طبيعة الملك – من مقدمة ابن خلدون
خاص ألف
2012-01-31
( فصل في أنه إذا استحكمت طبيعة الملك من الانفراد بالمجد و حصول الترف و الدعة ، أقبلت الدولة على الهرم )
و بيانه في وجوه. أولا، أنها تقتضي الانفراد بالمجد. و مهما كان المجد مشتركا بين العصابة و كان سعيهم له واحدا، كانت هممهم في التغلب على الغير و الذب عن الحوزة أسوة في طموحهتا و قوة شكائمها، و مرماهم إلى العز جميع. و هم يستطيبون الموت في بناء مجدهم و يؤثرون الهلكة على فساده، و إذا انفرد الواحد منهم بالمجد، قرع عصبيتهم و كبح أعنتهم و استأثر بالأموال دونهم، فتكاسلوا عن الغزو و فشل ريحهم و رئموا المذلة و الاستعباد. ثم ربى الجيل الثاني منهم على ذلك يحسبون ما ينالهم من العطاء أجرا من السلطان لهم على الحماية و المعونة، لا يجري في عقولهم سواه. و قل أن يستأجر أحد نفسه على الموت فيصير ذلك وهنا في الدولة، و خضدا من الشوكة. و تقبل به على مناحي الضعف و الهرم لفساد العصبية بذهاب الباس من أهلها.
الوجه الثاني. إن طبيعة الملك تقتضي الترف، فتكثر عوائدهم و تزيد نفقاتهم على أعطياتهم، و لا يبقى دخلهم بخرجهم. فالفقير منهم يهلك، و المترف يستغرق عطاءه بترفه. ثم يزداد ذلك في أجيالهم المتأخرة إلى أن يقصر العطاء كله عن الترف و عوائده، و تمسهم ىالحاجة و تطالبهم ىملوكهم ىبحصر نفقاتهمى في الغزو و الحروب. فلا يجدون وليجة عنها. فيوقعون بهم العقوبات و ينتزعون ما في أيدي الكثير منهم، يستأثرون به عليهم أو يؤثرون به ابناءهم و صنائع دولتهم، فيضعفونهم لذلك عن إقامة أحوالهم، و يضعف صاحب الدولة بضعفهم. و أيضا إذا كثر الترف في الدولة و صار عطاؤهم مقصرا عن حاجاتهم و نفقاتهم، احتاج صاحب الدولة الذي هو السلطان، إلى الزيادة في أعطياتهم حتى يستدخلهم و يزيح عللهم. و الجباية مقدارها معلوم، و لا تزيد و لا تنقص.
و إن زادت بما يستحدث من المكوس فيصير مقدارها بعد الزيادة، محدودا، فإذا وزعت الجباية على الأعطيات، و قد حدثت فيها الزيادة لكل واحد بما حدث من ترفهم و كثرة نفقاتهم، نقص عدد الحامية حينئذ عما كان قبل زيادة الأعطيات، ثم يعظم الترف و تكثر مقادير الأعطيات لذلك فينقص عدد الحامية، ثالثا و رابعا إلى أن يعود العسكر إلى أقل الأعداد، فتضعف الحماية لذلك و تسقط ىقوة الدولة و يتجاسر عليها من يجاورها من الدول، أو هو من تحت يديها من القبائل و العصائب و يأذن لله فيها بالفناء.
و أيضا فالترف مفسد للخلق بما يحصل في النفس من ألوان الشر و السفسفة و عوائدها، كما يأتي في فصل الحضارة، فتذهب منهم خلال الخير التي كانت علامة على الملك و دليلا عليه، و يتصفون بما يناقضها من خلال الشر فيكون علامة على الإدبار و الانقراض. و تأخذ الدولة مبادئ العطب و تتضعضع أحوالها و تنزل بها أمراض مزمنة من الهرم إلى أن يقضى عليها.
الوجه الثالث. إن طبيعة الملك تقتضي الدعة. و إذا اتخذوا الدعة و الراحة مألفا و خلقا، صار لهم ذلك طبيعة و جبلة، شأن العوائد كلهاو إيلافها. فتربى أجيالهم الحادثة في غضارة العيش و مهاد الترف و الدعة، و ينقلب خلق التوحش، و ينسون عوائد البداوة التي كان بها الملك من شدة البأس، و تعود الافتراس و ركوب البيداء، و هداية القفر، فلا يفرق بينهم و بين السوقة من الحضر إلا في الثقافة و اشلارة، فتضعف حمايتهم و يذهب بأسهم و تنخضد شوكتهم. و يعود وبال ذلك على الدولة بما تلبس به من ثياب الهرم. ثم لا يزالون يتلونون بعوائد الترف و الحضارة و السكون و الدعة و الرقة و رقة الحاشية في جميع أحوالهم، و ينغمسون فيها و هم في ذلك يبعدون عن البداوة و الخشونة و ينسلخون عنها شيئا فشيئا، و ينسون خلق البسالة التي كانت بها الحماية و المدافعة، حتى يعودوا عيالا على حامية أخرى كانت لهم. و اعتبر ذلك في الدول التي أخبارها في الصحف لديك، تجد ما قلته لك صحيحا من غير ريبة.
و ربما يحدث في الدولة إذا طرقها هذا الهرم بالترف و الراحة، أن يتخير صاحب الدولة أنصارا و شيعة من غير حلدتهم، ممن تعود الخشونة. فيتخذهم جندا يكون أصبر على الحرب و أقدرلا على معاناة الشدائد من الجوع و الشظف. و يكون ذلك دواء للدولة من الهرم الذي عساه أن يطرقها حتى يأذن الله فيها بأمره...
مقدمة ابن خلدون – ص 140 – 142 .
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |