تحديات العنف لقيام المجتمع المدني / ماجد الغرباوي
خاص ألف
2011-12-26
من الواضح بعد تجربة الانظمة الحاكمة، وتجارب الشعوب القاسية مع حكوماتها، وما عانت المجتمعات من جراء الاستبداد السياسي والدكتاتورية والتفرد بالسلطة، ان خيار المجتمع المدني بات يتفرد باولوية بين الطروحات الاخرى، ولا يمكن التراجع عنه بعد ان اثبت نجاحه في اكثر الدول المتقدمة حضاريا، وعدم تقاطعه مع قيم الاسلام، والاقدر على استيعاب التعدد والاختلاف، وامانته في حفظ الحقوق المشروعة للجميع بشكل متساو ٍ وفق القانون. اذ سيوفر هذا النمط من الطروحات اذا ما احسن مراعاته وتطبيقه، للفرد كرامته ويضمن حريته وحقه في اختيار أي صيغة يراها تفي بآماله وطموحاته، ويؤكد فيه الفرد ذاته ويمارس دوره بعيدا عن سياسة الذل والعبودية والرعب من السلطة، فيستجيب للقانون ويدافع عن الدستور ويرفض التآمر عليه او استباحة حرمته. فهو اذن طموح وحلم يراود كل الشعوب التي لم تذق طعم الحرية، والتي ظلت تعاني من دكتاتورية السلطة والحاكم المستبد وخضوع القانون لارادة الرئيس والقائد والزعيم.
ورغم ان مفهوم المجتمع المدني حديث التداول في المنطقة الاسلامية، ومنطقة الشرق عموماً، إلا أنه يعود في بداياته الى القرنين السابع عشر والثامن عشر، وربما يكون «جون لوك» اول من استخدمه بعد الثورة 1688م، ثم توالى على دراسته ونقده واستقصاء ابعاده المختلفة عدد من الفلاسفة وعلماء الاجتماع والسياسة الغربيين، مثل : «هوبز، روسو، هيجل، و...». فكانت ولادته في ظل التحول الجذري الذي اجتاح اوربا والانتقال من عصر الظلام الى عصر الدولة الحديثة والنظام الجديد ( 1 ). ثم عاد للظهور ثانية ليرافق بدايات التحول في اوربا الشرقية، فانطلق هذه المرة من بولونيا 1982م، عندما طرحت نقابة التضامن نفسها باعتبارها احد تنظيمات المجتمع المدني. ولم يتفاعل الوسط السياسي ـ الثقافي العربي معه إلا بعد أمد امتد الى التسعينات من القرن الحالي، ليكون رهاناً جديداً تلا اخفاق الدولة الحديثة في نقل المجتمع الى مستوى الطموح الذي كان يراود مخيال النخبة السياسية والمثقفة. فليس هناك تقدم حقيقي على صعيد ممارسة الديموقراطية والتداول السلمي للسلطة وحرية الرأي( 2).
ولم يترشح عن المهتمين بدراسة مفهوم المجتمع المدني تعريف متفق عليه، بل راح كل واحد يعرفه انطلاقاً من خلفيته الثقافية، وما يحمله من تصور عنه. لذا ظل المصطلح ملتبساً يعاني ضبابية كثيفة، لكنه لا ينفي وجود ملامح خاصة تحدد هويته واتجاهه الوظيفي. فمن خلال المتقابلات يمكن رسم صورة جلية تساعد على ادراك ابعاده المختلفة.
أطلق المجتمع المدني في مقابل المجتمع البدائي او الطبيعي، الذي تجتاحه الفوضى واللانظام، وتفشي حالة الرعب والقلق والتوثب الدائم لمواجهة الاخطار المحدقة به، فاضطر الافراد بشكل تدريجي الى تأسيس مجتمع منظم لضبط ممارسة السلطة والفصل في النزاعات وسيادة القانون وتأمين الحماية لحرية الفرد في الاختيار، اي اختيار انتمائه للمؤسسات الجديدة، فافترق المجتمع المدني عن المجتمع البدائي بحرية الاختيار، بعد ان كان الفرد مجبوراً في انتمائه الى مؤسسات المجتمع الارثي (او الاهلي)، مثل: العائلة، القبيلة، الطائفة...، وساد القانون مرافق الحياة لينهي حالة الفوضى والتشرذم.
ويقابل المجتمع المدني عند بعضهم المجتمع الديني، الذي اتسم في العصور الوسطى باستبداد الكنيسة وهيمنتها الممتدة الى الحريات الشخصية، فليست هناك ارادة تتعالى على ارادة السلطة الدينية، او تتجاوزها لتتمتع بهامش ولو محدود من الحرية. فجاءت اطروحة المجتمع المدني لتفتت السلطة الدينية وتعطي للمجتمع شخصية مستقلة في مقابل الدولة، والدولة تمارس السلطة في دائرة ارادة الشعب واختياراته.
وهناك من يضع المجتمع المدني مقابل النظام السياسي العسكري للتخلص من النزعة الاستبدادية المقيتة التي اعتادت على ابتلاع المجتمع ومصادرة حرياته.
ويرى عدد من الباحثين الاجتماعيين أن المجتمع المدني هو نتيجة طبيعية لتطور المجتمعات الانسانية، فالبشرية خلال مسيرتها الطويلة مرت بعدة مراحل: مرحلة المجتمع البدائي (مجتمع الصيد وجمع الغذاء)، المجتمع الزراعي (المجتمع الانتاجي)، المجتمع الصناعي... وفي كل مرحلة ينتقل المجتمع الى مستوى اكثر تعقيداً من الناحية الاجتماعية والتنظيمية. كما ان الدول تصبح أكثر تطوراً في المرحلة التالية فتعجز عن تلبية جميع المتطلبات الاجتماعية منفردة. فالمجتمع المدني يقوم عبر مؤسساته بدور الوسيط بين الفرد والدولة، وينهض بمهمة تنظيمية داخل المجتمع نفسه. وعليه سوف لا يكون المجتمع المدني طبقاً لهذه الرؤية سوى صيغة عقلائية لتنظيم المجتمع وعلاقته بالدولة(3).
اما الصيغة المنبثقة عن القيم الليبرالية، فانها تجعل المجتمع في مقابل الدولة. والدولة تكون جهة محايدة ازاء المجتمع تقوم بتطبيق القوانين المعبرة عن ارادته. ويتمتع الفرد في ظله بحريات واسعة جداً، وتكون الممارسة الديموقراطية ممارسة حقيقية عبر المؤسسات المدنية (كالاحزاب والجمعيات وغيرهما). كما ان الدولة فيه علمانية لا تخضع للارادة الدينية.
والتفسير الاول والرابع للمصطلح يعبران عن صيغة عقلائية لتنظيم المجتمع يمكن ان تتحرك في اي اطار قيمي واخلاقي، فتارة يتحرك في اطار القيم الليبرالية ويؤدي وظيفته الاجتماعية ومن الممكن ان يتحرك في اطار القيم الاسلامية، كصيغة عقلائية يراد بها تنظيم المجتمع، فهي تماثل «الجمهورية» التي هي صيغة غربية لتنظيم السلطة، وقد استعارتها ايران لتطلق على نفسها «الجمهورية الاسلامية» دون ان تجر خلفها حمولتها الثقافية الغربية(4).
مما تقدم يتضح ان المجتمع المدني بصيغته المطروحة على جميع التفاسير يتصف بخصائص نعرض لبعضها ملخصاً:
1 ـ يتمتع المجتمع، في ظل اطروحة المجتمع المدني، بشخصية مستقلة في مقابل الدولة، وهذا لا يعني تضعيفاً للدولة، وانما منع الدولة من التمدد خارج دائرة الدستور والصلاحيات القانونية. فقيام المجتمع المدني يقضي على الظواهر الاستبدادية للدولة ورجالها، ويمنح الفرد دوراً حقيقياً داخل المجتمع.
2 ـ يتكون المجتمع المدني من مجموعة مؤسسات مستقلة عن السلطة السياسية ( احزاب، مؤسسات، جمعيات، نقابات، و... ) تقوم بتنظيم العلاقات بين الافراد من جهة، وعلاقتهم بالدولة من جهة اخرى. فهي مؤسسات وسيطة بين المجتمع والدولة. ومن خلال تلك المؤسسات، التي هي لون من ألوان دفاع المجتمع عن نفسه، يستطيع الفرد ان يعبر عن طموحاته واهدافه.
3 ـ الطوعية في الانتماء الى مؤسسات المجتمع المدني. فالفرد ليس مجبوراً، كما هو الحال في المؤسسات الارثية او الاهلية، في انتمائه لاي جهة من الجهات، وعلى هذا تكون مشاركته أكثر فاعلية وايجابية في دائرة المؤسسات المدنية، ولا يشعر بانتمائه لها بهيمنة فوقية تقمع تطلعاته وآماله.
4 ـ يرتبط المجتمع المدني ـ في بعض التفسيرات ـ بأسس فلسفية تمثل نظرته للكون والحياة. ويرتبط ايضاً بمجموعة من المفاهيم والمقومات، مثل: حقوق الانسان، المشاركة السياسية، حرية التعبير عن الرأي، مفهوم المواطنة، التداول السلمي للسلطة والتعددية. وليس الموقف سلبياً دائماً من مقومات المجتمع المدني كما هو الحال بالنسبة الى اسسه الفلسفية. وانما هناك فقرات انسانية آمنت بها الاديان السماوية، واقرها الدستور في اغلب الدول، بقطع النظر عن مدى صدقيتها في التطبيق (5).
5- الطابع السلمي لتداول السلطة بعيدا عن العنف والاستبداد والدكتاتورية. وحرية الاحزاب وتشكيل الجمعيات والمؤسسات والمراكز. وحرية الصحافة وحرية التعبير عن الرأي والتجاهر بالقناعات والاعلان عن الطموحات التي تراود المجتمع. وممارسة النقد لاعلى سلم في السلطة مادام في دائرة القانون ولا يتعرض لحريات وحقوق الآخرين.
6- مشاركة الشعب في اختيار رؤساء السلطات وممثليهم في البرلمانات، وبالتالي مشاركة الشعب في اتخاذ القرارات وسن القوانين والتشريعات.
7- بامكان الشعب فرض أي صيغة للحكم ضمن الية الاستفتاء والتوفر على الاغلبية اللازمة.
ولا شك ان هذا المجتمع لا يقوم الا في اجواء حرة خالية من شوائب العنف ايا كان نوعه وجهته. وما لم يتحقق الامن المطلوب واعتماد الصيغ السلمية كالية في التعبير عن الرأى والارادة بدلا عن العنف واللجوء للقوة لا يمكن لهذا المجتمع تحقيق شيئا من اهدافه. من هنا يكون العنف تحديا صارخا لقيم المجتمع المدني، وعقبة كأداء امام تشكـله. غير ان تحديات العنف للمجتمع المدني يمكن ان تكون اكثر تجليا على الاصعدة التالية:
تحديات العنف للامن والاستقرار
الامن والاستقرار الركيزة الاساس لاقامة المجتمع المدني، بل لكل مشروع يتعامل مباشرة مع التيارات السياسية والثقافية ويراد له النجاح. اذ ان التعددية والتنوع الثقافي والفكري والعقدي والسياسي والديني قوام هذا المجتمع. ويرتكز في ديمومته واستمراره الى الحوار والتفاهم. وقيمته في كونه يستوعب كل التناقضات ويسمح للجميع بممارسة دوره بشكل متساو ٍ، فيكون البقاء للاكفأ والاقدر. وهذا يعني ان التيارات المتناقضة على تماس مستمر وتربص دائم، وربما تحول التماس الى احتكاك قد يفضي الى صراعات دموية ما لم يتنازل الجميع عن لغة العنف ويركن الى الحوار والسلم، وانتزاع الحقوق وفق القانون والمصداقية على ارض الواقع. لذا يشترط المجتمع المدني في عمله التوفر على اجواء آمنة مستقرة كي يتمكن ممارسة دوره بشكل منظـم ومتزن، بعد ان يطمئن الى سلامة الاجواء وعدم وجود بوادر للعنف. وحينما ينجح المجتمع في تحقيق اهدافه والعمل وفق آلياته سيرسخ بدوره الامن والاستقرار، بل ينتجه ويكرر انتاجه باستمرار. أي كما ان قيام المجتمع المدني متوقف على استتباب الامن والاستقرار كذلك الاخير متوقف على تفعيل قيم المجتمع المدني والعمل بها. لان من شأن العنف تأزيم العلاقة بين التيارات المتناقضة، أي انها تدخل في دوامة من التوتر والصراع، وهذا من شانه تفكيك اواصر المجتمع وتشظيه. وعندما تتحكم قيم العنف يختفي السلم والاستقرار، وآنئذ تتلاشى البيئة الملائمة، والتي هي شرط ضروري لقيام هذا المجتمع. او بكلمة اخرى ان الامن والاستقرار يمثل ارضية مناسبة لتشكيل مؤسسات المجتمع المدني وسيادة الديموقراطية كآلية في ادارة العملية السياسية.
من هنا نفهم اهتمام القرآن الكريم بمسالة الامن، حتى سمح باستخدام القوة لردع المعتدي الذي لا يستجيب للقانون ويرتكز الى العنف في تسوية الازمات، من اجل استتباب الامن والاستقرار داخل المجتمع. قال تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين)(6). والآية صريحة بان كلا الطائفتين مؤمنة الا ان احداهما بغت على الاخرى بالظلم والعدوان بغير حق(7) ، ورفضت التسوية السلمية فيجب المبادرة الى الصلح كخطوة اولى على الطريق، والا فيجب قتال الطائفة الباغية التي ترفض الركون الى السلم، كي تفيء وتعود الى رشدها. كل ذلك من اجل ان تختفي مظاهر العنف ويستتب الامن. ثم يستمر سياق الآيات في التأكيد على مجموعة قيم من شأنها تنقية الاجواء ونزع فتيل الازمات كي يصبح المجتمع جاهزا ومهيئا لقيام اسس العدالة وسيادة القانون. قال تعالى:
(إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون).
( يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قومٍ عسى أن يكونوا خيرًا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرًا منهن، ولا تلمزوا أنفسكم، ولا تنابزوا بالألقاب، بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون).
( يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرًا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضًا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم).
(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير)(8).
وهذه الآيات محاولة لسد كل دواعي البغضاء والمشاحنات والاحتكاكات من خلال استنبات قيم اخلاقية تقطع دابر الفتن المفضية الى العنف. وحينما تقتحم هذه القيم الواقع وتستوطن المجتمع ستساهم بشكل اساس في تحجيم العنف، وتفعيل قيم الحضارة وتقويم سلوك الفرد ووضع حدود لتجاوزاته وتهوره كي يكون شخصا صالحا فاعلا في تنشيط قيم المجتمع المدني. اذن هذه المصفوفة من القيم الاخلاقية تنظـّم علاقات المؤمنين فيما بينهم، واما عن علاقتهم مع الآخر المختلف فايضا وضع القرآن ضوابط اخلاقية لتقويم العلاقة وحصرها في حدود تبادل وجهات النظر، كي يحافظ المجتمع على امنه واستقراره وتاخذ العقائد والافكار دورها في التفاعل المعرفي، بعد اعطاء العقل فرصة للتفكير والمقارنة والاستنتاج، اذ ليس من السهل التخلي عن عقيدة وتبني عقيدة اخرى ما لم يساهم العقل في تكوين القناعات، وهذا بشكل طبيعي يحتاج الى فسحة تأمل واعمال نظر، ومراجعة جميع ملفات العقيدة التي تكونت خلال عملية معقدة جدا وارتبطت بالمشاعر اكثر من ارتباطها بالعقل كجهاز للتفكير، لذا تصدر المشاعر والاحاسيس عن البنية العقدية للانسان بشكل راسخ ، متجذر في اللاوعي، لهذا فالتحول العقدى يحتاج الى وقت واجواء نفسية وروحية تعمق العقيدة الجديدة وتربطها بمشاعر الانسان واحاسيسه، كي تكون العقيدة فاعلة ويصدر عنها سلوك يومي. لذا (لا اكراه في الدين) لان الاكراه لا يغير شيئا ابدا، ما دامت العقيدة تستوطن الى لا وعي الانسان، وليست هي مسالة حسابية كي يمكن الرد على الآخر بطريقة رياضية، فينصاع الى النتيجة. من هنا يقال ان الفلاسفة اشد الناس ايمانا على المستوى العقلي والنظري ، لكنهم ليس كذلك على المستوى الشعوري والعاطفي ، بل ربما كان سلوكهم الاكثر تناقضا مع الشريعة والدين. اذن فاسلوب الدعوة بالعنف والاكراه اسلوب خاطئ لانه ينتهي الى صراع، اذ كما ان المؤمن على قناعة عالية بعقيدته ويعتقد انه على حق مطلقا كذلك الطرف الآخر في درجة قناعته بالنسبة الى عقيدته، لذا اكد القرآن الكريم عبر آياته على التخلي عن اسلوب العنف في العلاقة مع الآخر المختلف فقال تعالى: (لاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّوا اللّهَ عَدوًا بِغَيرِ عِلمٍ)(9) باعتباره رد فعل طبيعي، أي ان العنف لا يولد الا عنفا مثله او اشد منه، لهذا اعتمد الاسلام اسلوبا آخر في الحوار مع لاخر المختلف مراعاة لمنهج العقل في التفكير وتكوين القناعة فقال: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهلَ الكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنهُم وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَينَا وَأُنزِلَ إِلَيكُم وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُم وَاحِدٌ وَنَحنُ لَهُ مُسلِمُونَ)(10) ، فيبدأ من نقاط الاتفاق ويترك الحوار يتحرك بهدوء ليستوعب مناطق الاختلاف بالحكمة والموعظة الحسنة:(ادعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلهُم بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعلَمُ بِالمُهتَدِينَ)(11).
اذا فالعنف بجميع اشكاله يتقاطع مع قيم المجتمع المدني ويشكل تحديا صارخا له، لانه يعمد الى الاكراه ومصادرة الحريات، وهو ما يناقض الية اللاعنف، التي يتطلبها المجتمع المدني، في تحقيق الاهداف السياسية والاجتماعية. كما ان روح العنف حينما يتلبس بها المجتمع هي الاخرى تحول دون قيام مجتمع مدني لان جميع الافراد في حالة استنفار مستمر ولا يفهمون سوى العنف وسيلة لتسوية الخلافات بينهم او بينهم وبين السلطة.
تحديات العنف لسيادة القانون
المجتمع المدني هو الضد النوعي للاستبداد الذي يتخذ العنف اداة له في الحكم، ولا تتفعل قيم هذا المجتمع الا اذا اختفى الاستبداد بجميع اشكاله، السياسي والديني، وطبق القانون حتى يكون أعلى سلطة في البلد، خلافا للاستبداد الذي يؤله السلطان ويمنحه سلطة تفوق سلطة القانون فلا يخضع لمساءلته، بل هو فوق القانون ومصدره، ولا تسري عليه احكامه.
وانما سمي المجتمع المدني: مجتمعا قانونيا. لسيادة القانون وسريانه على الجميع بشكل متساو ٍ ، كي يخضع لسلطته ارفع المستويات. وعلى اعتابه تتفتت كل السلطات. وعندما يتفعل القانون يتساوى الافراد في الحقوق والواجبات، فلا تمايز الا على اساس الكفاءة، وتكون الاولوية لها وليس للولاء كما هو الحال في ظل الانظمة المستبدة، التي تكون فيها الاولوية في المناصب والحقوق والوظائف للولاء على حساب الكفاءة، فاستشرى فيها النفاق والتملق، حتى قضت ( ظاهرة النفاق ومسايرة الواقع والتعايش معه، قضت على خصائص القوة في تركيب الشخصية، واصبح المبدأ هو التقرب الى الحاكم بما يحب. وفي احسن الحالات الابتعاد عن غضبه او غضب حاشيته. فاصبح سيف الشرع مسلطا على كل معارض يحاول ان يستدل بالقرآن على فساد الحاكم او على جهل الخليفة، وقد استخدموا (واطيعوا الله ورسوله وأولي الامر منكم) على نحو يتضارب مع كل ابعادها المنهجية)(12).
اذا فالعنف، الذي يتلخص هنا في سلطة المستبد، يشكل تحديا كبيرا لقيام المجتمع المدني، ولا يمكن التفكير في هذا النمط من المجتمعات قبل اجتثاث ظاهرة الاستبداد وما يرافقها من عنف كي يتفعل القانون الذي يرتكز اليه في قيام الدولة ومؤسسات المجتمع المدني، اذ ان نجاح هذه المؤسسات منوط بوجود قانون فاعل، يوفر لها الحماية الكاملة لتمارس دورها داخل المجتمع، بعيدا عن سلطة الدولة، وتسلط الحاكم المستبد.
لا شك ان الاستبداد يبدأ عندما تتعثر سلطة القانون، وهو اول بوادر الاستبداد، ليصبح السلطان فوق القانون ومرجعا نهائيا في الحكم. حتى يعكس القانون ارادته ويكرّس لتحقيق رغباته بمنأى عن ارادة الامة وطموحاتها، لذا فالممارسات الديمقراطية والبرلمانية في ظل الحكومات المستبدة ممارسات شكلية تنتهي عند اعتاب ارادة الحاكم، رئيسا كان ام ملكا، لان عنف السلطة لا يسمح بوجود ارادة تفوق ارادة الحاكم، وبالتالي تتحول القرارات البرلمانية قرارات مداراة وتملق ومداهنة للسلطة، ولا تمثل ارادة الشعب. بينما تختفي ظواهر الاستبداد والعنف في البلدان التي تحترم قوانينها، وتجد الشعوب الدفىء والامان في ظلها لعدم وجود سلطة فوقية تقمع الارادة وتضطهد المعارضة، كما ان القانون يحمي حقوقها ويدافع آمالها وطموحاتها.
لذا اكد المصلحون المسلمون، منذ عصر النهوض، على ضرورة تطبيق القانون واعتباره مرجعا للحاكم والشعب على السواء، فقد اشترط عبد الرحمن الكواكبي، مثلا، ان يعبر القانون عن إرادة الامة ويلبي طموحاتها ومصالحها وحقوقها. من هنا يتسائل في كتابه طبائع الاستبداد عن كيفية وضع القوانين: (هل يكون منوطا برأى الحاكم الاكبر او رأي جماعة ينتخبهم لحاجات قومهم وما يلائم طبائعهم وصوالحهم ويكون حكمه عاما او مختلفا على حسب تخالف العناصر والطبائع وتغير الموجبات والازمات؟).
ثم يضع مواصفات القانون ويحدد درجة الزامه بالنسبة للحاكم والمحكوم، يقول: ( هل القانون هو احكام يحتج بها القوي على الضعيف ام هو احكام منتزعة من روابط الناس بعضهم ببعض وملاحظ فيها طبائع الافراد، ومن نصوص خالية من الابهام والتعقيد ، وحكمها شامل كل الطبقات، ولها سلطان نافذ قاهر مصون من مؤثرات الاغراض، والشفاعة والشفقة وبذلك يكون القانون الطبيعي للامة فيكون محترما عند الكافة، مضمون الحماية من قبل كل افراد الامة؟)(13).
تحديات العنف لممارسة السياسية
اعتادت حكومات الدول غير الديمقراطية على احتكار السلطة، بعد انتزاعها بالقوة او التآمر، وقمع المعارضة، والشعب ايضا. وعندما تلجأ بعض الحكومات الى الانتخابات تحت ضغط القوة تؤول العملية الانتخابية الى ممارسة شكلية يحصل فيها الرئيس المنتخب، الذي هو الرئيس الفعلي والمرشح الوحيد، على 99,9% او 99,8% من عدد الناخبين او ربما يفوز بالتزكية. وكثيرا ما يكون الرئيس مدى الحياة، الذي تهتف له الجماهير المرعوبة بالحياة، وتفديه بارواحها ودمائها اتقاء لبطشه واضطهاده. واما المقاعد البرلمانية فمحصورة بالحزب الحاكم، او بعض مقاعد لما يسمى بالمعارضة، الا انها مهادنة للسلطة، فهي في الحقيقة معارضة شكلية، وكثير ما تكون صنيعة الحاكم نفسه، فلا تمثل رأيا مستقلا ولا يؤول لها الحكم ابدا. واما الدول التي لا تعتمد نظام الاحزاب فعادة يكون لها جهاز امن ومخابرات يحصي انفاس الشعب ويتعقب المعارضة ليقضي عليها في مهدها، ويكون همه توفير الحماية للسلطة وعلى رأسها الملك او الرئيس، فهي اجهزة امن ضد الشعب وليس لحمايته وحماية حقوقه، وهي مصدر انتاج العنف والقاء الرعب وتسويغ الاضطهاد. اذن فهذا النمط من الدول تعاني دوما من دكتاتورية الرئيس او الملك او الحزب الواحد او الاجهزة الامنية. والغريب ان الاحزاب الحاكمة تتحول بمرور الايام اداة مسخرة بيد الحاكم المستبد، لا تعارضه او اتخاذ قرارات تقاطع ارادته، ويتحول الى جهاز امني لحمايته، وبالتالي تتلخص الدولة واجهزتها المختلفة بشخص الرئيس، او تتلخص بجهاز الامن والذي يتلخص هو الآخر في رئيسه، المطيع لرئيس الدولة والحريص على تحقيق رغباته.
الا ان العملية السياسة في ظل المجتمع المدني والدول الديمقراطية تختلف جذريا عنها في الدول الاخرى، فللشعب حضور حقيقي، في الدول الديموقراطية، من خلال المؤسسات والانتخابات، كما ان التنافس بين الاحزاب السياسية على السلطة لا يتعرض لأي لون من ألوان الاضطهاد، وحينئذ لا يؤول الحكم الا لمن من يكسب الانتخابات بطريقة شرعية ويختاره الشعب عبر الاقتراع، بينما يتراجع الآخر الى صفوف المعارضة ويمارس دورا حقيقيا من خلال البرلمان. يحاسب الحكومة، ويعلن عن وجهات نظر مغايرة ، ويقوّم مشاريع الدولة. لذا فالحكومة تخشى المعارضة كخشيتها من الشعب، وربما اشد اذا اخذنا بنظر الاعتبار قدرة الاحزاب السياسية على تحريك الشعب. وحينما تحقق المعارضة نجاحا في الانتخابات يتم تداول السلطة بطريقة سلمية لا ترافقها أي مظاهر للعنف. بينما ينسحب الحزب او الاحزاب الحاكمة، اذا كانت مؤتلفة، الى صفوف المعارضة.
وهذا الاسلوب في ادارة العملية السياسية بالطرق السلمية يتوقف على توافر الامن والاستقرار، ويفشل مع ظهور اول بادرة للعنف تفقده مصداقيته في التداول السلمي للسلطة. لهذا يرفض المجتمع المدني وجود حقا مطلق في السطلة كما هي دعاوى الحكومات الثيوقراطية، ويبقى صاحب الحق الوحيد هو الشعب، وهو المسؤول أولاً عن اختيار نوع الحكم، ملكي او رئاسي، ديني او مدني. وهو الذي يختار رئيس الدولة واعضاء البرلمان، ومن حقه الموافقة على الدستور او رفضه. فالحاكم يستمد شرعيته من الشعب، وليس له شرعية ذاتية او ممنوحة من سلطة فوقية. وهذا لا يتعارض مع النظريات لاسلامية في الحكم سيما التي تذهب الى ولاية الامة على نفسها(14). بل حتى غيرها من النظريات الاخرى(15) ، ما عدا نظرية ولاية الفقيه التي ترى ان الولاية والحكم منحصرة بالفقيه، فهو لا يستمد شرعيته من الشعب وانما شرعيته باعتباره نائبا للامام المعصوم، المعيـّن من قبل الله تعالى(16). وتأتي الانتخابات لتفعل هذا الدور، فيكون دورها دور البيعة بالنسبة الى الرسول او الامام. فالبيعة طبقا لهذه النظرية لا تمنح الرسول او الامام الشرعية بل هي مكتسبة من الله تعالى، وانما تأتي البيعة لتثبت ذلك وتجعله في اعناق الامة، كي تتحمل مسئوليتها تجاهه، وتكون خاضعة لسلطته.
ولما كان المجتمع المدني يشترط التداول السلمي للسلطة لذا يشكل العنف تحديا كبيرا لادارة العملية السياسية بشكل سلمي بحيث تتكافأ الفرص لجميع الاطراف، وتحفظ للجميع حقه في المشاركة السياسية والتعبير ان وجهة نظره بالحكم. أي ان العنف سيفضي الى الاستبداد الذي هو الضد النوعي للديمقراطية، وبالتالي استحالة العملية السياسية السلمية، وانما استبداد وتسلط وقمع للمعارضة واضطهاد للشعب. كما ان تسلح الاطراف والاحزاب المشاركة في الساحة السياسية، بالعنف سيشعل فتيل الصراعات المسلحة، ويتحول التراشق بالألفاظ الى تراشق بالنيران، وينقلب الحوار السياسي الى مواجهات مسلحة. لذا نزع الاسلحة وحل كافة المليشيات المسلحة التابعة للاحزاب والحركات السياسية وغير السياسية شرط اساس في نجاح اطروحة المجتمع المدني وقيام نظام متعدد يحترم الرأي الآخر ويرفض الاستبداد بالحكم ويحفظ للفرد حريته وكرامته بعد سيادة القانون وتفعيل الدستور. والا كيف يمكن تصور الاداء السياسي حينما تنتشر بين افراد الشعب، كما في العراق اليوم، 7- 8 ملايين قطعة سلاح(17) ، فهل من المحتمل ان تسير العملية السياسية بصورة سلمية، دون ان تواجه أي نوع من انواع العنف؟. لا شك اذا نجحت العملية السياسية في العراق بشكل سلمي فهذا يعني ان الشعب، وهو املنا جميعا، يتمتع بوعي سياسي منقطع النظير، لا تؤثر فيه الظروف السياسية الصعب. وانه مصمم فعلا على اثبات صدقيته وجديته وتحقيق آماله وطموحاته.
تحديات العنف الحرية والابداع
تبقى الحرية أمل الشعوب المكبلة، وحلما يراود اجيالها المضطهدة، تطمح لرؤيتها يوما ما على ارض الواقع، كي تنتشي بمذاقها وتتمتع بممارستها، وتسترجع كرامتها الممتهنة. لقد ولد الانسان حرا لولا التسلط والاستبداد والظلم والعنف الذي سرق حريته، حتى كاد يخشى التحـّدث مع نفسه، فضلا عن البوح بقناعاته ووجهة نظره. ومن تحدى الممنوع وخاطر باعلان معارضته وبيان وجهة نظره كان مصيره التشريد والسجن والتعذيب والحرمان والقتل في ظل انظمة استبدادية متسلطة. لكن رغم كل ذلك ظلت الشعوب تطالب بحريتها وتتوق الى اجواء التحرر من عذاب الاستبداد والعنف لتطرح رأيها وتفصح عن آمالها وتطلعاتها، وتعبر صراحة عن قناعتها، ويكون لها وجود حقيقي يفرض نفسه في المعادلات السياسية.
ولا يكتب للمجتمع المدني النجاح ما لم تتوافر اجواء حرة تسمح بالتعدد والاختلاف الذي يتجلى عبر الاحزاب والجمعيات والصحف والمجلات، سيما المعارضة منها. وحينما تتوفر الحرية تصبح القرارات، خصوصا القرارات المصيرية، اكثر متانة وقوة. لانها لا تتبلور وتكون قوية الا بتعدد وجهات النظر، وممارسة النقد بعيدا عن اجواء الخوف والاضطهاد. وهذا بدوره يتوقف على حرية الرأي والتعبير. كما ان تقويم تجربة الحكم ونقد الممارسة اليومية للسلطة والمعارضة معا لا تتحقق الا من خلال اجواء حرة تسمح بذلك. اذن فالحرية، التي هي الركن الاساس لقيام المجتمع المدني، تحقق مكاسب عظيمة للفرد والمجتمع معا. وأول تلك المكاسب انها تشخص نقاط الضعف من خلال النقد البناء وتساعد على صدور قرارات محكمة ومتبناة من قبل الشعب الذي ساهم بشكل مباشر او غير مباشر في بلورتها. وثانيا، ان الاجواء الحرة تساعد على نمو القابليات والابداع، وتساهم في اثراء التجارب عبر النقد والتقويم الحر والشجاع. ثالثا، ان الحرية توفر اجواء آمنة نقية لا تشوبها شائبة العنف، حتى يتمكن الرأى المعارض من التعبير عن وجهة نظره علنا وامام الجميع بعيدا عن العنف. وبهذا يتضح ان العنف اقوى تحد يواجه الحرية،لانه يقمع الآخر ويصادر حريته.
ثم ان قمع الرأي الاخر واحصاء الانفاس يتحول بمرور الايام الى تمرد، ورفض، وثورة وعصيان، والبحث عن متنفس لتفجير المكبوت وفري الاورام المتخزنة، لينقلب كل شيء ضده، فيسود العنف ويتزعزع الامن والاستقرار. وهذا ما نشاهده في الدول التي يسودها نظام بوليسي مخابراتي صارم يكمم الافواه، ويضطهد كل لون من الوان المعارضة حتى بيان وجهات النظر او ابداء ملاحظات تقويمية. ويطالب الناس دوما بالعبودية والطاعة للسلطان. فهذا اللون من نظام الحكم لابد ان يواجه تحديات مخزونة تفاجئ الاجهزة الامنية وتربك الوضع. لذا ليس امام الانظمة سوى المزيد من الحرية كي يتنفس الفرد ويلقي همومه على صفحات الاعلام ولا يتحول الى قنابل موقوتة تنتظر الفرصة لتتفجر وتفجر الوضع معها.
اذن لا تتحقق مصداقية المجتمع المدني ما لم تكن السلطة مراقبة من قبل برلمان منتخب بشكل شرعي، وصحافة حرة تعبر بكامل حريتها عن وجهة نظرها، وتلاحق المسؤولين الحكوميين في قراراتهم للتأكد من حماية حقوق الفرد والمجتمع طبقا للقوانين المعتمدة. وسيئة العنف انه يقمع الرأي الآخر ويحـّرم النقد ويتستر على الجريمة والتلاعب والانتهاكات ، فيخسر الفرد كرامته بعد ضياع حقوقه. ولا يختص الامر بالحريات السياسية وانما شامل لكل الحريات. أي كما ان الاداء السياسي يتطلب هامشا كبيرا من الحرية لتفادي العنف، كذلك الامر بالنسبة الى العقيدة والفكر والدين، التي يتوقف اداؤهما على نفس المستوى من هامش الحرية السياسة او اكثر، كي لا يصنع العنف من الاختلافات الفكرية والعقدية والدينية والمذهبية، عقدة نفسية، يشعر معها الفرد بالحرمان والاضطهاد، فينقلب اكثر تعندا وتصلبا لرأيه وعقيدته. بل ويبرر لنفسه ممارسة العنف لتحقيق شيئا من حقوقه. ان الحرية داخل المجتمع المدني ستضع العقائد والافكار في مواجهة تحديات مثيلة تختلف عن تحديات العنف. فيفترض في كل عقيدة آنئذ اثبات جدارتها وعقلانيتها. أي ان الساحة في ظل المجتمع المدني ستتحول الى ميدان اختبار للافكار الناجحة والعقائد السليمة، وسينكشف الزيف والتزوير وتسقط الاقنعة والممارسات الخاطئة باسم الدين والعقيدة والفكر، ويصبح البقاء للاصلح منها. ولا شك ان بعض القيمين على الفكر والدين، ايا كانوا، يرون في هذا اللون من الحرية خطرا حقيقيا عليهم، فيضطرون للدفاع عن مصالحهم باسم الدفاع عن الدين. ولا بأس في ذلك اذ طالما دافع فرعون مصر عن مصالحه الشخصية، التي تعرضت للخطر بسبب دعوة موسى (ع)، باسم الدفاع عن الدين. وكان يحذر قومه من خطر الدعوة الجديدة، مبينا لهم الهدف الحقيقي لموسى، من وجهة نظره، فيقول متهما اياه: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ . وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ)(18). غير ان بعض قطاعات المجتمع سرعان ما اكتشف خديعة فرعون والتحقت بالحق المتمثل بموسى (ع). اذاَ هامش الحرية الكبير الذي يوفره المجتمع المدني سيفضح الوجوه المقنعة بقناع الدين او الفكر او السياسة او الوطنية وما شابه ذلك. بعد تلقى المواطن ثقافة حرة مباشرة تنمّي فيه قدرة كبيرة على النقد وترقى به الى مستوى المسؤولية السياسية تجاه الحكم، فيختار من له مصداقية تؤهله لتسنم السلطة كأداة لخدمة الوطن والمواطن معا دون الاستئثار بها او تكريسها لمصالحه الشخصية او الحزبية.
اذا نخلص من استعراض التحديات ان تداعيات العنف قد تكون اخطر من العنف ذاته، وان خسائر البشرية والاديان والحضارات تصل حدا يصعب تقدير حجمها. غير ان المؤسف ان الممارس للعنف لا يعي حجم ما يرتب على فعله او انه يقصد ذلك مما يكشف عن دواعي نفسية خطيرة.
هوامش :
1- للاطلاع: انظر ملف المجتمع المدني .. اشكالية المفهوم والتطبيق، مجلة التوحيد، العدد 97، رجب 1419هـ / تشرين الثاني 1998م.
2- المصدر نفسه، كلمة التحرير.
3- بناه، محمد حسين، الارضية الاجتماعية لنشوء المجتمع المدني، مجلة التوحيد، مصدر سابق، ص23.
4- مجلة التوحيد، كلمة التحرير، مصدر سابق.
5- اشكاليات التجديد، مصدر سابق، ص 57.
6- سورة الحجرات، الآية: 9.
7- تفسير الميزان مصدر سابق، ج18 ص314-315.
8- سورة الحجرات: الآيات: 10-13.
9- سورة الانعام، الآية: 108.
10- سورة العنكبوت، الآية:46.
11- سورة النحل، الآية: 125.
12- حاج حمد، ابو القاسم، العالمية الاسلامية الثانية، 1416هـ - 1996م، دار بن حزم، بيروت، ج2، ص 268.
13- الكواكبي، عبد الرحمن، طبائع الاستبداد، الاعمال الكاملة، تحقيق واعداد: محمد جمال الطحان، 1995م، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ص527-528.
14- انظر كتاب: نظام الادارة والحكم في الاسلام، الشيخ محمد مهدي شمس الدين. 1992م، دار الثقافة، قم، ص419. اذ يذهب الفقيه رحمه الله في هذا الكتاب الى ولاية الامة على نفسها.
15- انظر: كديور، الشيخ محسن، نظريات الحكم في الفقه الشيعي... بحوث في ولاية الفقيه، 2000م، دار الجديد، بيروت.
16- شمس الدين، نظام الادارة والحكم في الاسلام، مصدر سابقـ، ص419.
17- كشف تقرير دولي في جنيف امس(31/5/2004)، كما افادت ذلك جريدة الشرق الاوسط اللندنية الصادرة في 1/6/2004: ان اكثر من ثمانية ملايين قطعة سلاح خفيفة موزعة في العراق منذ قرار سلطة التحالف السابقة حل الجيش العراقي. وقال التقرير الذي اعده معهد الدراسات الدولية تحت عنوان «دليل الاسلحة الخفيفة في العالم لعام 2004» ان سقوط نظام الرئيس صدام حسين في ابريل ( نيسان) 2003 ثم حل الجيش العراقي في مايو (ايار) من العام نفسه سمحا بواحدة من اهم واسرع عمليات انتشار الاسلحة الخفيفة». واضاف التقرير ان حوالي 2.4 مليون قطعة سلاح ناري كانت بحوزة القوات المسلحة او شبه العسكرية والاحتياط في العراق سرقت او تمت اعادة بيعها في السوق السوداء. وقال ان هذه الاسلحة تضاف الى حوالي 2.3 مليون قطعة سلاح يملكها المدنيون العراقيون من قبل، مشيرا الى ان الاسلحة النارية تنتشر بذلك بمعدل حوالي ثلاثين قطعة سلاح لكل مائة نسمة.واكد معدو التقرير ان «انتشار الاسلحة الخفيفة في العراق يمكن ان يهدد استقرار جزء كبير من الشرق الاوسط لسنوات». واضافوا انه يتعين على العالم الان التعامل مع مجتمع مسلح بكثافة حل محل دولة مسلحة بكثافة «في عهد صدام».وتابع الباحثون أن مخططي الحرب العازمين على التخلص من أسلحة الدمار الشامل «خلقوا وضعا لم يرد له ذكر في خطاباتهم التي سبقت الحرب». وأضافوا أن المجرمين وأفراد الميليشيات والمقاتلين والمواطنين العراقيين العاديين أصبحوا فجأة هم من يحددون افاق السلام والاستقرار. وقالوا «ان النتيجة المباشرة لتدفق السلاح كانت حالة لم يسبق لها مثيل من الفوضى الاجتماعية مع ارتفاع معدلات الاغتيالات». وذكروا ان الجهود اللاحقة لنزع سلاح المدنيين لم تحقق شيئا يذكر، اذ جادل بعض المسؤولين الأميركيين بأن انتزاع السلاح من المدنيين يعني حرمانهم من وسيلة الدفاع عن النفس. والان بعد 15 شهرا على بدء الغزو الذي قادته الولايات المتحدة وفي حين تسعى الحكومة الانتقالية العراقية لبداية جديدة لعراق ما بعد صدام ما زالت الفوضى تسود العديد من أجزاء البلاد.ووصف الباحثون الجهود الأميركية لنزع سلاح المدنيين بعد سقوط صدام بأنها ضئيلة جدا وجاءت في وقت متأخر جدا. وأضافوا أنه في الوقت الذي بدأت فيه قوات التحالف في تأمين ترسانات الحكومة بعد فترة وجيزة من الغزو كانت أغلب مخزونات السلاح في البلاد قد سقطت بالفعل في أيدي الافراد. وقالوا ان الجهود اللاحقة لنزع سلاح المدنيين لم تحقق شيئا يذكر، اذ جادل بعض المسؤولين الأميركيين بأن انتزاع السلاح من المدنيين يعني حرمانهم من وسيلة الدفاع عن النفس.والتقرير هو الدراسة السنوية الثالثة التي يعدها المعهد عن الاسلحة الخفيفة التي تشمل المسدسات والبنادق والمدافع الالية وقذائف المورتر الصغيرة والاسلحة الجوالة المضادة للدبابات.
18- سورة غافر، الآيتان: 26-27.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |