Alef Logo
كشاف الوراقين
              

الدولة الأموية و الأحداث التي سبقتها / الدكتور يوسف العش

ألف

خاص ألف

2012-01-28

ليس بين حوادث تاريخنا حادثة حصل الاختلاف بشأنها كالحادثة التي أدت إلى مقتل الخليفة عثمان بن عفان، و إلى وقعة الجمل و صفين، بل سميت بالفتنة لما فتنت به الناس، و لما امتحنت به دينهم و أخلاقهم و ثباتهم على المبدأ و العقيدة. و لقد كانت فتنة حقا، فهي قد مزقت الناس شيعا و أحزابا ، و كانت مبدأ التنازع و الاختلاف في الإسلام، بل كان الجل يعرف بموقفه منها فيقال له : ما قولك بعثمان هل قتل ظالما أو مظلوما؟ و بجوابه يعرف.
و المصادر عن الفتنة و الأخبار فيها كثيرة جدا تملأ المجلدات، و يخيل للقارئ أنه يجد فيها تفاصيل الحادثة بدقائقها و تفاصيلها و أبطالها و تطورها و نزعاتها. و لقد كتب معاصرونا من المؤرخين عنها الكثير، و ذهبوا فيها مذاهب شتى. فوقفوا فيها مواقف مختلفة، كل يجد في الحوادث ما يؤيد قوله و نزعاته، و يسند رأيه و اتجاهه: بين مؤيد لعثمان و مخالف له، و بين شاك في موقفه و مدافع عنه، و بين طاعن في الصحابة أنهم تخاذلوا عنه أو حرضوا عليه، و مدافع عنهم أنهم لم يقصروا نحوه حين دعت الحاجة.
و الواقع أن لكل مؤرخ منهم حجة يستند إليها و يأخذ بها. و منهم من يجمع بين المتناقضات فيدافع تارة و يهاجم أخرى، يحاول أن يستنفد الأخبار، و أن يضع كلاى منها في موضعها، مع أنها متناقضة متضاربة لا يمكن أن تجتمع، حقا إن حوادث الفتنة لم تعرف على جليتها. و لا يجوز للمؤرخ أن يستند إليها إلا إذا ميز الصحيح من الباطل منها، فهل حاول أحد من المؤرخين أن يرفع التناقض فيها، و أن يميزها أصنافا؟. لا أدري ، بل كل ما أعلم أن المؤرخين ما زالوا ينبشون أخبارها ليضعوا الخبر إلى جانب الخبر، و ليستزيدوا من الحوادث، دون تنقيه لها، أو ضبط لصحتها.
و كيف يكون الضبط؟. ينبغي قبل كل شيء أن نصنف الأخبار تصنيفا بحسب رواتها، لنستطيع أن نقابل بين نزعات هؤلاء الرواة، عسانا أن نميز صاحب الصدق منهم من الذي يحاول الزيغ، و أن نكتشف فيهم من كان اقرب من غيره إلى ضبط الأخبار الصحيحة. و تلك هي الخطوة الأولى، فما دام المؤرخ غير عارف بمصادر الأخبار التي بين يديه، و غير مقدر لصحتها، فهو لا يستطيع أن يبني عليها تاريخه. فأول عمل يجب أن نفعله هو أن ننظر في المصادر التي بين أيدينا، و أن نصنفها، و أن نعرف صحيحها من كاذبها. و هذا هو النقد الخارجي في التاريخ. و يليه بعد ذلك النقد الداخلي للألأخبار من حيث هي أخبار تتلاءم و تنسجم في صحتها و ضبطها، و تتسق في منطقها.
لقد كتب الأقدمون عن مقتل عثمان كثيرا. و لعل أول من افرد الفتنة بالتصنيف هو أبو مخنف لوط بن يحيى ( - 175 ) ، فإن له " مقتل عثمان"( 1 ). و تبعه سيف بن عمر التميمي ( - نحو 180) فكتب كتاب " الفتوح الكبير و الردة " و " كتاب الجمل و مسير عائشة و علي"( 2 ). و وضع أبو عبيدة معمر بن المثنى ( - 207) كتاب " مقتل عثمان "( 3 ). و وضع معاصره محمد بن عمر الواقدي ( - 207 ) " كتاب الردة و الدار " ( 4 )، و محوره مقتل عثمان في داره، ثم إن علي بن المدائني ( - 225 ) أخرج كتاب " مقتل عثمان"(5). و لعل عمر بن شبة ( - 262 ) هو من أواخر الأقدمين الذين أفردوا بالتأليف " مقتل عثمان"( 6 ).
و نحن نرى من هذا العرض السريع أن كبار الأخباريين الأقدمين تصدوا للحادثة، فأفردوا فيها التآليف، فهي حادثة لها قيمتها عند المؤرخين، و لم يسلم كتاب من كتبهم هذه من عوادي الدهر، فليس بين أيدينا منها أي كتاب. لكن المؤرخين الذين تلوهم حفظوا لنا بعض ما في هذه الكتب، فالبلاذري يروي لنا قسما من أخبار أبي مخنف و الواقدي، و الطبري يحفظ لنا الجزء الأكبر من أخبار سيف بن عمر و الواقدي. و يفعل مثله ابن عساكر في ترجمة حافلة لعثمان ( 7) و هي ترجمة لم تنشر بعد ، و لم يطلع عليها معاصرونا من المؤرخين.
و هكذا نستطيع أن نقول : إننا نعرف بعض المعرفة ما ذكره أبو مخنف، و سيف، و الواقدي عن الفتنة. فإذا جمعنا أقوال كل منهم على حدة، وجدناهم يتجهون اتجاهات مختلفة. فأبو مخنف و هو شيعي لا يعز عليه أن يظهر عثمان بمظهر الخليفة الذي كثرت سقطاته ( 8) فاستحق ما استحقه ( 9)، و أن يبين أن طلحة بن عبيدالله كان من المؤلبين على عثمان و الثائرين عليه ( 10). و يؤثر أن يظهر علي بن أبي طالب بمظهر من يعطف على عثمان، و يدافع عنه مع غضبه من أفعاله و أقواله ( 11).
أما الواقدي فنرى في رواياته التشنيبع على عثمان، حتى إن الطبري تورع من نقل كثير من أخباره لبشاعتها ( 12 ). و ما نقله عنه فيه الكثير من الطعن على عثمان ( 13 ) . و يزيد البلاذري عنه في تلك الأخبار الطاعنة ( 14 ). و لا يتورع الواقدي عن إظهار الصحابة بمظهر المتآمرين على عثمان ( 15 ). و يبص بالذكر منهم طلحة ( 16 ). ثم هو لا يهمه أن يظهر أن علي بن أبي طالب مخالف لعثمان حانق منه ( 17) . أما محمد بن أبي بكر فهو عنده القاتل أو المباشر بالقتل ( 18 ). كل ذلك بروايات يرويها عن شيوخه و شيوخ شيوخه ( 19 ).
و نجد سيف بن عمر ينتحي جانبا عن أبي مخنف و الواقدي ، فيعرض تسلسلا تاريخيا ليس فيه تهمة للصحابة بل تبرئة لهم كما سنرى.
و من عجب أن المؤرخين القدماء و المحدثين عرضوا جنبا إلى جنب أخبار هؤلاء المؤرخين الثلاثة، و كأنها في اتجاه واحد و بيان موحد، مع أنها متضاربة متناقضة. و لا ريب أن من يريد أن يجد في تلك الأخبار المختلفة المتعاكسة تأييدا للنظرية التي يتخيلها و يدافع عنها، ألفاها تقدم له كل ما يرغب. لكن هل يحق للمؤرخ أن يجمع بين المتناقضات؟ لا ! فلا بد له من أن يدل على نزعات المؤرخين حين ينقل منهم، ليحذر القارئ من تحزبهم أو طعنهم أو سوء ظنهم.
على أن لنا أن نتساءل، و نحن أمام هذه المصادر المتنازعة المختلفة، أيها نعتمد و بم نأخذ؟ إن أهل الجرح و التعديل من المحدثين الذين تصدوا للكشف عن أحوال العلماء من حيث الثقة بقولهم و أقوالهم يحذروننا من الواقدي كل التحذير. فالنسائي ( 20 ) و الشافعي ( 21 ) يتهمانه بالكذب و الوضع ، و هي أشد تهمة تلصق بمن يروي الأخبار. و يحض البخاري ( 22 ) و الدولابي و العقيلي و أبو حاتم الرازي ( 23 ) على عدم الأخذ برواياته ، و يقول الذهبي : " استقر الإجماع على وهن الواقدي" ( 24 ). فإذا اعتمدنا آراء المحدثين وجب علينا أن نضرب بما قاله الواقدي عرض الحلئط. أما رأيهم في أبي مخنف ، فأقل عنفا من الواقدي، لكنهم لا يوثقون أخباره، و يرون أنه ضعيف ( 25 ). و لا يثقون أيضا في سيف بن عمر التميمي، و يعدونه ضعيفا، و يتركون الرواية عنه ، لأنه متهم بالزندقة ( 26 ).
مجمل رأي أهل الخوارج و التعديل من المحدثين أنهم لا يثقون بالمؤرخين الثلاثة الذين حفظت روايتهم عن الفتنة. و يجب أن نعجل فنقول : إن أقوال أهل الحديث عن المؤرخين يجب أن لا تجعل ميزانا نهائيا في التاريخ، لأن المحدثين يتشددون كثيرا في موازينهم : فإذا فرضنا تلك الموازين على التاريخ سقط قسم كبير منه.
لنرجع إلى ميزان ثان: إن المحدثين يتساهلون في الرواية عن الضعفاء في الحديث ، إن كانت روايتهم تؤيد أحاديث صحيحة موثقة. و لا بأس إذن في التاريخ بأن نأخذ بهذا الجانب من التساهل عند المحدثين، فنجعله وسيلة لنا إلى تحري الحقائق التارلخية و معرفتها.
يجب علينا إذن أن نجد أخبارا صحيحة عن الفتنة، نقيس عليها ما ورد عن الواقدي و أبي مخنف و سيف، فما اتفق معها مما أورده هؤلاء عددناه حريا بالأخذ به، و ما خالفها ألقيناه و نبذناه، و تلك طريقة ليست صالحة في الحديث فقط ، بل هي مقبولة في التاريخ.
بل التاريخ يضيف إلى ذلك إضافة يحرص عليها كل الحرص، فيجب أن نأخذ بها، و هي أنه يثق بأقوال شاهدي العيان أكثر من ثقته برأي البعيدين عن الحادث.
مهمتنا إذن أن نجد سردا لحادثة الفتنة مروية عن الثقات الصادقين، و مأخوذة عمن شاهد تلك الحوادث، أو كان قريبا منها لنجعل ذلك السرد معيارا لنا في قبول الروايات الأخرى أو رفضها.

--------------------------------
هوامش :
1 – الفهرست لابن النديم ص 136 .
2 – الفهرست ص 137 .
3 – وفيات الأعيان لابن خلكان 2 : 138 .
4 – الفهرست 144 .
5 – الفهرست 149.
6 – الفهرست 163 .
7 – في تاريخ دمشق لابن عساكر " نسخة الظاهرية تاريخ 11 ، من الورقة 72 إلى 219 و هي ترجمة حافلة.
8 – أنساب الشراف للبلاذري الجزء الخامس ص 30 ، 31 – 33 ، 36 – 37 ، 40 – 43 ، 48، 57، 58.
9 – نفس المصدر ، الجزء الخامس 59 ، 62 .
10 – نفس المصدر ، الجزء الخامس 71 ، 77 ، 78 .
11 – نفس المصدر. الجزء الخامس. الصفحات السابقة و خاصة ص 62 ، 71 .
12 – تاريخ الطبري، مطبعة الاستقامة 1939 : 3 : 391 .
13 – المصدر السابق : 3 : 397 و 400 و 405 ، 408 ، 409 .
14 – أنساب الأشراف ، الجزء الخامس 25 – 29 ، 31 ، 34 ، 57 .
15 – تاريخ الطبري 3 : 375 ، 398 و أنساب الأشراف 5 : 61 .
16 – تاريخ الطبري 5 : 411 في خبرين مختلفين.
17 – تاريخ الطبري 5 : 409 ، 398 ، أنساب الأشراف 5 : 60 .
18 – أنساب الأشراف 5 : 82 ، 97 .
19 – انظر أخباره الأخرى عن الفتنة في تاريخ الطبري 3 : 391 ، 393 ، 400 ، 410 و أنساب الأشراف 5 : 61 ، 62، 66 – 67 ، 72 ، 77 .
20 – في تهذيب التهذيب طبعة دائرة المعارف العثمانية 9 : 366 .
21 – في تهذيب التهذيب 9 : 367 .
22 – في تهذيب التهذيب : 9 : 364 .
23 : المصدر السابق : 9 : 367 .
24 – المصدر السابق : 9 : 368 .
25 – في لسان الميزان لابن حجر ، طبعة دائرة المعارف العثمانية 4 : 294 .
26 – في تهذيب التهذيب 4 : 295 – 296 .

- من كتابه الدولة الأموية و الأحداث التي سبقتها و مهدت لها ابتداء من فتنة عثمان – منشورات دار االفكر. دمشق. الإصدار الرابع 1996 .

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

نقد كتاب إشكالية تطور مفهوم التعاون الدولي

31-كانون الأول-2021

نيوتون/جانيت ونترسون ترجمة:

22-أيار-2021

الـمُـغـفّـلــة – أنطون بافلوفتش تشيخوف‎

15-أيار-2021

قراءة نقدية في أشعار محمد الماغوط / صلاح فضل

15-أيار-2021

ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين

01-أيار-2021

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow