كاسر حباش : لا تقصص هذا الموت علينا
2007-09-29
- 1 -
وسقط أخيرا عود الثقاب من فمه ..
لا أحد يعرف كاسر حباش إلا وخطر في باله يوما هذا السؤال : لماذا يقبع عود الثقاب باستمرار بين إحدى زاويتي فمه ؟
إجابات كاسر كانت مجازية مشوبة بالفانتازيا، تماما مثل حياته، فهو جاهز دائما لإحراق فكرة يابسة أو هشيم ثقافي وسياسي، وربما نص أدبي متخشب أو إرث اجتماعي منخور .
-2 -
قد يبدو لمن سيقرأ الأسطر التالية ( أقصد الذين لم يعرفوه )، بأننا بالغنا، لاعتبارات الموت، بأهمية كاسر حباش ودوره في الحراك الثقافي الذي شهدته المدينة منذ ما يزيد عن العشرين عاما .
من لا يعرفه محق إذا ما اكتفى بتناول كاسر وتقييمه على أساس نتاجه الأدبي المطبوع ، وهو الأمر الذي أهمله كاسر ولم يكترث به رغم إنتاجه الغزير ومثابرته شبه اليومية على الكتابة الأدبية وغير الأدبية، لكن ثمة حقائق ثقافية، غير الطباعة، ملتصقة بشخصيته، منها مواهبه الفنية المتعددة وديناميكيته العالية وعمق تمرده، التي جعلت منه ( كاريزما ) ثقافية تفرز صمغها المعرفي الخاص الذي ستلتصق به المواهب القادمة من الأجيال الأصغر سنا (وربما المواهب المجايلة له ) لتشهد تلك الغرفة الصغيرة، المنزوية بـ ( حوش ) أهله في الموظفين، أشكالا من المؤامرات على الشكل والمضمون في الشعر واللوحة والجملة الموسيقية ، وعلى الأعراف والموروث الفكري والاجتماعي .
قلت مرة لأحد الأصدقاء إن ما يفعله كاسر حباش مع الأجيال الجديدة يشبه تماما ذلك الذي يدوّخ الصخرة بمطرقته ليجيء غيره ويفتتها بضربة واحدة ..
بمعنى آخر، إن ما كنا نفعله، حداثيا، مع خريجي ( غرفة ) الموظفين كان مقتصرا على اللمسات الأخيرة التي يجب أن يضعها اسم أدبي مكرس ومعروف وهذا ما كان يفتقده كاسر على الصعيد الرسمي .
بالضبط، كان كاسر عضوا بارزا في ذلك الفريق الصغير الذي شغل المدينة، في حينه، بمفاهيم التجديد والتمرد، وكانت غرفته، ببابها الحديدي ورتاجها الثقيل، والمنزوية على يمين الحوش، مطبخا مفتوحا لمؤامرات الحداثة القادمة .
3 -
في منتصف الثمانينات كان يؤدي خدمته الإلزامية بدمشق، ورغم دوامه اليومي القاسي في ثكنته، إلا أنه كان يجد الوقت الكافي للصعلكة وعناق الأرصفة ، متنقلا بين حدائق دمشق وأرصفتها مع جيتاره وشلته التي كانت تتأبط هي الأخرى آلاتها الموسيقية .
بلا أذونات رسمية أو موافقات إدارية أو تحضيرات استقبال ومراسيم ، تبدأ احتفالات الشوارع في عاصمة، كان يبدو عليها الاستغراب من مثل هذه الصرعات .
نعم، فدمشق، ورغم ديناميكيتها وحيوية شبابها وتطورها السريع ، إلا إنها كانت في ذلك الحين غير معتادة على مثل هذا ( الاختراق ) الاجتماعي وإن تبدى بلبوس موسيقي .
منذ ذلك الوقت كان كاسر حباش يتوسد الأرصفة والحدائق مع شلته ، غير آبه بالمألوف،عازفا الحياة، كما يطيب لها، بالتآلف ..وبالنشاز التي هي عليهما ..
حاول أن يسمع الحياة كلمته، لكنها لم تكن تصغي إليه !
- 4 -
في أول ظهور أدبي له، كان كاسر لافتا ومبشرا ..
ففي بداية الثمانينات نشرت له الأسبوع الأدبي قصته ( الكلب )، وسيتذكر بعض الأصدقاء ( وأخص درغام سفان )، كيف بقي الأديب شوقي بغدادي ( المشرف على الصفحة الأدبية )، ولأيام يثني على هذه القصة شفاها وكتابة، مشيدا بنضجها الفني ، محملا البعض رسائل شفهية لصاحب القصة تحثه كي يرسل المزيد من الكتابات إلى الجريدة .
للأسف، كان كاسر، كمعظم الأدباء الديريين، كسولا، غير آبه بالنشر أو بالظهور الصحفي ..
تحمس في البداية.. ثم أهمل الأمر تدريجيا .. لينساه تماما بعد ذلك .
5 -
لكم أحب نصه ؟
ما إن يقرأ علينا بعض المقاطع حتى ينفجر بالضحك ، ولا ينتظر من أن نضحك ..
كان يكفيه فرحه الخاص بما يكتبه، وبما يندلق من روحه فوق الورق من مشاغبات لغوية أو فكرية .
لم أعرف أحدا يقرأ كتاباته بمثل ذلك التلذذ !
مثل صياد خبير كان يعرض علينا صيده الأدبي الثمين الذي هو عادة مقاطع أدبية مشغولة بعناية فائقة، وبطريقة خاصة به لا يجيدها احد مهما حاول تقليدها ، وقد يقرأ أيضا فصلا جديدا أو تعديلا على احد الفصول من روايته الطويلة التي يشتغل عليها منذ أكثر من عشرين عاما .
هذا المشروع الروائي ، والذي كان بعنوان ( ها أنت تفعلها يا مِتْ ) كان الهاجس الذي يتحرك مع كاسر أينما اتجه ، ولأنه أحبه كثيرا صار يخشى عليه من النهايات المستعجلة أو طباعته ووضعه بين يدي الناس قبل اكتمال نضجه الفني والفكري ، وهو ما جعله يعيد كتابة الرواية مرات عديدة ، يضيف ويحذف ويعدل عليها ، بل إن الرواية صارت شغله الشاغل ومحرابه الأدبي الذي يتعبد فيه .
ثمة من كان يلح عليه من الأصدقاء ، وأنا احدهم ، بالخروج من شرنقة هذه الرواية وذلك بطباعتها والالتفات إلى غيرها من القصص والدراسات والمقالات وخصوصا عمله القصصي الآخر (x ) ، وإلى الذهاب أبعد في شغله على نفسه كموسيقي ورسام ، فكان رأيه إن عملا واحدا مهمّا وقيّما للأديب خير له من عشرات الأعمال العادية أو التافهة .
في كل تحركاته الفنية والأدبية كان كاسر مهجوسا بالتمرد ، خارجا ، بامتياز ، على القطيع ، وما تفكيره بالعمل الروائي في مطلع الثمانينات إلا تأكيد على حساسيته العالية تجاه الأنساق القصصية السائدة في دير الزور، في ذلك الحين، والتي كانت متمثلة في القصة القصيرة فقط .
- 6-
لا نغالي إن قلنا بأن كاسر ظل حتى موته الرقم الثقافي الصعب الذي لايمكن إهماله دون أن تتخربط حسبة الكثير من المشاريع الفنية الجادة .
كم ستبدو ناقصة التحضيرات الأولى لمشروع موسيقي تجديدي، في المدينة، دون وجوده الشخصي بأفكاره و اقتراحاته و إضافاته وربما مشاكساته ..؟
قد ينـفّـذ العمل الفني، وقد ينجح، ولكن مع وجود كاسر فيه ستكون نكهته مختلفة تماما، لأنه منذ خطواته الفنية الأولى سعى لأن يكون مختلفا .
أيضا، كم ستبدو باهتة المقدمات الأولى لأي عمل مسرحي تجريبي، وخصوصا على مستوى النص، دون مساهماته وملاحظاته وإضافاته ؟
قبل ساعتين من موته، كان حتى الساعة الثانية صباحا في حوار ساخن مع أعضاء الفرقة المسرحية التي يعمل معها، وبشكل خاص مع مخرجها ضرام سفان، حول العمل المسرحي القادم والمشاهد التي كتبها خصيصا لهذا العمل .
في الشعر، كما في القصة كان كاسر حاضرا باستمرار ليقول كلمته كأديب أو متذوق خبير يعي جيدا أدوات هذه الصنعة وخفاياها، أما مونتيفاته السريالية والمشغولة بالحبر الصيني وأقلام الرصاص فقد كانت المادة الفنية المحرضة لنا، بوقت باكر، للدخول في نقاشات ساخنة، لم تنته، حول الفن التشكيلي وتلازمه مع الشعر جماليا ووظيفيا .
- 7 -
كاسر حباش :
أيها الذي كانت الحياة أقصر بعشرات الأمتار من خطوة حلمه، ما الذي تقوله الآن وأنت محشور في تلك الغرفة الضيقة الرطبة التي لا ( حوش ) لها ولا ممر جانبي ينسلل منه الأصدقاء آخر الليل، متأبطين حكاياتهم الندية وقلوبهم المملوءة بالأحلام الطازجة .
كاسر حباش :
أيها الذي جاهد ليسمع الحياة عواءه الجريح ..
قبل شهرين، وفوق الجسر المعلق، نفخت ، وبأعلى صوتك، وقلت للنهر ذلك الكلام الغريب ..
أدري .. كنت يائسا ..
وكنت تدري بأن الحياة تنسل منك بعيدا بعيد .
- 8 -
لم تنته اليوميات التي اعتدت كتابتها، بحبر الشغب،على ورق الحياة .. فهل ستكمل الآن تدوينها بحبر الموت على ورق الغياب ؟
08-أيار-2021
12-آذار-2016 | |
21-تموز-2012 | |
05-تموز-2012 | |
05-حزيران-2012 | |
24-آب-2011 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |