على هامش مسودة الدستور: بين التناقض والخواء الأخلاقي
خاص ألف
2012-02-21
مقدمة
***
ما زالت هذه السلطة تتحفنا بتناقضاتها التي أعجز عن وصفها بمفردات المنطق والتفكير. فطيلة أحد عشر شهراً من عمر الانتفاضة السورية وهذه السلطة تقدم نفسها كقلعةٍ من قلاع العلمانية في شرق المتوسط، وتتشدق بأنها الحامي الذي يضمن "للأقليات" بقاءها على الأرض السورية. وهنا أسجل بدءاً اعتراضي المطلق على مصطلح "أقلية" و"أكثرية" والذي درج في وسائل الإعلام على اختلاف مشاربها، والذي رسخته ممارسات النظام على مدى عقود من الزمان الحزين. إذ تنتمي هذه المصطلحات إلى حقبة "ما قبل الدولة الحديثة"، وتعتمد على البنية الثقافية والدينية المتوراثة كمرجعيةٍ مطلقةٍ للتصنيف، مما يفضي إلى فروقاتٍ على المستوى الوطني، وولاءاتٍ تتجاوز، وتشوه مفهوم الهوية، والانتماء السياسي إلى ما يسمى "بالوطن".
ملحوظات على محتوى مسودة الدستور
***
وتأتي ملحمة الدستور الجديد لتضاف إلى ركام متناقضات السلطة التي ما زالت تطالعنا بها، وعليه سأقف في هذه المقالة المختصرة عند بضعة نقاطٍ تتعلق بمسودة الدستور الجديد، مع التنويه إلى أني لا أسعى إلى تقديم تحليلٍ مفصلٍ لبنود هذه المسودة.
فقد راعني وأنا أقرأ مسودة الدستور حجم الإقصاء المبثوث في كلماته ومواده. فاعتبار الشعب السوري جزءاً من الأمة العربية صحيح، إلا أنه يتحول إلى إقصاءٍ حين يتجاهل دستور الوطن، ولو بالإشارة، المجموعات الإثنية والعرقية الكثيرة وغير العربية والمتجذرة في تاريخ الوطن.
ومرة أخرى نرى مادةً تضع دين المواطن، أو بالأحرى الكلمة المكتوبة في هويته الشخصية أو قيده المدني، شرطاً لترشحه إلى منصب رئاسة الجمهورية، وهو منصبٌ يفترض فيه أن يكون رمزاً لوحدة الوطن لا أداةً للفرز والتصنيف على أسس موروثة وإيمانية! فالغالبية الساحقة منا، مع اعتزازها بانتمائها الديني، فهي لم تختر الدين الذي تنتمي إليه، فكيف يغدو هذا الانتماء الذي ورثناه عن آبائنا واحداً من مقومات المنصب والمسؤولية؟ وأين الكفاءة والشروط الأخرى؟ فالكفاءة كما تعلمون لا علاقة لها بدين الشخص، أو انتمائه، أو عرقه، وشخصياً أتطلع إلى رئيسٍ ومسؤولين أكفاء يضعون مصلحة الوطن والمواطن نصب أعينهم، ويسعون إلى تحقيق رفاهيته وازدهاره بغض النظر عن خلفيتهم الدينية، أو العرقية، أو غيرها. فكون رئيس الدولة يصوم رمضان، أو يصوم الفصح، أو لا يصوم أصلاً لن ينعكس علي، كمواطن، بسلبٍ أو إيجاب، فصيامه، أو عدم صيامه، قضيةٌ شخصيةٌ تعود إليه هو فقط.
أما من الناحية الفلسفية الأخلاقية فمواد المسودة المتعلقة بدين رئيس الدولة تطعن وتستهين بمجموعة من أهم القيم التي تبنى عليها الدول والتجمعات البشرية المزدهرة: العدالة والمساواة وفصل السلطات، وكما تعلمون فهذه المفاهيم مطلقةٌ لا تخضع ولا تتبع لمنطق "الأكثرية" أو "الأقلية" سواء بسياقه الشائع الاجتماعي الثقافي (المغلوط)، أو بسياقه السياسي الذي تحدده صناديق الاقتراع (إذ لا يحق للأكثرية السياسية، التي تشكلت نتيجة تصويت شعبي سليم وحر، أن تلغي أو حتى تخدش مفهوماً أساسياً وإنسانياً كالمساواة أو العدالة او الحرية إلخ).
كما نرى تركيزاً مطلقاً للصلاحيات في منصب رئاسة الجمهورية وكأنه لا يوجد في البلاد حكومة أو مجلس شعب. أما مكمن الألم وخيبة الأمل الكبرى ففي المواد المتعلقة بالسلطة القضائية التي بقيت تحت الوصاية وخاضعة للسلطة التنفيذية ممثلة في منصب الرئاسة. ولعله من بديهة القول أن حجر البناء الأساس في بناء أي دولة حديثة هو في استقلال القضاء.
نفعية السلطة وتشويه المفاهيم
ويشير ما سبق عرضه إلى نظرةٍ براغماتيةٍ نفعيةٍ وانتهازية تتبعها السلطة الحالية للمحافظة على وجودها عبر شراء وإسكات "الأغلبية"، واللعب بعواطفها الإيمانية، عوضاً عن أن تقوم بدورها الحقيقي في بناء دولة للجميع، ومنح المجتمع الفرصة للتخلي عن الجانب السلبي للثقافة الموروثة، والانتقال إلى حيز السياسة الواقعية بمعناها الوطني العام والجامع. أما المجموعات الموالية التي خرجت لتطبل وتزمر للسلطة، باعتبارها سلطة علمانية إلخ، فستخرج الآن أيضاً لتطبل وتزمر لهذا الدستور "غير العلماني" لأنها (أي المجموعات الموالية) لا تتجرأ على نقد تصرفات السلطة، أو حتى لا تملك الشجاعة، أو ربما الرغبة، لإخضاع هذه التصرفات إلى أدنى مستويات المحاكمة والسؤال.
وهكذا تستمر السلطة الحالية في تشويهها الممنهج لمفهوم العلمانية وما يرتبط به من قيم كالديمقراطية وغيرها، وذلك عبر تقديم نموذجٍ مبتورٍ ومبتذلٍ للعلمانية ممزوجٍ بقمع دموي عنيف، مما يفسح المجال أمام تيارات سياسية دينية لتملأ الفراغ الحاصل، والناتج عن خيبة أمل الجماهير التي تتطلع إلى حياة تسود فيها مفاهيم الكرامة، والعدالة، والازدهار. وأشير ههنا إلى أن اعتراضي على هذه التيارات السياسية الدينية لا ينبع من ناحية كونها كذلك، أو لأني معادٍ لها من حيث المبدأ، بل يستند إلى سببين رئيسيين. السبب الأول هو أن معظم هذه التيارات ذات بنيةٍ إقصائيةٍ لا تختلف عن بنية السلطة الحالية التي انتفضنا في وجهها. أما السبب الثاني فهو لأنها لا تتمتع –حتى اللحظة- بالنضج الكافي على مستوى الفكر السياسي. وبالمناسبة فالنقطة الأخيرة (أي ضعف الفكر السياسي) معضلةٌ تعاني منها معظم الأطراف السياسية في سورية والعالم العربي عموماً، على مختلف توجهاتها وخلفياتها الايديولوجية، لتشكل مكوناً أساسياً من المكونات التي تشكل "محنة السياسة" في ثقافتنا - محنة ذات جذورٍ تاريخيةٍ واجتماعيةٍ معقدة يأخذ نقاشها حدوداً أبعد من مبتغى هذه المقالة.
في السؤال الأخلاقي حول مشروعية الاستفتاء
وبعيداً عن كم الملاحظات التقنية والقانونية التي تتعلق بمحتويات مسودة الدستور، يتبادر إلى الذهن سؤالٌ أكثر أهميةً وجذرية ً:ما مدى مشروعية هذه المسودة، والاستفتاء عليها، في ظل سلطةٍ مطعونٍ بشرعيتها السياسية أصلاً؟ فكما هو معروفٌ فهذه السلطة لم تغدو سلطةً نتيجةً لتعاقدٍ اجتماعيٍ وشعبيٍ سليم، كما أنها ما زالت تعتبر نفسها فوق كل الدساتير وكل القوانين، ناهيكم عن تمتعها بتاريخٍ إقصائيٍ عريق نشهد حالياً واحداً من فصوله في إقصائها لكل القوى الفاعلة في الوطن، واستئثارها الاستبدادي بفرض أعضاء اللجنة الخاصة بإعداد الدستور، وصياغته، والاستفتاء عليه، وذلك على مبدأ "وأنت الخصم والحكم".
ثم كيف لهذا الاستفتاء أن يكون أخلاقياً ودستورياً في حينٍ ترزح فيه أحياءٌ ومدنٌ وقرىً كاملة على امتداد وطني الحبيب تحت حصارٍ عسكريٍ وأمنيٍ خانق، وتصعيد عنفي سلطوي؟ وفي حينٍ تعيش فيه عائلات بأكملها حالة حدادٍ، وحزنٍ، وترقبٍ على فقيد، أو مصاب، أو مفقود؟ ألا يتوجب على هذه السلطة أولاً إيقاف مقاربتها الأمنية الفاشلة؟ ووضع حد لدوامة العنف الدائر في البلاد؟ وإعلان الحداد الوطني على أرواح كل من سقطوا؟ والاعتراف بأنها المصدر الرئيسي للأزمة؟ - والتي هي بالمناسبة ليست مؤامرة كونية.
وكيف لنا أن نقبل بالاستفتاء في حينٍ يقبع فيه خيرة شباب الوطن في أقبية المخابرات؟ وما الطبيب محمد عرب، والطبيب خالد الميلاجي، ويحيى الشربجي، والطالب عبد القادر الشعار، وناشطي وناشطات المركز السوري للإعلام وحرية التعبير إلا أمثلةٌ حيةٌ ومؤلمةٌ عن آلاف المواطنين الأبرياء الذين اعتقلوا لا لذنب سوى أنهم نطقوا بكلمةٍ حرةٍ عبروا بها عن آرائهم.
كيف سأثق بسلطةٍ رفعت حالة الطوارئ ولم تغير من ممارستها على أرض الواقع؟ وما زالت مصرةً على نهجها العقيم والمفلس في اعتقال المواطنين إذا عارضوا او حتى إذا اعترضوا؟
كلمة أخيرة
****
القضية ليست بتدوين السطور، ورصف الكلمات على تلك السطور، بل في احترام ما تم تدوينه، وجعل الدستور ومن ورائه الشعب المصدر الحقيقي للسلطة، والحارس الأمين الذي يحمي الدستور من عبث العابثين. وفي نهاية المقال فلعله من البديهة أن نشير إلى أن سلطةً لا تتقن سوى منطق الرصاصة، وبوط العسكر، لا يمكن لها أن تستوعب مفاهيم المواطنة، والعدالة، والمساواة، والحرية، أو تدّعي بأنها من سيكتب دستوراً جديداً لسورية الجديدة، ففاقد الشيء لا يعطيه.
____________
طلال الميهني
أكاديمي في جامعة كامبريدج
وعضو مؤسس لتيار بناء الدولة السورية
08-أيار-2021
22-نيسان-2017 | |
25-كانون الأول-2013 | |
10-آب-2013 | |
29-حزيران-2013 | |
16-نيسان-2013 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |