1970 . و يمكن أن تعكس هذه الأحداث كلها أشكالا شخصية من الصراعات التي تدور داخل الأفراد ، و هي صراعات تنشأ من الأسر التي ترعرعوا فيها حتى وصلوا مرحلة البلوغ.
لا شك أن أحداث الشغب و الثورات أحداث ذات أسباب متعددة يشكل النمو السكاني الذي يتجاوز الحدود مجرد عامل واحد منها. و من العوامل الأخرى التي تؤثر على توقيت العنف السياسي الداخلي عامل حرارة الجو.
فالاضطرابات الداخلية لها صلة وثيقة بالأشهر الحارة من السنة. ففي فرنسا مثلا حدث الاندفاع الجماهيري العاصف نحو سجن الباستيل في 14 يوليو /تموز 1789 و هو اندفاع بدأ -رمزيا- سلسلة ثورات الصيف العديدة في باريس ، و هي الثورات التي تضم ثورة يوليو/ تموز 1830 و أيام الحرب الأهلية الدموية في يونيو/ حزيران خلال ثورة 1848 . و لا ريب أن النزاع الداخلي ليس دائما من الأنشطة الصيفية. فقد حدثت كل من الثورة الصينية عام 1911 و الثورة الروسية عام 1917 في أكتوبر/ تشرين الأول. لكن بحوث القياس التاريخي حول هذه النقطة تشير إلى أن الاضطرابات الداخلية يزداد احتمال وقوعها خلال الأشهر الحارة من السنة ( Baron and Ransberger ( 1978 ; Carlsmith & Anderson, 1979فلم تشهد ستينات هذا القرن فترة من ثورة الشباب فقط ، بل شهدت أيضا ذروة تمرد السود في المدن الداخلية الأمريكية. و قد حدا هذا الميل العام لحدوث عمليات التمرد و الشغب هذه خلال الأيام الأكثر حرارة من السنة بالعديد من الناس لأن يعزوا ذلك لأثر "الصيف الطويل الحار ". و رغم وجود بعض الاختلاف حول الشكل الدقيق للعلاقة الوظيفية بين درجة الحرارة المحيطة بالإنسان و بين العنف الداخلي فإن الكفة الراجحة من الشواهد تشير إلى أن احتمال حدوث العنف في المدن يرتفع عندما تصل درجة الحرارة إلى مستوى لا يمكن تحمله. أي أن درجة الحرارة قد تلعب دورا مساعدا في توقيت التعبير العنيف عن السخط الشعبي. لقد كان الظلم الاجتماعي و الإحباط الاقتصادي و الاغتراب السياسي من الظواهر التي أصبحت مزمنة في منطقة " الجيتو " الخاص بالسود في واتس بلوس أنجلوس ، و احتاج هذا الحال إلى ليلة صيفية حارة من شهر أغسطس / آب عام 1965 لتشعل الانفجار الذي أطلق آلاف الأفراد ، معظمهم من الذكور ، الذين كان متوسط أعمارهم خمس و عشرون سنة يزيد أوينقص 4 سنوات في هياج استمر ستة أيام من النهب والحرق.
بعض النتائج المترتبة على الاضطرابات الداخلية
قد يتأخر اندلاع العنف المحلي حوالي جيل واحد بعد حدوث الزيادة في الضغط السكاني مثلما قد تحتاج الآثار الناجمة عن هذا الانفجار إلى جيل آخر لتكشف عن نفسها . و مثلما قد تكون التوترات داخل الأسر الكبيرة شروطا سابقة لظهور الشخصيات المتمردة ، كذلك قد تشكل نشاطات هؤلاء المتمردين خبرات تطورية يستفيد منها جيل آخر ذات يوم. فما هي بالضبط آثار " الجيل العنيد المتمرد " ( بكلمات الكتاب المقدس ) على الجيل التالي له؟. لقد لاحظنا في الفصل الثامن أن هناك احتمالا متزايدا أن تغذي الثورات الموجهة ضد محاولات إحداث التجانس بين الدول المكونة للإمبراطوريات الكبيرة عملية ظهور العبقري المبدع بعد جيل من حدوث هذه الثورات. و انهيار أدوات السيطرة و التحكم خلال فترات الغليان الاجتماعي يبدو أنه يفتح الطريق أمام الابتكار (Barnett, 1953 ) لكن العنف السياسي ليس دائما إيجابيا في تأثيراته على الإبداع . لنتذكر من الفصل الأول من هذا الكتاب أن عدد المبدعين في اﻟﻤﺠالات الفكرية ، أي المبدعين في العلم و الفلسفة و الأدب و الموسيقى ، في مقابل التصوير و النحت و العمارة ، و هي اﻟﻤﺠالات التي تعرض مبتكراتها عرضا ، يكون هذا العدد في الجيل ( ج) دالة سالبة لمدى شدة الاضطرابات السياسية في الجيل ( ج - Simonton ) ( 1975 – c ).
إن الاضطراب السياسي ، كما أعرّفه هنا ، يعني الفوضى بين قادة الأمة : انقلابات عسكرية ، صراعات بين الأعضاء ا لمتنافسين في البيت الملكي ، اغتيالات سياسية للوارثين الشرعيين للعرش أو للحكام ، و غير ذلك من المؤشرات التي تدل على الخصومات العنيفة بين النخبة القابضة على زمام السلطة. و لا بد لنا من أن نميز هنا بين الاضطراب السياسي و بين الاضطرابات المدنية أو الداخلية التي تستدعي مشاركة الجماهير ، و ليس النخبة فقط . إن الصراعات بين رجال السلطة تجند الجماهير أحيانا.
و لكن من يحتلون المواقع السياسية العليا هم الذين يقررون مجرى الأحداث في حالات الاضطراب السياسي . فالفوضى في قيادة الأمة هي معركة بين الأقوياء . أما الاضطرابات المدنية فهي صراع بين الأقوياء و الضعفاء.
و الاضطراب السياسي يؤثر سلبيا على الإبداع الفكري فقط و ليس على الإبداع الذي يعتمد أسلوب العرض. و ينحصر تأثيره السلبي ذاك على فرص ظهور المبدعين ذوي القدرات العقلية العليا. و قد بينت بالنسبة لواحد من الفروع المعرفية الفكرية و هو الفلسفة أن شهرة المبدع الفرد الناشط في جيل معين ( ج ) تكون دالة سالبة بمقدار الاضطراب السياسي السائد في الجيل ( ج – 1 ) ( Simonton 1976 F ) . والظاهر أن الاضطراب السياسي لا يؤدي فقط إلى خفض العدد الكلي للعقول الفلسفية العظيمة بل إلى خفض نسبة العباقرة العظام إلى من يقلون عنهم في الموهبة. كذلك فإن الاضطراب السياسي يترك و هذا الأثر خلال فترة تطور االمبدع ، لكنه لا يؤثر على المبدعين الراشدين بشكل ملموس.
و الفارق بين مظاهر النشاط الفكري و مظاهر النشاط القائم على العرض فارق هام لفهم هذه النتائج. فالنشاطات الفكرية تشتمل على درجة عالية من المنطق و التحليل اللغوي المنتظم على هيئة صيغ متسلسلة عبر الزمان.
أما النشاطات القائمة على العرض فتستلزم أفكارا بصرية تعتمد على التجاور يتم تشكيلها على هيئة صيغ متزامنة من خلال المكان. و تقدم الأفكار في الأعمال الأدبية و الفلسفية و العلمية من خلال سلسلة زمنية و من خلال منطق مختلف .أما عن ذلك النشاط الذي يعرض الأفكار كلها في التو و اللحظة ، كما هو الحال في التصوير أو النحت أو العمارة. الموسيقى هي أيضا تتكون من تتابع أفقي للنغمات التي يؤدي تسلسلها الخطي إلى تكوين لحن يهيمن على العرض الأفقي المتزامن زامن للنغمات المحددة للهارموني. و هذا يعني ضمن ما يعني أن العالم و الفيلسوف والكاتب والمؤلف الموسيقي يتحكمون إليه ، بينما يجب أن يترك المصور و النحات و المعماري عمليات الاستيعاب الحسي للناظر.
قد يتعذر أن تتطور العملية الإبداعية التي تكمن خلف العبقرية الفكرية في ظل مناخ يأتي فيه نظام حكومي عقب نظام آخر دون سبب معقول. و قد يتولد لدى الشباب الذين تكمن فيهم عبقرية ممكنة ينشؤون في ظل ظروف سياسية تتسم بالفوضى إحساس بأن العالم ليس منطقيا أو معقولا بحيث .كن للمرء أن يسيطر فيه على قوانين الطبيعة أو اﻟﻤﺠتمع أو أن يتحكم .صيره بنفسه. فالإبداع الفكري يعتمد إلى حد كبير على الثقة في النظام و في فعالية الجهد الشخصي و ذلك عندما يتصور الشخص السلاسل المتعاقبة من الرموز المنطقية - اللغوية للعلم و الفلسفة و الأدب و الموسيقى ، و هي سلاسل تحاكي السلاسل السببية التي يؤدي فيها شيء معين إلى شيء آخر بطريقة عقلانية. و لذا فإن احتمالية ظهور مبدع فكري عظيم في أزمنة الفوضى السياسية المستفحلة قد تكون منخفضة إلى حد كبير.
تؤثر الاضطرابات المدنية -أي العنف السياسي الذي تشارك به الجماهير- على التطور الإبداعي أيضا. و ترتبط شدة الاضطرابات المدنية في الجيل ) ج ( ارتباطا سببيا بمقدار التفتت السياسي في الجيل ) ج - Simonton ) ( 1976 g (. و هذا الأثر منطقي لأن الكثير من الصراعات المدنية التي تحدث هي ثورات قومية. و بما أن التفتت السياسي ، كما لاحظنا في الفصل السابق ، يشجع التطور الإبداعي في كل مجالات السلوك فإن الثورة الشعبية يمكن أن يقال إنها تؤثر تأثيرا غير مباشر على ظهور العبقري المبدع بعد فترة طولها جيلان. أما أثر القلاقل المدنية على محتوى الإبداع ، خاصة في
الفلسفة ، فهو أكثر مباشرة بكثير. و قد طرح سوروكن أحد مبادئ القياس التاريخي العامة ، و هو ما يسمى بقانون الاستقطاب Law of Polarization و زعم من خلاله أن الثورات لها آثار متعارضة على العناصر اﻟﻤﺨتلفة من السكان " فالأغلبية الساحقة من السكان لا تتسم في الأوقات العادية بالشر الواضح أو الفضيلة البينة ولا يهمها أمر اﻟﻤﺠتمع كثيرا ، و لا تعمل ضده بشكل متطرف ، و لا تتميز بالتدين الملحوظ أو عدم التدين البالغ . لكن هذه الأغلبية غير المبالية يميل للانقسام بحيث يندرج قسماها إلى قطبين متعارضين فتفرز عددا أكبر من الخطاة والقديسين من ذوي النزعات الاجتماعية الإيثارية و من أعداء اﻟﻤﺠتمع الأنانيين من المؤمنين الأتقياء و من الملحدين المناجزين. وتميل » الأغلبية المتوازنة » « للاضمحلال لصالح فرق شقاقية مستقطبة في اﻟﻤﺠالات الأخلاقية و الدينية و الفكرية و غيرها. و ينشأ هذا الاستقطاب بفعل الثورات في كل مجالات الحياة الاجتماعية و الثقافية "( 1947, p. 487 ).
و قد اختبرت زعم سوروكن في دراسة تابعت الموضوع درست فيها مدى شيوع معتقدات فلسفية متنوعة و التذبذبات التي حصلت في الاضطرابات المدنية في أوربا عبر 122 فترة جيلية مقدار كل منها عشرون سنة ، بدءا من عام 540 قبل الميلاد إلى عام 1900 م (Simonton, 1976 g). و وجدت ، باستخدام أسلوب الارتباط المرجأ عبر الفترات ، أن البيانات أيدت استنتاج سوروكن بشكل أساسي . إذ يظهر ، بعد عشرين سنة من اندلاع ثورة شعبية كبيرة ، استقطاب بارز فعلا في الجدال الفلسفي حول كل قضية مركزية في تاريخ الأفكار . و هذا يعني أن عباقرة الفلسفة الممكنين الذين يتعرضون للصراعات المدنية خلال فترة .و هم يتخذون ، خلال المرحلة الإنتاجية من حياتهم بعد حوالي عقدين من هذا التعرض ، مواقف متطرفة حول القضايا الفلسفية اﻟﻤﺨتلفة. سيقولون مثلا إن أعضاء الحس وحدها هي التي يمكنها أن تزودنا بالمعرفة أو أن المعرفة الموثوق بها لايمكن الحصول عليها إلا من خلال العقل الخالص ، بل و حتى الإلهام ، و أن المادة هي الجوهر الأولي للواقع ، أو أن أساس الواقع أساس روحاني كلية ، و أن الواقع يخضع لتحولات لا تنتهي ، أو أن هناك ثباتا سرمديا جوهريا يقف خلف هذه المظاهر العابرة المصاحبة له ، و أن المفاهيم اﻟﻤﺠردة هي مجرد أسماء للأشياء ، أو أن مثل هذه الأفكار توجد فعلا في عالم أفلاطوني يقع فيما وراء التجليات المادية لهذه الأفكار ، و أن الفرد هو الوحدة الاجتماعية الأساسية ، أو أن اﻟﻤﺠتمع له أسبقية على الأفعال و الاستعدادات الفردية وأن الأحداث محتومة .أما من خلال قدر آلي ، أو أن إرادة الكائنات الإنسانية تقف متحررة من قيود السلاسل التي تربط بين السبب و النتيجة ، و أن النزعة الأخلاقية لا بد أنها موجهة من خلال مبدأ السرور بطريقة لذية أو نفعية ، أو أن المبادئ العليا و عمليات الالتزام الغيرية تتحكم في اختيار الفرد الأخلاقي. أي أن كلا من الأيديولوجية الحسية و الأيديولوجية التصورية تجند أتباعا شديدي التحزب لهما بعد فترة طولها جيلان من حدوث الاضطرابات المدنية.
لن نبالغ في القول مهما أكدنا أن قانون الاستقطاب يتضمن أثرا تفاعليا بين الأجيال. فالاضطرابات المدنية تستقطب المعتقدات في الجيل التالي لها بدلا من الجيل المعاصر لحدوثها. و الصراعات السياسية لدى أحد الأجيال تغدو صراعات فلسفية لدى الجيل التالي. و مما لا ريب فيه أن الاضطرابات المدنية تؤثر على تفكير المواطنين الذين يلزمهم أن يتحملوا هذه الصدمات بوصفهم بالغين. و قد كنت وجدت في الدراسة التي ناقشتها .... حول مسرحيات أسخيلوس وسوفوكليس و يوربديس و أرستوفانس و شيكسبير أن المسرحيات التي كتبت خلال أوقات الغليان الداخلي تميل إلى معالجة موضوعات معينة مثل مصلحة الفرد في مقابل مصلحة الجماعة ، و الصراع بين الواجب و الرغبة ، و بين مشاعر الولاء و مشاعر الحب (Simonton, 1983b ) و قد أظهر بحث آخر أن التركيب التكاملي للأفكار المعبر عنها في رسائل كبار الروائيين البريطانيين يميل إلى التزايد خلال أوقات الاضطرابات المدنية (Porter and Suedfeld, 1981 ). و مع ذلك تظل هذه الآثار المترتبة على هذه الاضطرابات آثارا مؤقتة. فبعد أن يعود النظام المدني إلى الظهور مرة أخرى يعود كتاب المسرح و الروائيون إلى الموضوعات و الأساليب المعهودة. أما تأثير الاستقطاب الذي تسببه الاضطرابات المدنية على شباب الجيل التالي فيتعذر محوه. و نمط الأفكار الذي سيحدد الهوية الفلسفية تشكله بعض الأحداث التاريخية الأساسية التي تكون قد حدثت في مرحلة التطور المبكر.
ترجمة : شاكر عبدالحميد
من كتاب العبقرية و الإبداع و القيادة – سلسلة عالم المعرفة


تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

نقد كتاب إشكالية تطور مفهوم التعاون الدولي

31-كانون الأول-2021

نيوتون/جانيت ونترسون ترجمة:

22-أيار-2021

الـمُـغـفّـلــة – أنطون بافلوفتش تشيخوف‎

15-أيار-2021

قراءة نقدية في أشعار محمد الماغوط / صلاح فضل

15-أيار-2021

ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين

01-أيار-2021

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow