مذكرات أكرم الحوراني - ( 5 ) - وقفة على أطلال مجلس النواب
خاص ألف
2012-01-09
ذھبت إلى مجلس النواب، كان منظره مفجعا، لم أستطع أن أمنع الدمعة عن عیني بینما كان قلبي يغلي بالغضب والحقد والألم. كان منظر مجلس النواب رھیبا بعد أن سلط علیه الفرنسیون نیران مدافعھم ودباباتھم، فالقنابل حفرت ثغرات في الجدران المرشومة بالرصاص والسوداء من آثار الدخان، وكان الجنود الفرنسیون بعد أن استشھدت حامیة المجلس جمیعھا -عدا رجلا واحدا نجا بأعجوبة - قد نھبوا المكتبة وحرقوا بعضھا وبعثروا الأوراق وحطموا المقاعد والأثاث وكانت عملیة تنكیل فظیعة بالرجال المدافعین، أما دماء الشھداء الذين دافعوا عن مجلس النواب حتى الرمق الأخیر فقد كانت ھنا وھنالك، على الأرض والجدران والركام وحطام الآثاث.
أين أصدقائي القھوجي وشربك ورفاقھما البواسل ؟
لم يبق منھم الفرنسیون أحدا.
لقد أبى ھؤلاء الضباط والجنود الأبطال المدافعون عن حرية الوطن أن يستجیبوا للإنذار الذي أرسله إلیھم الجنود الفرنسیون المرابطون في الأركان بأنھم سیطلقون علیھم النار إذا لم ينتظموا عند الساعة السابعة والنصف مساء لتحیة العلم الفرنسي عند إنزاله من فوق سارية بناية الأركان المقابلة لبناء المجلس النیابي.
وھكذا سجلوا صفحة من أروع صفحات الشجاعة دفاعا عن الوطن ممثلا بمجلس النواب رمز الحرية والديمقراطیة والاستقلال.
صورة محزنة شاھدھا مراسلو الصحف العالمیة، فكان لما نقلوه عنھا، وعن مشاھداتھم الأخرى أعظم الأثر في جمیع أنحاء العالم، ولا أدل على ذلك من المقال الذي كتبه عبدالله المشنوق في مجلة النواعیر الحموية، وجاء فیه :
" إنني بعد أن سمعت بمصرع نجل الدكتور بییرضودج رئیس الجامعة الأمیركیة ببیروت، في جبھة فرنسا، عدت مسرعا إلى الجامعة لأشاطر الوالدين مصابھما ... ولما دخلت منزل الرئیس لم أجد فیه ما يدل على أن ربة الدار قد فقدت أحد نجلیھا .. قالت :إنني فخورة بولدي، فقد مات في سبیل الحرية والعدالة والمثل الانسانیة ... ومضت الأيام فتذھب عقیلة ضودج بعد العدوان الفرنسي إلى دمشق، فرأت بأم عینھا آثار المأساة الدموية، وزارت المستشفیات وشاھدت الأطفال الذين فقدوا بصرھم أو بترت أطرافھم، والشیوخ المشوھین بالقنابل، وأطلال البرلمان، وشارع رامي، وسوق ساروجه ... وصدف أنني زرت بییر ضودج فحدثتني عقیلته عن زيارتھا لدمشق وما شاھدت من آثار العدوان الفرنسي وعیناھا تغرورقان بالدموع قائلة : ھذه أول مرة أبكي فیھا ولدي .. لقد مات ولدي في سبیل لا شيء".
*
عندما شرع الجابري بإصلاح ما تخرب من بناء مجلس النواب، كنت ألح علیه وعلى رؤساء المجلس الذين تعاقبوا بعده لاقامة تمثالین للضابطین شربك والقھوجي عند مدخل المجلس فلم يفعلوا، ولما انتخبت لرئاسة المجلس في عام 1957 ، أقمت في صدر قاعة المجلس القديمة التي استشھد فیھا حرس المجلس لوحة من الرخام الأسود، حملت أسماءھم وأسماء مدنھم، دلیلا وشاھدا على اشتراك الشعب العربي في سو رية، من كل مدنه وقراه، ومن كل طوائفه، بالدفاع حتى الاستشھاد عن تراب الوطن وعن الحرية والديمقراطیة. كما كنت مزمعا أن أقیم تمثالین للضابطین الشھیدين سعید القھوجي وطیب شربك في مدخل بناء المجلس لولا أن مدة الرئاسة كانت قصیرة، حیث قامت الوحدة بین سورية ومصر وحل مجلس النواب.
الثورة في مدينة حماه :
خلال النصف الثاني من شھر مايس، جاءني إلى الغرفة التي كنت أقطن فیھا بالقرب من وزارة الصحة، صلاح الشیشكلي عاريا إلا من ثیابه الداخلیه، وبحالة بائسة يرثى لھا، وأخبرني أن الفرنسیین طردوه من الجیش وجردوه من لباسه العسكري فخرج من الثكنة متجھا إلي وھو بھذه الحالة. وعزا سبب طرده - وكان برتبة أجودان -وكیل ضابط- لارتیاب الفرنسیین بموقفه منھم. وقال إنھم حجزوا بعض الضباط الوطنیین كما أجروا تنقلات واسعة بصفوفھم في سائر القطعات.
فقدرت في سري بأن عدنان المالكي ورفاقه بحماه قد شملھم ھذا النقل والاعتقال. وما ظننته كان قد حدث فعلا.
قلت له: والآن ماذا تنوي أن تفعل؟! فوجم صلاح.
أخرجت له بزة من ثیابي وكان طويلا جھما، فبدت علیه قصیرة ضیقة، ثم ساعدته بما أمكن وزودته بكتاب الى رفاقي في
حماه لیتولى معھم قیادة فرق المجاھدين. وكان ھذا الكتاب ضروريا لمنع الارتیاب والشك به. وقد كنا بحاجة ماسة لخبرة أي ضابط مھما كانت رتبته صغیرة. وقد أبدى صلاح - كرفاقه – شجاعة في المعارك التي دارت فیما بعد في ثورة حماه.
شرارة الاحتكاك في ثورة حماه :
كانت التقارير تصلني بانتظام من قیادة الشباب بحماه، فتزودني بصورة دقیقة عن تطور الأوضاع الشعبیة في المدينة باتجاه الثورة التحررية، وكان آخر ھذه التقارير رسالة من الاستاذ سعيد الخاني بتاريخ 15 – 5 - 1945 يصف فیھا الصدام الأول بین الأھلین وبین الجیش الفرنسي :
" منذ يومین قامت مباراة بین ناديین في ملعب المغیلة .فحصلت مشاجرة بین جندي حموي متطوع في الجیش الانكلیزي وجندي علوي متطوع في الجیش الفرنسي، فتعاون رفاق المتطوع في الجیش الفرنسي على الآخر، فتدخل بعض الناس وھاجموا الجنود المتطوعین في الجیش الفرنسي، فتدخلت قوى الأمن بالموضوع .. وفي صباح الیوم الثاني ھاجم أحد الأھلین جنديا يعمل خادما لأحد الضباط الفرنسیین في شارع الجعابرة وجرحه بالموس، وإلى الآن لم نتمكن من معرفة سر ھذا الحادث الثاني، ھل ھو مؤامرة طائفیة أم لا" .
انتھى التقرير بھذه العبارة، وإذا رجع القاريء إلى نص الخطاب الذي ألقیته في جامع السلطان قبل عدة أشھر من ھذا الحادث، والذي كان موضوعه "مقارنة بین ثورتین" يدرك سر ارتیاب رفاقنا من أن يكون وراء تلك الحوادث المفتعلة مؤامرة طائفیة. ذلك أن الجو الشعبي بحماه كان خلال تلك الأشھر يعبأ باتجاه ثورة وطنیة تحررية تصھر عناصر الأمة وطوائفھا في بوتقة واحدة، ويشترك فیھا المسلمون والمسیحیون والاسماعیلیون والعلويون والشراكسة وأبناء العشائر وتوجه فیھا كافة القوة والامكانیات نحو عدو واحد ھو الفرنسي المستعمر. ھكذا كان مخطط الثورة في حماه ولذلك خشي رفاقنا أن تكون أجھزة المخابرات الأجنبیة قد ھیأت استغلال المباراة الرياضیة بین ناد حموي وناد لاذقي لإثارة النعرات الطائفیة.
وبفضل ھذا التوجه الثوري السلیم فشلت خطة المستعمر المبینة وانقلب سحره علیه فقام جمھور المتفرجین على المباراة - والحماس يتأجج في صدورھم - بمظاھرة مسائیة لاھبة تضم كافة فئات الشعب وطوائفه، وتوجھوا إلى أقرب موقع للفرنسیین، وھو دائرة الأمن العام القريبة من الملعب البلدي في المغیلة، فحاصروھا وأنزلوا العلم الفرنسي عن ساريتھا ومزقوه ثم اتجھوا بسیلھم العارم لیلا إلى خان الشعبة لمھاجمته. ولكن الفرنسیین كانوا قد أخلوا كل مواقعھم العسكرية في المدينة وتجمعوا في ثكنة الشرفة التي تقع في مكان ستراتیجي حصین غربي المدينة، على حافة ھضبة عالیة يمكن للمدفعیة المنصوبة فیھا أن تسیطر على المدينة تماما.
وكان الفرنسیون قد سلموا القیادة الفعلیة لقواتھم المتجمعة في ثكنة الشرفة للكابتن محمد مھنا، كما حاولوا أن يكون معظم أفراد ھذه القوات من العلويین.
اتصل محافظ حماه خالد الداغستاني - تنفیذا لسیاسة التھدئة التي أمرته بھا الحكومة - بالعقید توفیق الدوخي، وھو ضابط في الجیش الفرنسي، وطلب إلیه تبلیغ القیادة العسكرية بالامتناع عن التحرش بالأھلین الذين ثارت ثائرتھم، فأبلغه العقید الدوخي، بعد أن اتصل بالقیادة العسكرية الفرنسیة في حمص، أن القیادة أمرت بمنع نزول الجنود الفرنسیین إلى المدينة . كما أبلغ المحافظ قرار نقل الكابتن مھنا إلى حلب. فقد كان الأھلون ناقمین على ھذا الضابط لأنه كان يشھد المباراة ويحرض على الفتنة.
لكن الفرنسیین لم ينفذوا ھذا القرار بحجة أنه يوجد في الثكنة أكثر من ستمائة جندي وأن الكابتن مھنا يسیطر علیھم وأنھم تظاھروا عندما علموا بأمر نقله وأضربوا عن الطعام وھددوا بمھاجمة المدينة - كما ادعت القیادة الفرنسیة.
وھكذا ظھر خداع الفرنسیین وإصرارھم على استغلال النعرات الطائفیة لتمزيق الصف الوطني وتحوير القضیة عن اتجاھھا التحرري، ولكن وعي الشعب أحبط تآمرھم فلم تقع أي حادثة تجاه أفراد الشعب من العلويین الذين كانوا يسكنون في أحد أحیاء المدينة الفقیرة غرب المدينة، بل ساھم ھؤلاء مع إخوتھم في ھذه الثورة.
والذي ساعد كثیرا في ھذا الموضوع أن أمین السر السابق لحزب الشباب عبد الستار البارودي كان قد تطوع في سلك الدرك وأصبح ضابطا في قضاء السلمیة، وقد قام ھذا الشاب بدور ھام وأساسي في تنفیذ الخطة التي دعونا إلیھا منذ البداية، فما أن بدأت المظاھرات والاضرابات في حماه، حتى قام عبدالستار، بالتعاون مع العناصر الوطنیة كرفیقنا أحمد ناصر ومحمد الجندي ( أبو سامي)، يعبئون الجو الشعبي في السلمیة التي تعتبر مجتمعا لأبناء العشائر الاسماعیلیة وأبناء بعض القرى العلوية، وبالدعاية الذكیة والتوجیه السلیم اشتعل القضاء حماسة واستعدادا للثورة.
ومنذ بدء الحوادث صارت تفد إلى حماه وفود المسلحین من بلدة السلمیة وقضائھا، (أحد الوفود كان يضم ثمانین مسلحا) وتنضم إلى صفوف المجاھدين، كما صارت حماه تستقبل بحماسة كبیرة الوفود العديدة الأخرى من عشائر النعیم وبني عز والعقیدات والمشارفة والغازي والبوحسن وبني خالد والموالي والتركي، ووفود مسلحة من المعرة وخان شیخون وسراقب والغاب والرستن وكلھا تنضم الى صفوف المجاھدين، في الوقت الذي كانت فیه تقارير الشرطة المحلیة تشیر إلى أن "جو المدينة يسوده قلق كبیر بسبب ما يقوم به عملاء فرنسا من تغذية بذور الفتنة الطائفیة وما يشیعونه من شائعات". ولكن وعي القیادة الشعبیة والجماھیر أحبطت كل مساعیھم، وانضم إلى المجاھدين فريق من الشراكسة أيضا- وقام المسیحیون في حي المدينة وفي القرى المجاورة بدور بارز في صفوف الثورة وكان على رأسھم رفیقانا الأخوان نخلة وخلیل كلاس. ومنذ حفلة جامع السلطان، التي تحدثنا عنھا، تحققت الوحدة الوطنیة في المدينة وصارت تزداد صلابة يوما بعد يوم. وفي بداية شھر مايس 1945 تشكلت قیادة وطنیة علیا. كان لھا مركزان : بیت الأمة (بیت توفیق الشیشكلي) في حي السوق وھو مركز حزب الشباب وجماعة رئیف الملقي (الجبھة الشعبیة) وبیت الشعب في حي الحاضر وھو مركز آل العظم . وقد انبثقت عن القیادة الوطنیة العلیا اللجان الفرعیة التالیة :
1 - لجنة استعلامات تقوم بتسجیل الحوادث ورفعھا للقیادة.
2 - لجنة لتأمین المیرة قوامھا جمعیة إنقاذ العامل.
3 - لجنة لتوزيع الطعام.
4 - لجنة لتأمین الماء بواسطة السیارات والعربات.
5 - لجنة لتأمین الذخیرة.
6 - لجنة لإعداد الأماكن والضیافة لنجدات المجاھدين القادمة من خارج حماه.
7 - لجنة من الشباب تتناوب العمل لیلا ونھارا لتأمین الخدمات والمخابرات التلفونیة في المكتب.
8 - لجنة لتأمین السیارات لنقل المجاھدين داخل المدينة خارجھا.
9 - جمعیة الھلال الأحمر وقوامھا الفرق الكشفیة وأطباء المدينة وصیادلتھا.
10 - لجنة لمراقبة الأسعار.
11 - لجنة لمكافحة الدعايات والشائعات التي تبثھا الأجھزة الخفیة لنشر روح الھزيمة والذعر.
12 - لجنة لتألیف فرق الشباب (الحرس الأھلي ) للاشراف على أمن المدينة.
13 - لجنة النشر، وكانت تعد النشرات الیومیة وتوزعھا.
14 - لجنة التصوير. ( وقد قامت بدور ھام بتزويد الصحف ووكالات الأنباء بصور فوتوغرافیة عن وقائع معارك حماه).
وكان يؤازر اللجنة الوطنیة العلیا واللجان الفرعیة جمیع أفراد الشعب ومؤسساته وجمعیاته ونقاباته على اختلاف نزعاتھا واتجاھاتھا السیاسیة. فقد طھر الجو الثوري النفوس وحطم قیود التخلف فلم يظھر في المدينة متعاون واحد مع الفرنسیین، وانطلقت المرأة الحموية المحجبة تسھم في المعركة بدور رائع مشرف. وأظھر أبناء الأحیاء الشعبیة روحا إنسانیة حضارية سامیة باحتضانھم عائلات الفرنسیین ورعايتھم لھا وحمايتھا من أي سوء.
أما القیادة العسكرية فقد اتخذت مركزھا في خان الشعبة الذي كان قبل أيام ثكنة فرنسیة داخل المدينة . وقد تشكلت القیادة العسكرية من عناصر شعبیة وطنیة سبق لھا الخدمة في الجیش التركي والفیصلي . ورغم تقدم أكثرھم في السن فقد أبلوا بلاءا حسنا وأظھروا نشاطا لا مزيد علیه. منھم خالد مراد آغا وعمر الترمانیني والشھید عبدالقادر المصري. وقد انضم إلیھم من العناصر الشابة عدد آخر من المجاھدين.
في ھذا الجو الثوري انقلب الجھاز الحكومي الرسمي، بعد بدء الحوادث المسلحة، إلى جھاز شعبي مع الثورة، فأغلق المحافظ دار الحكومة واتخذ من فندق أبي الفداء مقرا له، وأصبح يعمل ھو والأجھزة الحكومیة إلى جانب القیادات السیاسیة المناضلة. وتطوع رجال الدرك في صفوف المجاھدين وقاتلوا معھم في خندق واحد.
إن الوحدة الوطنیة القائمة على أھداف تحررية تصنع المعجزات؛ فھي لا تمحق الطائفیة الذمیمة وتكسر كل قیود التخلف الاجتماعي القاتل فحسب، بل تستطیع أن تحقق النصر العسكري على العدو الأجنبي مھما كانت جیوشه أكثر ومدافعه أكبر ومعداته أحدث . وھذا ما جرى في ثورة حماه عام 1945 فمنذ بدء الحوادث سحب الفرنسیون كل قطعاتھم العسكرية وأفرادھم المدنیین، بمن فیھم المستشار من ثكناتھم ومواقعھم ودوائرھم في داخل المدينة، وجمعوا قواتھم في ثكنة واحدة ھي ثكنة الشرفة العالیة المطلة على المدينة من ناحیة الغرب، والقريبة من محطة القطار.
ومنذ بدء الحوادث المسلحة في 19 مايس حتى توقف إطلاق النار في الأول من حزيران كان ھم الفرنسیین العمل لكسر نطاق الحصار الذي ضربه المجاھدون حول ثكنة الشرفة . لا سیما بعد أن عطل الأھالي مضخة على نھر العاصي في محلة باب النھر، فتعرضت الثكنة بمن فیھا للموت عطشا. ولم ينفعھم للخلاص من ھذا المأزق تسلیطھم طلقات مدافعھم الرشاشة البعیدة المدى على بساتین باب النھر التي لجأت إلیھا النساء والأطفال. لذلك لم يبق أمامھم إلا استجلاب قوات من المدن الأخرى لفك ھذا الحصار عنھم. وكان أمامھم ثلاثة سبل.
أولا: استجلاب قوات من مواقع حلب، في قطار مسلح. وقد خرب المجاھدون سكة القطار فتدھور قرب قرية قمحانة. ولم يكن بمقدورھم استجلاب ھذه القوات بالسیارات لأن طريقھا سیمر من داخل المدينة، ابتداء من حي السخانة في شمالي الحاضر بینما كل شوارع المدينة قد تحولت إلى متاريس وخنادق للمجاھدين .
كما أغلقت مداخل المدينة وتمترس العديد من المقاتلین على أسطحة المنازل فأصبحت حماه قلعة لا تقتحم.
ثانیا: استجلاب قوات من محافظة اللاذقیة عن طريق مصیاف. أي الوصول إلى ثكنة الشرفة من جھة الغرب . وقد قاموا بھذه المحاولة فتصدى لھم المجاھدون بمعركة باسلة أسفرت عن تشتت شملھم وأسر الضابط صلاح الدين الحسیني.
ثالثا: استجلاب النجدات عن طريق حمص .. ودخول المدينة من جھة الجنوب حیث وقعت أعنف المعارك وأكثرھا ضراوة وشجاعة واستبسالا ... إذ كان المجاھدون قد أعدوا جبھة طويلة تمتد من مقابر تل الشھداء التي انكسرت عندھا حملات الصلیبیین كما ورد سابقا، إلى كرم الحوراني، إلى البیاض، فمحطة القطار وحي العشر. وكانت جبھة قوية متماسكة.
ھذا ھو ملخص الوضع العام لخطوط القتال، فقد كانت المناوشات مستمرة لیلا ونھارا، وكانت طائرات الاستكشاف لا تنقطع عن التحلیق في سماء المدينة ثم تعود إلى حمص . وكلما أرسل الفرنسیون من الثكنة جنودا لإصلاح مضخة الماء عند باب النھر كان المجاھدون يصلونھم نارا حامیة ويردونھم خائبین.
طلب قائد الموقع الفرنسي الاجتماع بمحافظ حماه في محطة القطار. فذھب المحافظ إلى الاجتماع يرافقه قائد الدرك والمیجر داردن البريطاني الذي كان واسطة المفاوضة، فرجا الضابط الفرنسي المحافظ أن يوعز للأھالي بفك الحصار عن ثكنة الشرفة، وأنه يتعھد لقاء ذلك بعدم إطلاق النار على المدينة وعدم احتلال محطة القطار . فلم يتمكن المحافظ من تنفیذ ذلك واستؤنف القتال بجمیع ما يملكه الجیش الفرنسي من أسلحة فاستشھد ثلاثة مجاھدين وجرح عدد من أبناء المدينة.
وكان الأھلون قد بدأوا يجلون النساء والأطفال والشیوخ إلى البساتین والقرى المجاورة، ولم يبق في المدينة إلا الرجال والنساء المتطوعات.
وفي السابع والعشرين من مايس جاءت نجدة فرنسیة من حمص فوصلت إلى جنوب المدينة قبیل الغروب: فخرجت مصفحات العدو من ثكنة الشرفة للالتقاء بتلك الحملة وحمايتھا وإيصالھا إلى الثكنة. ولكن الطرفین فشلا ومنیا بخسائر كبیرة. فقد قوبلت الحملة القادمة من حمص بمقاومة عنیفة من المجاھدين المتمترسین وراء مقابر تل الشھداء. وقام بعضھم ببطولات خارقة .
فتشتت الحملة وتمزق شملھا وقتل المجاھدون قائدھا وفريقا من معاونیه وأحرقوا مصفحة وعطلوا أخرى وغنموا سیارتي ذخیرة وعتاد ... وبینما رجعت شراذم من نجا من الموت من أفراد الحملة الفرنسیة إلى حمص منھزمین، عاد المجاھدون إلى ساحة العاصي يعرضون فیھا غنائم المدينة في معركتھا الباسلة.
ولا بأس من ذكر حادثة من الحوادث التي تدلل على شجاعة المجاھدين واستماتتھم لكسب المعركة . فقد ھجم الشاب محمد بن فرحان الأمیرة - من عشیرة التركي القاطنین بحماه - على مصفحة فرنسیة، فأصیب بقنبلة يدوية أفقدته عینیه. فبادر رفیقه الذي كان قربه وتمكن من امتطاء المصفحة وقتل كل من فیھا.
كما استشھد في ھذه المعركة رفیقنا وقريبنا حسین الشقفة أبو عبدالقادر، سقط في كرم الحوراني، في نفس المكان الذي كنا نمضي فیه أشھر الربیع معا. وقد روى رفاقه أنه عندما جاءت الحملة المدرعة من المشرفة للاتصال بالحملة القادمة من حمص اصطدمت بمقاومة الشھید حسین الشقفة ورفاقه من أبناء حي السخانة، وتحت وطأة ھذا الھجوم اضطر رفاقه للانسحاب إذ لیس بأيديھم إلا البنادق العتیقة من مخلفات العھد العثماني .
وأبى أبو عبدالقادر أن ينسحب وراح يصیح على رفاقه مؤنبا. وظل يقاوم الفرنسیین حتى نفذت ذخیرته فسقط شھیدا.
إثر ھذه المعركة دب الذعر في نفوس الفرنسیین المحاصرين في الثكنة فأحرقوا بیادر حي العشرالقريبة إلیھم، وصبوا نیران قنابل مدافعھم الكبیرة على المدينة طول اللیل. وفي الیوم الثاني زاد جنونھم بعد أن دھور المجاھدون قطار النجدة - المؤونة القادم من حلب، فاستمرت المدفعیة الثقیلة تلقي قنابلھا على منازل الأھلین فھدمت بعضھا وقتلت وجرحت عددا من الرجال والنساء والأطفال.
ثم تضاعف تنكیل مدفعیتھم بالمدينة بعد أن ھزم المجاھدون حملة النجدة الفرنسیة التي كانت قادمة من مصیاف.
وفي يوم الثلاثاء 29 مايس حلقت طائرة في سماء المدينة وألقت مناشیر تتضمن الانذار التالي: " إن تنقلات عسكرية وقوافل عسكرية سوف تجري ما بین حمص وحماه وبالعكس . وبما أنه بتاريخ 27 مايس 1945 ھوجمت قافلة كانت تسلك ھذا الطريق وتكبدت خسائر، فمن واجبي أن أعلم عطوفة المحافظ بأنه إذا تكرر عمل كھذا فسیقوم سلاح الطیران بتدمیر المكان الناتج منه ھذا الھجوم بعد برھة ساعتین، تعطى لإخلاء النساء والأطفال .وإنني أؤكد أيضا أنه إذا وجدت على مقربة من الجیوش عناصر مسلحة فستضرب حالا بالقنابل.التوقیع: الكومندان ديزيسار المندوب المعاون لمحافظتي حمص وحماه" .
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |