حينما يقرأ المغاربة فكر هايدغر.. بنعبد العالي والدواي نموذجا:/ يوسف بن عدي
2009-11-08
لقد شك أن الفكر الهايدغري قد حضر في الكتابات الفلسفية المغربية المعاصرة في سياق التأثير بالمرجعية الفرنسية التي هي بدورها ' تأويل' للفكر الفلسفي الألماني بعامة، وفلسفة هايدغر على وجه الخصوص، إذ نجد النص الهايدغري في فكرنا المغربي لا يحضر في 'مقررات' التربية والتعليم الا إشارات طفيفة ومحتشمة، وهذا يظهر في التعليم الثانوي الذي كان خاضعا لمراحل سيادة الفكر المادي والوضعاني، في حين أن التعليم الجامعي في المغرب - في شعبة الفلسفة - لا يخضع الا لاختيارات الأساتذة ومولاتهم الإيديولوجية والفكرية.
كما يحضر 'هايدغر' من خلال 'تجربة دفاتر فلسفية' التي يصدرها كل من محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي: وهي تجربة ترتيب وتصنيف نصوص الفلسفة ذات الأفق الإغريقي والإسلامي أو الحديث والمعاصر والتي يعتبر العنوان / المفهوم وهو منطلق صدورها ، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر: الطبيعة والثقافة والمعرفة والحقيقة واللغة والحداثة والايديولوجيا...الخ.كما تشهد هذه التجربة 'دفاتر فلسفية' عنايتها بنصوص هايدغر المتعددة: هايدغر والتقنية، هايدغر والحداثة، هايدغر واللغة،...وغيرها من الصور التي تخضع لمنطق التأويل والقراءة.
ومن هنا فإننا سنعمل في هذا المقال على رصد طبيعة تأويل هايدغر من خلال أطروحتين أساسيتين وهما: 'أسس الفكر الفلسفي المعاصر. مجاوزة الميتافيزيقا'(2000) لعبد السلام بنعبد العالي، والكتاب الثاني: 'موت الإنسان في الخطاب الفلسفي المعاصر- هايدغر، ليفي شتراوس، ميشال فوكو' (1992) لعبد الرازق الدواي على الرغم من وجود أطروحات ورسائل جامعية داخل أروقة الجامعات المغربية الا أنها لم تحظ بالنشر والتوزيع.
أولا: هايدغر والتأويل الاختلافي
لقد ساهمت سيادة التفكير الماركسي والوجودي في مغرب الستينات والسبعينات في قراءة فلسفة هايدغر قراءة وجودية تطمح إلى استحضار تجربة الذات المغتربة وشعورها الدائم بالمعاناة والمسؤولية تجاه الفرد والجماعة..في الوقت الذي يحارب فيه أصحاب الدياليكتيك المادي كل أشكال الميتافيزيقا باعتبارها تدل على ارتداد الفكر وتدهوره. وعلى هذا تمكن عبد السلام بنعبد العالي من قراءة هايدغر في ظل هيمنة كثير من الافكارالوضعية والمادية ،قراءة اختلافيه تتأسس على مقولات التفكيك والتقويض...أعني إفساح فلسفة هايدغر على منطق الاختلاف الانطولوجي. إذن، ما طبيعة حضور هايدغر في نص: 'أسس الفكر الفلسفي المعاصر'(2000).؟؟
لقد رسم الكاتب في نصه المذكور أعلاه، منهجه ورؤيته للفلسفات والتي تتجلى في أن 'عصرنا هو محاولة الانفلات من قبضة هيغل، فهو لم يعمل في الحقيقة الا على بلورة إشكالية الفكر الفلسفي المعاصر'(راجع: أسس الفكر الفلسفي المعاصر، ص40). وأما من حيث المنهج فهو بعيد عن منطق التصنيف للمدارس والتيارات والمذاهب..انه منهج يؤسس تاريخا مضادا لتاريخ الميتافيزيقا ذاته.
وهكذا فإن سياق دراسة الخطاب الهايدغري هو سياق 'مجاوزة الميتافيزيقا' التي بلغت ذروتها مع هيغل. لقد تناول القسم الأول 'الميتافيزيقا، الزمان والتاريخ' في الفصل الأول 'جينالوجيا الميتافيزيقا'. فالجينالوجيا التي وضع دعائمها نيتشه هي طريقة من طرق مواجهة الثنائيات والمتضادات الميتافيزيقية. يقول عبد السلام بنعبد العالي: 'الجنيالوجيا محاولة لمجاوزة الميتافيزيقا بل انكشاف الغياب. إنها رجوع إلى الوراء ومحاولة لاسترجاع الاختفاء...'(كتاب: ' أسس الفكر الفلسفي المعاصر '، ص 20). وأما الفصل الثاني: 'تقويض الميتافيزيقا 'فهو محاولة أخرى بطريقة التقويض من خلال حوار هايدغر مع تاريخ الميتافيزيقا عامة والميتافيزيقا الهيغلية التي ارتقت إلى 'مستوى التاريخ'. يقول الكاتب: 'وهو إذ يحاور هيغل فإنما يحاور الفيلسوف الذي ارتقى بماهية الميتافيزيقا المطلقة إلى مستوى اللغة. لذا فهو يؤكد مع هيغل بان تاريخ الفلسفة ليس مجرد عرض لآراء مضت وانقضت وهو لا يعني أن هناك منظومة فكرية يمكن عرضها في شكل تاريخ لآراء ماضية' (كتاب ' أسس الفكر الفلسفي المعاصر '،ص40). من هنا يلتقي هايدغر مع هيغل، وفق أن تاريخ الوجود هو تاريخ 'فعل الوجود'(41)، بيد أنهما يختلفان في أن 'تاريخ الفلسفة هو استذكار وتذكر وذلك لان الميتافيزيقا إغفال للوجود ونسيان له. ينكشف نسيان الوجود في كون الإنسان لا يعتبر الا الموجود ولا يتعامل الا معه' (كتاب: ' أسس الفكر الفلسفي المعاصر '،ص42). وهكذا أضحى النسيان الانطولوجي في فكر هايدغر جزءا من صميم الوجود.'(ص42)، بحيث أن تاريخ الوجود 'يبدأ بنسيان الوجود. تاريخ الوجود لم يبدأ بالتفكير فيما يفكر فيه، بل بالضبط بتركه طي النسيان...الاستذكار إذن استرجاع للوجود من حيث هو اختلاف انطولوجي. من حيث هو اختلاف منسي ونسيان للاختلاف'(كتاب: 'أسس الفكر الفلسفي المعاصر'،ص43).
وعلى هذا فان الاختلاف الانطولوجي ما بين هيغل وهايدغر إنما يتمظهر في عدة مقولات ومفاهيم منها: الزمان والفكر والميتافيزيقا...بحيث يتبين لنا ذلك من خلال استئصال هايدغر 'شجرة الفلسفة. انه يقلب الأساس ويفلح الأرض'(كتاب: 'أسس الفكر الفلسفي المعاصر'،ص56). ومن ثمة كانت قراءة هايدغر من قبل الكاتب بنعبد العالي قراءة اختلافية.
لقد ساد الاعتقاد أن الهوية في مواجهة مع الاختلاف. والحال أن الهوية وفق مقال 'الهوية والاختلاف' لهايدغر إنما تسكن الاختلاف وتنخره بفعل علاقة الحقيقة بالنسخة وعلاقة الحقيقة بالخطأ وكذا علاقة الكتابة بالقراءة والاختلاف الانطولوجي عند دريدا. يقول عبد السلام بنعبد العالي: 'هذا هو معنى الاختلاف الانطولوجي عند هايدغر. فإذا كان الموجود والوجود يبتعدان عن بعضهما. فلان احدهما يجيء نحو الآخر. إذا كان الوجود عند هايدغر، كاختلاف انطولوجي، اختلاف الوجود عن الموجود يحول دون الحضور أن يحضر ودون الوجود أن يتعين ويتطابق. الذاتية هنا اختلاف، الا أن الاختلاف ليس تعارضاً بين نقيضين. انه انتقال: وجود الموجود هو ما يكونه الموجود. في هذا الفعل ـ يكون ـ يتجلى حركة انتقال. والاختلاف هو الذي يبعد الوجود عن الموجود وينقله نحوه'(كتاب: 'هايدغر ضد هيغل' للمؤلف عبد السلام بنعبد العالي، ص91).
وعلى هذا فإن قراءة بنعبد العالي لفلسفة هايدغر هي قراءة اختلافية تستحضر أفق 'تقويض فلسفة الحضور'.. وكشف الاختلاف الانطولوجي بين الكائن والكينونة.. وهذا لم يتحصل لمارتن الا من خلال تقويض الزمان. يقول الكاتب: 'لاعجب ،إذن، أن ينصب تقويض الميتافيزيقا على مفهوم الزمان، وان يحمل عنوان الكتاب الأساسي لهايدغر عبارة الوجود والزمان ولا غرابة أن يحاول معظم الذين سعوا إلى مجاوزة التراث الفلسفي في أن يعيدوا النظر في الزمان والتاريخ... هذا الإلحاح على مفهوم الزمان والتاريخ أليس هو ما نجده أيضا عند فرويد في مفهومه اللاشعور ولدى فوكو في حفرياته ودريدا في 'الاختلاف'؟
ثانيا: الغموض والالتباس
في الخطاب الهايدغري
يشرع الباحث عبد الرزاق الدواي في كتابه: 'موت الإنسان في الخطاب الفلسفي (هايدغر، ليفي شتراوس، ميشال فوكو) ومن خلال القسم الثاني: 'فلسفة هايدغر بين نسيان الوجود ونسيان الإنسان'، في تقريب الخطاب الهايدغري التقويضي لميتافيزيقا الذاتية. يقول الدواي: 'وقد تبلورت تلك المذاهب والتيارات الفكرية في فكر الحداثة في شكل نزعة إنسانية متطرفة أو ما يسميه هايدغر 'ميتافيزيقا الذاتية '(ص45 من كتاب: ' موت الإنسان...').
لقد انكب عبد الرازق الدواي على تحليل عناصر الفكر الفلسفي عند هايدغر وكيفية قراءته للتراث الميتافيزيقي عبر ثلاثة فصول أساسية: الفصل الأول: 'بين الوجود والإنسان... على الفلسفة أن تختار!' والفصل الثاني:'عن الوثبة الكبرى للفكر...نحو تفكيك الإنسان وممارساته'. والفصل الثالث: 'هل يتضمن فكر الوجود...نزعة إنسانية حقة؟'.
والمطلع على هذه الفصول على التوالي يسجل مؤشرات لقراءة مختلفة عن القراءة التي تحدثنا عنها أعلاه، إذ نجد انتقاد الباحث الدواي لدلالات الخطاب الهايدغري وطرق اشتغاله ومقولاته ومفاهيمه انتقادا يتجه نحو اتهام هايدغر ونقاده وقرائه بأنهم يسبحون في بحر الغموض والالتباس..يقول الباحث: 'سنحاول في الصفحات التالية بأناة وصبر يفرضهما الغموض والتعقيد الذي تميزت به اللغة الفلسفية عند مارتن هايدغر...'(كتاب: ' موت الإنسان...'، المذكور أعلاه، ص42.)
ويتجلى هذا الغموض في كثير من القضايا منها: تحديد هايدغر لدلالة الميتافيزيقا..فـ ' من المحقق أن هايدغر،كما هو معروف عند النقاد، يعطي لكلمة ميتافيزيقا معنى عاما، فضفاضا وعائما، سواء في تاريخ الفلسفة أو قواميسها ' (كتاب: ' موت الإنسان..'،ص44).ومن هنا فان هايدغر 'غارق في الغموض والالتباس الفلسفيين، فإننا لا نكاد نعثر في نصوص تلك الفلسفة، وما أكثرها على تعريف لمفهوم الوجود يكون في متناول الفهم' (كتاب: ' موت الإنسان..' ص47)، إذ لا يسعى هايدغر في رأي الباحث إلا البحث عن الاختلاف الانطولوجي المنسي الذي هو: 'التفكير الدائم في مشكل الاختلاف الانطولوجي يكاد يكون المهمة الوحيدة لتلك الفلسفة وكأن الفلسفة لا تصبح أصيلة وأساسية الا عندما تنعكس الآية ويصبح المنسي متذكرا والمتذكر منسيا عندما ينتقل النسيان من الوجود إلى الموجود'(كتاب: 'موت الإنسان..'،ص47). بيد أننا نلاحظ تأكيد الباحث على أن هذا النسيان الانطولوجي قد كان بصيغ مختلفة في تاريخ الفكر الفلسفي..يقول الباحث الدواي: 'لا نبالغ إذا قلنا بأنها تلتقي كلها في واحدة أساسية: شعور الإنسان بأنه عاجز ومتجاوز؟ تجاوز يكشف عنه التناقض الأزلي بين: تناهي المتأصل ولانهاية العالم، بين الطابع الاحتمالي والعابر لوجوده بالنسبة لأبدية الوجود بين فكره والواقع واستحالة تبدد الهوة العميقة القائمة بينهما'(كتاب: 'موت الإنسان..'ص48).
وهكذا فان امتياز هايدغر بهذا المنعطف لم يكن بالمعنى الذي تعرف عليه القراء والنقاد..يقول الباحث المغربي الدواي.' لا نعتقد أن لهايدغر امتيازا في هذا المجال، غير انه طال وقفة الذهول والتخشع أمام واقعة ' الاختلاف الانطولوجي' إلى حد أنها استمرت زهاء قرن من الزمن، في حين أن فلاسفة آخرين كانوا أكثر تواضعا واكتفوا بمحبة الحكمة وتخلوا تماما عن مطلب امتلاكها. ارتأوا أن بالإمكان أن تستند إلى الفكر والفلسفة مهام أخرى، أكثر حيوية بالنسبة للإنسان، من مهمة التفكيك وتكرار المحاولات البائسة لقول حقيقة ' الاختلاف الانطولوجي' خارج لغة الميتافيزيقا وفي تحرر تام من خطاب النزعة الإنسانية'(كتاب: ' موت الإنسان...' ص49).
لقد اعتبر الدواي أن المنعطف في فكر هايدغر من إشكالية الإنسان والبحث عن الذاتية إلى كشف الاختلاف المنسي بين الوجود والموجود لا يجب أن يفهم على انه قطيعة حاسمة في هذا الفكر، بل يتوخى التفكير فيه كما لو كان تحولا يتوجه بالأساس إلى ونحو دور الفكر الأصلي المنبت والمعتمل في الوجود والزمان، هذا المنبع الأول والأخير الذي يتأكد باستمرار. يقول الباحث :' ان العبارات والمفاهيم هي بقايا من لغة الميتافيزيقا والخطاب الإنساني تكشف عن الشرط الذاتي المؤقت لفكر هايدغر وعن الغموض الذي يكتنفه' (كتاب: 'موت الإنسان...'، ص49).
وفي نهاية هذا الفصل الأول اعتبر عبد الرازق الدواي أن فكر هايدغر ' مثله مثل ثوب بنلوب penelope في الأسطورة اليونانية المعروفة: فما كان الفكر ينسجه في النهار كان يعود إلى حله وتفكيكه في الليل، وذلك حتى يتسنى له معاودة الحبك في اليوم التالي. وهكذا فكل كتاب من كتبه يبدو وكأنه يعيد الكرة من جديد ويعيد كل شيء من البداية'(كتاب: 'موت الإنسان..'،ص51).
وهكذا يستمر الباحث المغربي الدواي في رصد 'مظاهر الغموض والالتباس' في فكر هايدغر معلقا على المهتمين من المعاصرين بأعمال مارتن هايدغر، بقوله: 'والظاهر أن تأويل هايدغر لمفكري الأزمة الحديثة كان مليئا بالتعسف ولا نستغرب انه قوبل بتحفظات كثيرة من قبل المتخصصين في تاريخ الفكر والفلسفة الذين رأوا فيه تزييفا وتحريفا للمقاصد الأساسية للمفكرين الذين اهتم بهم'(كتاب: 'موت الإنسان..'،ص56).كما أن النقاد لم يقبلوا، وفق كلام الباحث، تأويل مارتن للأزمنة الحديثة على القاعدة الانطولوجية بدلا من الاعتبارات التاريخية. وهكذا انتقد الدواي بشدة طرق تفكير هايدغر في تاريخ الفلسفة(راجع الفصل الثالث من الكتاب: 'موت الإنسان') والذي كانت طريقة غير مجدية بالمرة، اذ قام باستبدال كلمة ميتافيزيقا بعبارة انطولوجيا أساسية X
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |