الظلام يخيم على دمشق – من مجلة نيويورك للإصدارات الحديثة* ترجمة:
خاص ألف
2011-12-18
في صباح يوم من الأسبوع الماضي ، و أنا أزور بيت صديق في محيط مدينة دمشق القديمة ، سمعت أصواتا مرتفعة تقول " ارحل يا بشار ". نظرت من النافذة على الشارع و لكن لم أشاهد شيئا. و فيما بعد عندما غادرت ، انتبهت أن مصدر الهتافات عبارة عن أطفال صغار يتأرجحون في الشارع على مراجيح حديدية لحق بها الصدأ. هذه الهتافات المضادة للرئيس الأسد ليست شيئا غريبا في حمص ، و هي مدينة قريبة من حدود لبنان و كانت مر كز الثورة السورية ، و لكن أن تسمعها من أفواه أطفال في قلب العاصمة يبين كم انتشرت الثورة.
خلال الأسبوعين المنصرمين ، بعد قرار جامعة الدول العربية بعزل سوريا و مقاطعتها اقتصاديا ، سادت الكآبة على الجو في دمشق. و يبدو أن مزيدا من الناس فقدوا الثقة بالنظام. هناك تقنين كهربائي على نحو متزايد ، و فجأة ظهرت صفوف من الناس و معهم الأواني البلاستيكية حول محطات الوقود للتزود بمادة المازوت. فوقود التدفئة أصبح شحيحا.
و في الأسواق ، لا زلت أرى التجار يفتحون أبواب دكاكينهم الخشبية ، و رائحة التوابل و القهوة تفوح منها ، أو رجالا و شبابا يرتدون صنادل الجلد الصناعي الرخيصة و يدفعون أمامهم على ترولي من الحديد علب السلع التي تحمل عبارة " صنع في الصين " . ( لا تزال الصين واحدة من مؤيدي سوريا الذين يتناقص عددهم و لم تفرض أية عقوبات اقتصادية). و لكن عددا من العائلات لم تعد تتسوق البيض و اللحوم.
قال البائع المتجول بصيغة اعتذار و أسف عندما كنت أنوي شراء دزينة بيض في الأسبوع المنصرم : " لقد ارتفع السعر من 5 إلى 8 ليرات لكل بيضة ".
طوال تسعة أشهر تقريبا ، تسببت الثورة لعدد كبير من السوريين بالفقدان و الحزن و لا سيما لمن قرر أن يبقى في الشارع ضد النظام الذي لديه تحفظات قليلة تردعه من القمع بعنف مميت. و خارج العاصمة ، حيث أن سيل الدماء كان أكبر ، سجل القمع 4000 حالة موت. و عدد ممن تحدثت معهم يعتقد أن الرقم أكبر بكثير.
استلهم المحتجون القدوة من مصر و تونس و زاد من غضبهم القرف الواضح الناجم بسبب سياسة الحكومة المتسلطة و من تناقص الفرص و لكن ليس من الدوافع المذهبية.
( تنتسب عائلة الأسد للأقلية العلوية ، و التي تصل نسبتها لعشرة بالمائة من السكان ، و لكن ثلاثة أرباع السورييين من السنة ). بعض أعمل العنف يحركها التوجه الطائفي لأن أجهزة الأمن و العصابات التي تدير القمع و تتحكم بوظائف الدولة مسؤولون مباشرة أمام العلويين. و يبدو أن فرص العمل في البلاد تتضاءل و العطالة تتزايد بأرقام مضاعفة.
أقمت في الصيف الماضي في مدينة حمص ، و هي مدينة علوية – سنية يبلغ سكانها 1.5 مليون نسمة ، و كانت قوى الأمن تطلق النار بمجرد خروج المحتجين للشارع ، هناك فقط قتل المئات.
في حماة ، و هي مدينة محافظة و سنية بشكل أساسي تبعد حوالي 130 ميلا شمال دمشق ، لا تجد مثل هذه الانقسامات. في بواكير تموز ، بعد عطلة أسبوع دامية ، مات فيها بالرصاص ما يزيد على 70 محتجا ، انسحبت القوات الأمنية. ( حماة هي موقع مذبحة ارتكبت ضد الإسلاميين في عام 1982 – أعنف قمع دموي في تاريخ سوريا – و ربما أحسن النظام بتصرفه ليمنع لفت الانتباه لهذه المدينة).
و بعد فترة قصيرة من زيارتي لها ، حضرت لجان مدنية لتدير دفة الحكومة و تحل بمكانها. في أيام الجمعة ، بعد صلاة الأسبوع ، تدفق الآلاف إلى باحات المدينة و هم يحملون الورود و أغصان الزيتون ، و أحاط الرجال بمنطقة محددة و سمح للأولاد و النساء بتنظيف شوارعها. و لكن في ليلة شهر رمضان مع بداية آب و قرار النظام بإنهاء هذا التمرد المفتوح و استعادتها من الأهالي لم يستغرق غير هجوم استمر لثلاثة أيام فقط.
بالمقارنة الحياة في دمشق تبدو بعيدة قليلا عن الأزمة. و لكن العاصمة لم تكن مركزا لتأييد النظام كما تم تصويرها على العموم. وراء الأبواب المغلقة للبيوت المتواضعة في شمال شرق المدينة حيث تقع ضاحية حرستا ، و التي تبعد بمقدار عشر دقائق عن وسط المدينة ، رفع الشباب قمصانهم الخفيفة و سيقان بناطيلهم لكشف الرضوض و الجروح. كان عدد منهم قد تعرض للضرب في المظاهرات أو الاعتقال في زنازين الأمن لعدة أيام في كل مرة. إنهم ، مثل أبناء معظم المدن و البلدات و الضواحي التي تحيط بالمدينة كالمعضمية و القابون ، كانوا تحت رحمة السلاح.
و في وسط دمشق ، تابع الناس أخبار القمع باهتمام ، حتى لو أن سيطرة النظام على وسائل الإعلام لم تسمح إلا بقليل من الأخبار. كانوا يحصلون على آخر الأنباء من الأصدقاء و الأقارب – غالبا شخصيا أو بواسطة الرموز ، باعتبار أن الهواتف تحت المراقبة.
بالنسبة لمن لديه ارتباط ، كانت الإنترنت هي الوسيلة الأفضل ، و عدد كبير تعلم كيف يستخدم السوفت وير ليلتف من حول رقابة الإنترنت.
بالاطلاع على ما يقدمه المحتجون بواسطة اليو تيوب ، شاهدنا التعذيب الذي تعرض له المحتجون ، على الأغلب حتى الموت ـ ثم أعيدت جثثهم لعوائلهم سوداء و زرقاء من الضرب ، و مع ندوب حمراء من الصدمات الكهربائية ، و بثقوب رصاص ، و في أسوأ الأحوال ، مخصيين. كانوا يشعرون ، تحت وطأة الرعب ، باتساع رقعة الألم المبرح حيال هذه المشاهد الدامية.
لعدة شهور ، انقسم أهل العاصمة حول القمع. في الصيف رسم مؤيدو النظام شعار الجزيرة بالدهان الأصفر على حاويات النفايات الخضراء في المدينة لإبداء امتعاضهم من أخبار الفضائيات العربية و مؤسساتها التي تغطي الانتفاضة ( كانت وسائل الإعلام الحكومية تلقي باللوم مرارا و تكرارا على هذه القنوات في فبركة الانتفاضة ).
و عدد من الشعارات شكرت قناة الدنيا ، و هي قناة موالية للنظام. و في الأسابيع الأخيرة ، على أية حال ، من بقي على ولائه للنظام ، و هم عدد لا يستهان به ، تحفظوا في تحريك ألسنتهم. الآن هم من ينتابهم الخشية و دواعي القلق.
واصلت الحشود المؤيدة للحكومة باجتياح الشوارع بشكل متكرر ، و لكنها كانت غالبا منظمة و أعضاؤها من أطفال المدارس و العمال الذين أجبروا على المشاركة ( مع نسبة قليلة من المتطوعين ). مثل هذا الانتاج المسرحي لا يستحق التعامل معه بجدية و بالأخص أنه يصور بشكل حب هستيري للرئيس بذاته : وجهه يحتل البوسترات و القمصان الخفيفة و الأعلام ، بينما أولاد ببذات زرقاء يسمون " أبو حافظ " – كإشارة ممكنة أن ابن بشار الذي يحمل اسم حافظ قد يستلم مقاليد الأمور بعده. و كان المؤيدون ينادونه بلقب " المحبوب " ، بمعنى " نحن نحبك ".
أجريت حوارات مع مؤيدي الحكومة و لم ألاحظ وجود أي تسلسل منطقي في الأفكار. " أخبرتني امرأة مسيحية " هؤلاء من قوى الأمن ، و ليسوا من طرف الرئيس". أجبت ، نعم ، و لكن لو أن هذه هي الحالة أنت تعانين إذا من مشكلة أكبر – لديك رئيس بلا سيادة و سيطرة و الحاجة تدعو لتفكيك كل السيستام. ثم ماذا عن كل الذين قتلوا؟. فكرت قليلا ثم أجابت من غير خوف : " نعم. هذا فظيع. و لكن هناك عصابات!. و يرتكبون المجازر أيضا. العالم الخارجي يشجع على ذلك. و نحن لا نرغب بحكم الإخوان المسلمين!". هذا القلق يعبر على نحو مؤكد عن نفسه بين أعضاء الجالية المسيحية ، و التي هي غالبا من طرف النظام ، و إن السبب هو الخوف من النظام الذي سيملأ الفراغ في المرحلة المقبلة.
و هناك عدد آخر ينظر لسلوك النظام كمتوحش ، و إن لم يفصحوا علنا عن رأيهم. بعضهم سحبني بعنف إلى داخل حوانيتهم ليتكلم بحرية . قال بقال فلسطيني : " مذاا تعتقد أنه سيحدث ؟" . و سأل تاجر بسيط من منطقة ضواحي الزمالكة التي اجتاحتها الفوضى : " هل ستقع حرب أهلية أم أن الانهيار سيكون بشكل احتراق و تآكل بطيء ؟".
لم يغادر رجال الأمن ، و لكن مع عدم وجود نهاية للعنف و لتنامي أثر المقاطعة بدأ الناس بالتدريج يرغبون بالكلام العلني. أخبرني رجل في الأسبوع الماضي : " يمكن الآن أن يكون أي شخص ضحية للاعتقال إذا اعتقدوا أنه ينوي على شيء ، حتى لو لم يتحدث عنه ". ثم أضاف و لكن هل يمكن في النهاية أن يحبسوا الجميع.
و هذا وضع النهاية للحقائق الاجتماعية التي كانت سائدة قبل عام فقط. في عقد من الزمن ، بين وقت استلام بشار لمقاليد السلطة و بداية الثورة ، أصبحت دمشق مدينة جميلة. انتشرت الأسوار ، و السواح ازدهروا في فنادق و مطاعم صغيرة ، و هجم الطلبة العرب مثل الفيضان الكاسح ، و اتصل السوريون مع العالم الخارجي.
و لكن تحت السطح ، كانت الأمور تعاني من نفس السيطرة المحكمة التي سادت في عهد والد بشار. امتلأت السجون بالمعارضين. و اعتقل المدونون. و تسكع المخبرون ، و هم بشكل فرقة لا تغيب من رجال يرتدون سترات الجلد و لهم شارب غزير ، و يضعون بين شفاهم سجائر تحترق ، كانوا موجودين في كل زواية من كل شارع و دأبوا على أن يضعوا أنوفهم حتى في أصغر قضية ممكن أن تفكر بها. و توجب على الشعب أن يتغاضوا عن الفساد و الإهانات ، و أن يصرفوا النظر عن اللوم الجارح الذي يرتكبه عملاء أمنيون ليس لهم عمل. و لكن هذا الجانب المظلم و المؤسف من الحكومة يمكن تجاهله نسبيا من قبل الضعفاء و الأشرار و المتأملين الذين يخططون للبقاء بعيدا عن الأمور السياسية.
و اليوم مع الرعب اليومي المرافق للثورة ، قبضة النظام على البلاد لا يمكن تحاشيها. إنها تشجع حتى على انتشار النكتة السوداء. و أفراد الشعب يتداولون الآن أشرطة فيديو ، و أفلاما مصورة أو مدبلجة تسخر من بشار و الشبيحة ، و هذا مصطلح نادرا ما سمعنا به قبل آذار و حاليا يستخدم على نطاق واسع و يدل على المؤيدين للنظام. في أحد الأفلام المصورة الذي تراه على اليو تيوب ، تجد بشار يلعب لعبة تدعى " من سيقتل المليون ؟". و هو مشتق من برنامج : " من سيربح المليون ؟". و في شريط آخر من إنتاج اللحظات المبكرة من الثورة عندما كانت المعارضة سلمية مائة بالمائة و لكن كانت الحكومة تحاول أن تدعي أنهم يحملون أسلحة ترى شخصا يخبر آخر إن المعارضة مسلحة. الآخر يسأل بصوت مرتفع : " آه ، بماذا ؟". يقول الثاني " أربعة ميغا بيكسيل " ، ثم يرفع كاميرا صوتية تصور تفاصيل ما يجري في داخل البلاد.
تم تدوير النكتة بين صفوف الليبراليين في دمشق حيث أن امرأة حاولت أن تقنع زوجها أن يمارس معها الحب بالتلاعب بأنشودة للمعارضة تقول : " من لم يلعب دورا ، ليس له شرف ". و كان عدد من من الأثرياء يضعون خطة للفرار إلى بلدان مثل فرنسا حيث يمكن لأولادهم أن يعيشوا بلا إحساس بالخطر الداهم و الإجهاد النفسي. و كان آخرون يودون البقاء في البلاد ، و لكن ثقل هذا القرار كان يضغط على رؤوسهم ، و أصبحت رحلات العطلة الأسبوعية إلى بيروت ملاذا ضروريا.
و حاول آخرون التفاخر بنشاطهم مع الثورة. حصلت حماة ، مثلا ، على سمعة أنها استمرت لشهر خارج سيطرة الحكومة بينما دير الزور ، و هي مدينة قبائلية في شرق البلاد بعيدة عن مركز الدولة ، أصبحت واحدة من البؤر الساخنة في الثورة. و مع ذلك إن ناشطا مسيحيا من حماة له صديقة من دير الزور و معجبة معارضة من دمشق. الحماصنة – من سكان حمص – كانوا هدفا للنكتة ، و لكن الآن يعتبر الحمصي رفيقا مرغوبا لدى البنات السوريات.
و مع استمرار القمع ، إن عناصر من حركة الاحتجاج نفسها يتسلحون على نحو واضح. و بعض المنشقين الصغار من الجيش يعرفون حاليا باسم جيش سوريا الحر ، و يبدو أنه انضم لهم متطوعون مدنيون ، و هؤلاء جميعا من يتولى الدفاع عن المحتجين. إنهم يحملون أسلحة خفيفة – القنابل و المسدسات – و هي غالبا مهربة عبر الحدود ، و بالأخص من لبنان حيث ارتفع سعر السلاح ، و مع ذلك إن أعدادهم بازدياد.
و قد قاموا بعدد كبير من العمليات ضد مباني الأمن و نقاط التفنتيش التي انتشرت عبر البلاد ، و في الأسبوع الماضي أطلقوا النار على مركزين في العاصمة. و توجد تقارير متنامية عن إطلاق نار متقطع.
و لكن هذا لا يقارن بوزن دبابات النظام المدرعة ، التي توالي النظام ، مع عصابات طائفية ، و لذلك يخشى الناس من تدهور الأوضاع بشكل مريع. إن شعورا بالدهشة ينتشر و يتسع لأن الثورة استمرت كل هذه الفترة. و لأنها لا تزال مستمرة. و لأنها تؤثر في قطاعات كبيرة من المجتمع. الكبار يلومون أنفسهم لأنهم خضعوا بصمت لهذا النظام لأربعة عقود حتى تعلموا من أبنائهم و بناتهم أن الوقت حان ليقولوا يكفي. رجل حرفي متوسط العمر من دمشق قال : " كم أنا مرتبك. ركزنا على تقليب صفحات حياتنا و الآن يدفع أولادنا الثمن". و أخبرني آخر إنه لم يسجل ابنته المولودة حديثا لدى السلطات. قال : " أنا بانتظار ما بعد ما سوف يأتي. و لذلك يكون بوسعي أن أناديها باسم Thawra ، و هذه الكلمة بالعربية تعني ثورة.
عن مجلة نيويورك للإفصدارات الحديثة – 7 كانون الأول2011
*الكاتب مجهول الهوية
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |