دراويش إسطنبول!
2013-01-06
جرت في تركيا احتفالات رسمية وشعبية في ذكرى وفاة الصوفي العظيم من أصل فارسي جلال الدين الرومي عام 1273م في مدينة قونية، دعي إليها الرئيس الإيراني أحمدي نجاد، لكنه اعتذر في آخر لحظة عن عدم تلبية الدعوة، التي كان قد وجهها إليه صاحب الاحتفال ورئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان.
وقد كان للاحتفال معنى محدد هذه السنة يتصل بميول عثمانية لدى القيادة التركية، التي شرعت تبذل في الأعوام الأخيرة جهودا حثيثة لإعادة إحياء روح «العثمنة» وذكرياتها في وعي أتراك حزب العدالة والتنمية الإسلامي الحاكم، ربما لاعتقادها بقدرة العامل الإسلامي على أن يكون جامعا، وعلى إقناع الترك بتجاوز خلافاتهم القومية وعقلياتهم الإقصائية ومصالحهم المتضاربة، في تقليد للنموذج الإيراني، الذي يعتبر الفكرة القومية تفريقية وصهيونية، كما قال الإمام الخميني عام 1987 في حديث أجرته معه مجلة عربية كانت تصدر في باريس، اتهم فيه حزب البعث بالتصهين، لأنه حزب قومي، وزعم أنه معاد للإسلام لتمسكه بفكرة مستوردة من الغرب تمزق صفوف المسلمين وتثير رغبة بعضهم في تفتيت الدول القائمة، هي الفكرة القومية. كما كان لاعتذار نجاد عن عدم حضور الاحتفال معنى مهم بدوره، فالرجل لا يريد تقديم ورقة المحتفى به الإسلامية إلى تركيا، ويؤمن بأن هذه الورقة يجب أن تبقى في يد بلاده، وأن تكون صالحة للاستعمال حتى ضد الجارة الإسلامية الكبيرة، إن لزم الأمر، خاصة أن المحتفى به فارسي الأصل. بالمقابل، ربما أراد نجاد منع الترك من استغلال ما ترتب على نشاط المدرسة الصوفية التي أسسها الرومي من دور عسكري مميز في تاريخ الغزوات التركية، يذكر بأن «العثمنة» وتوسعها ذات ماض غير بعيد في جميع الاتجاهات ودخولها إلى مجالات كانت فارس ترى فيها مناطق نفوذ ووجود خاصة بها، لا بد أن تكون لها الأولوية في إدارتها والتموضع فيها، أهمها العراق: البلد العربي الذي صار اليوم نصف فارسي حكوميا، لكنه مهدد في الوقت نفسه بسياسات العثمانية الأردوغانية الجديدة.
ومع أن الاحتفال يبدو كجزئية صغيرة، فإنه ينضوي تماما في نسق عام بدأ يبرز خلال الفترة الأخيرة بوضوح في سياسات تركيا، التي قال وزير خارجية سابق لها خلال محاضرة في باريس، عندما سئل عن السياسة الأميركية في سوريا «إن أميركا تريد انتزاع سوريا من إيران وإعطاءها لنا». بينما أعلن وزير خارجيتها الحالي الدكتور داود أوغلو في احتفال بـ«تركمان سوريا» أن عدد هؤلاء يبلغ خمسة ملايين، وأن بلاده عازمة على إزالة الحدود بين مناطقهم وبين تركيا، تمهيدا لإزالتها بين حدود سوريا عامة، والحدود التركية، وتحدث عن «العثمنة» باعتبارها إرثا مشتركا ومنجزا حضاريا وتاريخيا للترك والعرب. وأكد ضرورة استعادته كضرب من الواجب لا مفر من القيام به حيال هؤلاء.
هذه النظرة وما تمليه من استراتيجية لا تضع تركيا في مواجهة إيران من جديد، بل تعيد إليها دورها في الصراع الدولي ضدها، وتعد باسترداد مكانة الجيوش السلطانية التي كانت أقوى جيوش أوروبا طيلة قرون، وتعمل اليوم في إطار أطلسي يزودها بأسلحة فائقة الحداثة، بينما تبقى أبوابها مشرعة على مصالحة ممكنة مع إسرائيل، تفتح أمامها أبواب دور عسكري نوعي، وتوطد مكانتها لدى جارتها السورية، حيث التركمان أكثر بقليل من مائة ألف وليسوا بالملايين، ويسكنون منطقة حدودية صغيرة في شمال غربي سوريا وليسوا أغلبية سكان حمص وغوطتي دمشق وحلب... إلخ، كما يدعي عثمانيو الترك. وللعلم، فقد أخافت «العثمنة» المعززة بالسلاح الأطلسي رئيس أركان الجيش الإيراني أسد الله فيروز أبادي، الذي أبدى امتعاضه وقلقه وتخوفه من صواريخ «الباتريوت» وقال إنها قد تتسبب في حرب عالمية، كما تخوف من تدامج جيش إسطنبول مع جيوش الناتو، ومن المخاطر المباشرة والبعيدة المدى التي قد تترتب على مكانة ودور طهران، نتيجة لذلك.
تتكشف حقائق استراتيجيات دول الجوار السوري التي تتصارع على أرضنا المنكوبة بحكامها القتلة، وتتبدى أكثر فأكثر منطويات هذه الاستراتيجيات الخفية والمخيفة، وقد بدأت ترى فينا فريسة سهلة الاقتناص لا بد من اصطيادها، بعد أن أوقعها نظامها أرضا وأعمل سكاكينه فيها. لا عجب أن يكشف أوغلو عن حقيقة ما تكنه تركيا لسوريا من مخططات، وأن يتحدث عن علاقاتها معها وكأنها ستغدو مستعمرة عثمانية، ويضخم عدد تركمانها من نيف ومائة ألف إلى خمسة ملايين ونصف المليون، ويعد بإلغاء الحدود بينها وبين تركيا التي قلبت استراتيجيتها السورية رأسا على عقب، وحولتها من «الاحتواء» عبر روابطها الواسعة مع نظامها القائم إلى «الدمج» من خلال ردها إلى بيت الطاعة العثماني أو تعريضها لمختلف أنواع الاحتمالات الماسة باستقلالها وسيادتها. والغريب أن سياسيا إسلاميا سوريا يلعب دورا مهما في قيادة جماعة الإخوان المسلمين، هو المهندس رياض الشقفة، كان قد نفى قبل أشهر قليلة أن يكون هناك أي فرق بين الأراضي السورية والتركية، أو أن يكون بعض سكان لواء إسكندرون من العرب. والأغرب أن تركيا كانت قد لعبت دورا حاسما في تسريب الجماعة وأتباعها إلى الداخل السوري عبر ما سمي «المجلس الوطني»، الذي كان لإسطنبول الجهد الأكبر في تأسيسه.
ليس الاحتفال التركي بأحد أعظم دراويش الصوفية في التاريخ الإسلامي تعبيرا عن دخول إسطنبول في طور دروشة وزهد، بل هو بالأحرى غلالة شفافة تستر جسد استراتيجية تفتقر لأي نوع من التقوى والتواضع، تعدنا بـ«عثمنة» لطالما كان يقال لنا إن حزب العدالة والتنمية الأردوغاني تخلى عنها، بعد أن تاب إلى الله وصار علمانيا وديمقراطيا وقوميا وجمهوريا، أي أتاتوركيا.
يكشف الحدث السوري الاستراتيجيات ويفضح حقيقة النيات والخطط، ويبين كم كانت تختفي وراء مظاهر الطيبة والدروشة أنياب مستعدة لتقطيع فرائسها وتمزيق أوصالها في أول فرصة تتاح لها، وكم يجب علينا، نحن السوريين، العمل بيقظة وحذر في عالم الضواري والكواسر، التي تعد العدة للانقضاض علينا: من خارج بلادنا وداخلها!
عن جريدة الشرق الأوسط.
08-أيار-2021
24-نيسان-2021 | |
10-نيسان-2021 | |
06-آذار-2021 | |
23-كانون الثاني-2021 | |
16-كانون الثاني-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |