بعد أن انتھى المجلس من مناقشة موازنة 1945 خلال جلسات شھر كانون الثاني، استجابت الحكومة لرغبة النواب بافتتاح دورة استثنائیة لبحث قضیة الجیش والقضايا السیاسیة الأخرى، وفي أول شباط 1945 افتتحت الجلسة الأولى من ھذه الدورة، فاقترح رئیس المجلس سعد الله الجابري رفع الجلسة لعدم وجود ما يستحق البحث على جدول الأعمال، فتقدمت مع عدد من زملائي النواب باقتراح لقلبھا إلى جلسة سرية لبحث قضیة الجیش فوافق المجلس على الاقتراح.
ماذا جرى في ھذه الجلسة السرية؟
لم يكن عدد الخطباء كبیرا، كما ھي العادة في الجلسات السرية دائما، فقد ألقى رئیس الحكومة فارس الخوري كلمة أعرب فیھا عن تعنت الفرنسیین بتسلیم الجیش، وأن الحكومة جادة في بحث الموضوع مع لجنتي الخارجیة والدفاع لإنشاء جیش وطني، ولم يضف الخوري شیئا جديدا على ما كان يقوله في الجلسات العلنیة.
فقلت له: ان الفرنسیین لا يمكن أن يسلمونا الجیش إلا بالقوة، واقترحت علیه اقتراحات محددة:
أولا: شراء السلاح ولو عن طريق التھريب، إذا كان الانكلیز ممتنعین عن بیعه لنا، وتوزيعه على أفراد الشعب الذين يجب أن ينظموا لھذه الغاية.
ثانیا : إنشاء نواة للجیش السوري وتسلیحھا، دون إضاعة الوقت في اجتماعات اللجان المجلسیة، والمجلس مستعد لمنح الحكومة كل الصلاحیات للبدء بإنشاء نواة الجیش، ولدعوة ضباط وأفراد الجیش السوريین للالتحاق بھذا الجیش الوطني.
فھمت من موقف الخوري أن الحكومة غیر مستعدة لاستلام الجیش بالقوة، وأن تحصنھا وراء إبداء استعدادھا الكلامي لإنشاء الجیش الوطني ما ھو إلا وسیلة لكسب الوقت أمام ضغط الشارع والمجلس في آن واحد، ورغم ذلك فإنني بقیت باستمرار أحضر اجتماعات لجنتي الخارجیة والدفاع وأصر على تنفیذ الاقتراحات التي أثرتھا في الجلسة السرية.
قانون حماية الاستقلال:
تواترت الأنباء عن بدء تحركات عملاء الانتداب في البلاد .
فنضجت لدي فكرة تقديم اقتراح بمشروع قانون لحماية الاستقلال، لا سیما و أن الحالة النفسیة في البلاد أصبحت مستعدة لقبوله، فأعددت ھذا المشروع سرا، ولم يطلع علیه إلا زمیلي رئیف الملقي.
وقبیل انعقاد أول جلسة برلمانیة بعد الجلسة السرية، في 20 شباط 1945 ، عرضت المشروع على سعد الله الجابري رئیس المجلس في مكتبه لدرجه في جدول الأعمال وعندما قرأه لم يكن راضیا عن تقديمه، بداعي أنه يؤدي إلى مضاعفات سیاسیة خطیرة تنعكس آثارھا على استقلال البلاد وأوضاعھا الشرعیة، وقال إن ھذا الاقتراح إنما ھو إعلان ثورة من قبل الحكومة والمجلس معا ودعوة للعصیان على الفرنسیین من قبل الجیش السوري الذي يعتبره الحلفاء قطعة من قطعاتھم.
وأضاف بأن ھذا الاقتراح يثیر عملاء فرنسا في مناطق سورية المختلفة. وأشار إلى سلیمان المرشد و إلى خطورة ما في يد الفرنسیین من عملاء ووسائل لإذكاء الفتن والاضطرابات التي تعجز الحكومة عن قمعھا.
فقلت له: ان رأيي ھو عكس ما تقول تماما، لأن إقرار ھذا الاقتراح ھو الوسیلة الوحیدة لإحباط كل المؤامرات الفرنسیة التي بدأت فرنسا تحیكھا ضد البلاد بواسطة أجھزتھا وعملائھا.
لم يقتنع الجابري بما قدمته من حجج، فقلت له: إنني نائب، ولي الحق أن أتقدم بھذا الاقتراح.
كان الجابري حريصا على تطبیق النظام البرلماني، فاضطر لدرج الاقتراح في جدول الأعمال ولما افتتحت الجلسة وشرع أمین السر بقراءة الاقتراح خمد جو الحماسة والشجاعة الذي كان يسیطر على المجلس عند بحث قضیة الجیش، ولمحت على بعض الوجوه خوفا وحذرا، وقد أحال الجابري المشروع إلى اللجان ولكن لم يمض وقت قصیر حتى أخذ عدد من النواب يبدون حماستھم لإقرار المشروع، وبدأت الصحافة تتحدث عنه وتبرز مواده، كما تراجع الجابري والحكومة عن مخاوفھم إزاء إقراره ...
وكان لمشروع قانون حماية الاستقلال - منذ نشره في الصحف -أثر بعید في إذكاء المشاعر الشعبیة وتوجیه البلاد في طريق الثورة، ثم تمت الموافقة علیه في جلسة لاحقة.
محاولات لتفكیك المعارضة:
في أواخر أيام حكومة الجابري بدأ صبري العسلي بالتمرد على القوتلي، فأجرى معنا اتصالات عديدة لتنظیم المعارضة، ولم نكن نشعر بأن تلك الاتصالات كانت تھديدا للقوتلي إلا عندما صدر المرسوم بتعیین العسلي وزيرا للداخلیة في حكومة فارس الخوري.
وتلا ذلك خطوة أخرى لتفكیك المعارضة وذلك عندما صدرت المراسیم بانتداب عدنان الأتاسي نائب حمص سفیرا في فرنسا، وانتداب ناظم القدسي نائب حلب وزيرا مفوضا مطلق الصلاحیة في الولايات المتحدة.
من الاھتمام بالحرب إلى الاھتمام بالاستقلال:
كان الناس في سورية يھتمون بتتبع أنباء الحرب العالمیة كل الاھتمام. وكانوا يستقون أخبارها في كل محطات الإذاعة وكان النقاش حول ما يسمعونه من أنباء يشغل معظم أوقاتھم، ولم يبق من يحسن القراءة إلا وكان يتابع تطورات المعارك على الخارطة، وكانوا محقین باھتمامھم ھذا لأنه يتعلق على نتائج الحرب مصیرھم ومصیر العالم.
ولكن منذ إعلان موعد انتخابات 1943 انصرف الرأي العام كلیا عن الحرب وأخبارھا إلى قضايا البلاد ومن الطبیعي بالنسبة لشعب أصبح بإمكانه النضال في سبیل تحقیق أھدافه الوطنیة أن يدير ظھره للمشاكل الخارجیة، لا سیما وأن الحرب بدأ مصیرھا يتقرر منذ أواسط عام 1943 برجحان كفة الحلفاء وحتمیة انتصارھم.
ھكذا كان وضع الرأي العام في سوريا عندما انعقد مؤتمر يالطا الشھیر، في النصف الأول من شھر شباط 1945 ، في جزيرة القرم على البحر الأسود، بین الرؤساء روزفلت وتشرشل وستالین، الذي انتھى بتاريخ 14 شباط.
الرئیس روزفلت والملك عبد العزيز:
عاد الرئیس الأمیركي روزفلت من يالطا بطريق الجو الى مصر، فاجتمع على ظھر طراد أمیركي في البحیرات المرة بالملك فاروق، واستقبل في المساء أمبراطور الحبشة، وفي 15 شباط وصل الملك عبد العزيز آل سعود من جدة إلى البحیرات المرة على ظھر مدمرة أميركية في رحلة وصفھا رسمي أميركي وصفا نشرته الصحف آنذاك وجاء فیه: " أقام جلالة الملك طوال الرحلة على ظھر المدمرة في خیمة كبیرة نصبت عند برج المدفعیة الأمامي .. وأقیمت عند مؤخرة المدمرة حظیرة للأغنام. وقد أمر جلالة الملك بأن يعد عدد كاف من الضأن لإطعام جمیع البحارة. ولكن ضیق المكان حال دون أخذ عدد من الخرفان يزيد على حاجة الملك وحاشیته، ودعا جلالة الملك في مساء الیوم الأول بعد مغادرة جدة جمیع ضباط المدمرة لتناول العشاء معه فجلسوا القرفصاء على الطريقة العربیة، ودھش خدم جلالة الملك من السود عندما رأوا في المدمرة الطھاة والخدم الزنوج، وكان من العسیر إقناعھم بأن ھؤلاء الزنوج من رجال البحرية الأمیركیة، وأنھم لیسوا من الأجانب الخ...".
بعد ھذا الاجتماع الذي كان موقف الملك سعود فیه قاطعا ضد ھجرة الیھود إلى فلسطین توجه روزفلت إلى الإسكندرية بینما توجه الملك السعودي إلى الفیوم.
أما تشرشل فقد وصل إلى أثینا بالطائرة، ومنھا إلى الاسكندرية حیث اجتمع بروزفلت، ثم قصد القاھرة فاجتمع بأمبراطور الحبشة ... وفي 17 شباط زار تشرشل الملك عبد العزيز بالفیوم، وعاد منھا إلى القاھرة، وقابل الملك فاروق ثم اجتمع برئیس الجمھورية السورية شكري القوتلي.
وبتاريخ 18- 3 – 1945 بعد شھر من اجتماعه بالملك السعودي، اجتمع روزفلت بالدكتور ستیفن وايز رئیس مجلس الطوارىء الصھیوني في الولايات المتحدة ثم صرح:
" كنت قد أوضحت موقفي إزاء الصھیونیة في شھر تشرين الأول، ولم أبدل موقفي ذاك وسأواصل السعي لتحقیقه في أقرب ما يمكن من الوقت "
فما ھو ذلك الموقف الذي أشار روزفلت إلى أنه أوضحه في 15 تشرين الأول، وظل مصرا علیه بعد اجتماعه بالملك السعودي؟
... إنه "إشارة للكتاب الذي أرسله روزفلت إلى السیناتور روبرت واكنز يطلب فیه أن يعرب لوفود المؤتمر السابع والأربعین السنوي للجمعیة الصھیونیة في أمريكا عن رضى الرئیس عن بیان خطة الحزب الديمقراطي، وھي "أننا نحبذ فتح فلسطین لھجرة واستعمار يھوديین غیر مقیدين، وأية سیاسة تؤدي بالنتیجة إلى إنشاء كومنولث يھودي ديمقراطي حر ھناك " كما جاء في ھذا الكتاب:
" يجب أن نبذل الجھود لإيجاد الطرق والوسائل الملائمة لتحقیق ھذه السیاسة في أقرب وقت ممكن" ( النصر 18- 3 – 1945 ).
وقد تقدمت في جلسة 20- 3 للحكومة حول موقفها من ھذا التصريح ولكن لم أحظ باجابة على ھذا السؤال.
®
بعد أكثر من عشرين عاما على اجتماع روزفلت مع الملك السعودي صدر كتاب تحت عنوان : الصھیونیة الأمیركیة وسیاسة أمیركا الخارجیة من عام 1942 إلى عام 1947 ، وھو أطروحة تقدم بھا أحد الدارسین ( 1) الأمیركیین لنوال الدكتوراه من جامعة جورج تاون، ويصف المترجم ھذه الأطروحة بأنھا دراسة جادة تكشف كل ما يريد العربي معرفته عن علاقة الولايات المتحدة بالحركة الصھیونیة ودورھا في خلق إسرائيل ...
يتعرض ھذا الكتاب إلى الاتصالات التي تمت بین الرئیس الأمیركي روزفلت والملك عبد العزيز آل سعود و إلى الحديث الذي جرى بینھما على ظھر المدمرة الأمیركیة بما يلي:
" أوفد الرئیس روزفلت الكولونیل ھوسكنز إلى ابن سعود بناء على اقتراح ( 2) الزعیم الصھیوني وايزمن للتأكد من أن الملك عبد العزيز يقبل بالاجتماع مع وايزمن أو مع أي موظف آخر من الوكالة الیھودية، إلا أن الملك لم يقبل بالفكرة إطلاقا وأخبر الموفد بغضب أنه لن يقبل أن يرى وايزمن، و أنه لا يستطیع التكلم باسم فلسطین ولا أن ( يسلمھا الى أيدي الیھود" (ص 125
وتستند الأطروحة على كتاب وضعه إدوار ستیتنیوس وكیل وزارة الخارجیة الأمیركیة، وكان حاضرا اجتماع روزفلت مع ابن سعود لإلقاء بعض الضوء على الأفكار التي كانت تراود الرئیس الأمیركي بعد ذلك الاجتماع:
" قال روزفلت بأنه لا يمكن التوصل إلى أي حل للمشكلة الفلسطینیة عن طريق التعامل مع ابن سعود، وفي طريق عودته إلى الولايات المتحدة توصل روزفلت على ما يظھر إلى الاستنتاج بأنه من الضروري القیام بطريقة جديدة كاملة، وقد أعطى ستاتینیوس ملاحظته قائلا إنه:
يجب أن يعقد مؤتمر مع زعماء الكونغرس ونعید النظر في سیاستنا بكاملھا في فلسطین، و أضاف قائلا إنه مقتنع جیدا بأنه إذا سارت الأمور سیرھا الطبیعي ستراق الدماء بین العرب والیھود، وختم كلامه قائلا ينبغي أن تحول طريقة ما لم تكتشف ( بعد دون حرب كھذه (ص 144...
كما جاء في الكتاب ما يكشف ھواجس روزفلت في موقفه من القضیة الفلسطینة:
وفي 22 كانون الثاني ( يناير ) عام 1945 بحث وايز ورئیس الجمھورية في مختلف نواحي القضیة الفلسطینیة وسأل روزفلت عن إمكانات البلاد الاقتصادية وتحدث عن مخاوف العرب من أنه إذا دفعت فلسطین في أيدي الیھود تسللوا إلى الأقطار العربیة المجاورة، وتساءل عما إذا كان الاتحاد السوفیاتي سیعارض في إقامة دولة يھودية. وقد حاول وايز أن يطمئن بال رئیس الجمھورية بخصوص جمیع ھذه النقاط.
فقد قال يمكن زيادة إمكانات البلاد الاقتصادية زيادة عظیمة بإقامة إدارة لوادي نھر الأردن، أضف إلى ذلك، أعتقد أن ملیونا واحدا فقط من الیھود سیدخلون فلسطین في المستقبل القريب، وھذا لن يكون عبئا ثقیلا جدا على الموارد الاقتصادية الحاضرة واستبعد تسلل الھیود إلى أراضي العرب وقال إن الیھود بالعكس سیھاجرون من المناطق المحیطة بفلسطین إلیھا.
أما بشأن احتمال المعارضة السوفیاتیة، فإن وايز أظھر بأنه لیس قلقا من ھذه الجھة على الإطلاق، وروى للرئیس روزفلت حديثا دار مع رئیس تشیكوسلوفاكیا الدكتور بینیش قال فیه بینیش للزعیم الصھیوني أن ستالین لم يعارض الفكرة شرط أن تستطیع ( الولايات المتحدة وبريطانیا الاتفاق على حل (ص 139
لقد كان روزفلت في تردده وھواجسه وتناقض مواقفه واقعا بین ثقل الضغط الصھیوني علیه وعلى الحزبین الديمقراطي والجمھوري، وبین المصالح البترولیة للولايات المتحدة في المنطقة، مع اقتناعه بأن الأمور إذا سارت سیرھا الطبیعي ستراق الدماء بین العرب والیھود، ولكن نائبه ترومن الذي خلفه بعد وفاته قد حسم الموقف الأمیركي من القضیة لفلسطینیة بانحیازه الكامل إلى جانب الصھیونیة.
هوامش :
1 - اعتمد المؤلف ريتشارد ستیفنس في تألیف أطروحته على المخطوطات الأصلیة وعلى بعض المصادر التي كتبھا مشاركون في أحداث تلك الفترة، ترجمھا إلى العربیة جورج نجیب واكيم. ونشرتھا في بیروت دار الطلیعة عام 1967
2 - الاقتراح بالأصل كان صادرا عن جون فیلبي المستشار البريطاني في المملكة العربیة السعودية ( ص 122).