العَلَم السوري
خاص ألف
2012-03-04
بما أني بعيد عن وطني ... فقد غمرني إحساس بالشوق والحنين إليه ... وكما تعلمون فلم تجري العادة على أن نشتاق إلى أوطاننا حين نكون فيها .... فالشوق إلى أي شيء، بما فيه الوطن، يحتاج ثلاثة شروط:
- أولاً إلى هجرة وبُعْد.
- ثانياً إلى ظروف ملائمة من جوعٍ، وتعبٍ، وتوحدٍ، وما شاكلها.
- ثالثاً إلى مزاج يؤهلك لأن تشتاق، وأن تركز في اشتياقك، ويمنعك في الوقت نفسه من الانتحار شنقاً.
ولأن الشروط الثلاثة كانت محققةً عندي، فقد تأججت مشاعر الشوق بشكلٍ فاق التوقعات، وغرقتُ في حنينٍ حادٍ، ومفاجىءٍ، وثوريٍ، وغير عاديٍ، وغير مسبوقٍ للوطن. وكنتيجةٍ مباشرةٍ وفوريةٍ لهذا التأجج فقد اتصلت هاتفياً بسفارة الوطن في بلد المغترب، وبما أن الوقت كان متأخراً فقد طلب مني جهاز الاتصال الآلي ترك رسالة بعد سماع صوت التون! وفعلاً بعد سماعه صرخت: أحبك يا وطني ثلاث مرات ... ثم شكرت سعادة السفير، وأعضاء السفارة واحداً واحداً، على كل ما يقدمونه للمواطن السوري المغترب الذي اضطر للاغتراب بحثاً عن الكرامة ولقمة العيش التي باتت إما مفقودة أو نادرة في الوطن. كما اقترحت عليهم (بما أني مواطن سوري يمارس حقه الديمقراطي بالاقتراح) توزيع علب تحتوي على تراب الوطن على أبناء الجالية مطبوع عليها: تراب وطني 100% صنع في سورية، علّها تخفف عنهم مصابهم، ومحنتهم، وتنزل عليهم شيئاً من الصبر والسلوان ... وأكدت، وبشيء من الإصرار، أن يتم توزيع علب التراب المقترحة من قبل جهةٍ تنتمي إلى القطاع العام، وليس من قبل فرعٍ مستحدثٍ لشركة سيرياتل!
أغلقت السماعة بنشوة، وابتسامة عريضة تعبر وجهي من الأذن إلى الأذن، لأهرول بعدها إلى حقيبتي، وأنتشل منها علماً لوطني الحبيب كنت قد استعرته من إحدى المدارس الابتدائية قبل يوم رحيلي. فعلم بلادي، ككل الأعلام مستطيل الشكل (أستثني من ذلك علم مملكة نيبال في جنوب شرق آسيا)، كما أن علمنا الحبيب مخطط، وله شراشيب. ومع أن علم الوطن ليس الأقدم في العالم (حصل على ذلك اللقب علم الدانمارك الذي رفرف لأول مرة في القرن الثالث عشر)، إلا أن العلم السوري جميل، ولطيف، وعينه شبعانة، ولديه غمازة، كما أن موجة من الفخر تجتاحني في كل مرة أحدق فيه.
المهم وضعت العلم أمامي على سطح المكتب، ليزاحم ما عليه من كتب، وسجائر (مع أني لا أدخن إلا أني كتبت ذلك تمشياً مع الحالة الفنية!)، وبدأت بتأمل العلم السوري بعيونٍ دامعة -كما لو أني أتأمل فتاةً جميلة- لعدة ساعاتٍ من الناحية اليمنى، وعدةٍ ساعاتٍ أخرى من الناحية اليسرى، وبصمتٍ ممزوجٍ بإعجابٍ شديدٍ جداً جداً بألوانه (وهي أمور لم أشعر بها طيلة السنوات العشرين التي مضت من حياتي قبل أن أغادر الوطن)، خاصة حين كان العلم يرفرف بخيلاء (بالمناسبة قمت بتشغيل المروحة كي يتشكل "تيار" من الهواء حتى يقتنع العلم ويبدأ بالرفرفة).
وفي خضم حالة التأمل، سمعت طرقاً على باب غرفتي، وحين فتحت وإذ بإلهام الشعر قد جاءني زائراً فاستقبلته وأتبعت ذلك بقصيدتين من البحر الطويل، وثنيت بأخرتين من البحر المتقارب. ثم ما لبث أن دب في النفس حماسٌ طالما افتقدناه، فوقفت باستعدادٍ كما كانت تفعل "جماهير شعبنا" في المدارس والمعسكرات لأحيي علم الوطن، وأنشد كل ما كنت أحفظه من أغانٍ وطنيةٍ وشعارات، ثم وضعت نظاراتٍ شمسية، وطفقت أصفق بخيلاء مسؤولٍ عربيٍ رفيع.
وقبيل انتهاء الحفل الكريم أقمنا حلقات الدبكة على أنغام "طلوا حبابنا طلوا" للعملاق وديع الصافي، و"طل الصباح لك علوش" للعملاق علي الديك، فنحن في زمن العمالقة. وتجدر الإشارة إلى أني في تلك الدبكة استلمت الأتان (أي الجحشة وهي أنثى الجحش، وللتنويه فللدبكة جحشة تطلق للدلالة على بدايتها) ... المهم أني استلمت الأتان، وفي يميني مسبحة أهدتني إياها خالتي بعد نجاحي في الصف التاسع ... وهنا دبكت كما لم أدبك من قبل ومع أني كنت حافياً فقد اهتزت تحت قدمي الأرض الموحلة. وكانت الجوقة الموسيقية التي ترافق الدبكة مؤلفة من طبل، ومزمار، وسبع حناجر تصدح بأهزوجة غريبة كنا نرددها في عمر الطفولة:
((العلم السوري، كسر البوري، وقال لمرتو، قومي دوري ...))
توقفت عند كلمات هذه الأهزوجة أتأملها، لأكتشف أني أمام لغز حقيقي: فالعلم السوري، وفقاً لكاتب القصيدة، يصبح كائناً قادراً على إحداث أفعال إرادية باعتبار أنه "كسر البوري"، و"البوري" بالعامية الحلبية كلمة بمعنى الأنبوب، وعلى الأرجح فالشاعر كان يقصد سارية العلم التي تشبه البوري (تشبيه بليغ) ... ولم يبلغنا الشاعر عن الدافع لقيام العلم السوري بكسر البوري، وعلى الأرجح فقد ترك الشاعر ذلك لخيال قراء القصيدة ليستكشفوا مكنونات هذا الفعل العنفي الذي ارتكبه العلم السوري. ويمكن ربط هذا الفعل العنفي بحالة إحباط الجماهير الكادحة، أو الغضب العارم على الكيان الصهيوني، أو كتعبير عن كفاح العمال والفلاحين في سورية في سبيل الثورة القديمة (التي لم يشاركوا فيها)، أو الجديدة (التي يشاركون فيها)، أو كردة فعل على غلاء المعيشة ورخص الإنسان والدم السوري. وبعدها نجد أن شاعرنا أظهر العلم السوري ككائنٍ حي متزوج من زوجته التي لم يسمها، ولكنها على ما يبدو من روح القصيدة تتمتع بقسطٍ وافرٍ من الحقوق. فزوجها (العلم السوري) ذو أفكارٍ متحررةٍ بدليل طلبه من زوجته الخروج من المنزل للتنزه. ومنهم من احتج بأن كلمة "دوري" مشتقةٌ من الدوران حول محور، على شاكلة الكرة الأرضية، أو متصوفة المدرسة المولوية التي تستمد جذورها من جلال الدين الرومي صاحب "المثنوي" و"كتابٌ فيه ما فيه".
وبسبب خصوصية اللحظة التي كنت أعيشها، فقد اجتاحني إلهام الرسم، فتناولت ورقةً، قلم رصاصٍ (لكي يتماثل مع أزيز الرصاص)، وبدأت أرسم علم الوطن (بلا ملابس تمشياً مع المدارس الفنية في عصر النهضة). ولكن ذكريات الزمن الجميل (أو ما كنا نعتقد أنه زمنٌ جميل) أَبَتْ إلا أن تجتاجني وتستقر أمامي لتذكرني كيف أن العلم (بشكل عام) ما هو إلا رمز يجمع ويؤلف بين الناس المنتمين إلى بقعةٍ جغرافيةٍ معينة (تسمى عادة بالوطن)، وقد أجمع على ذلك علماء الفيكسيللولوجي (أي علم دراسة الأعلام!).
ولكن مما يؤسف له هو أن العَلَم السوري، مع كل ما يتمتع به من عقليةٍ منفتحةٍ وتنور، قد تحول إلى رمزٍ للانقسام والاستقطاب، حتى بات يعيش في أيامنا الراهنة انفصاماً في الشخصية فيما يخص ترتيب الألوان. إذ لم يعد العَلَم السوري يعرف إن كان لديه عيونٌ خضراء؟ أم ثلاث قطعٍ من الياقوت الأحمر؟ أم قلادةٌ عليها صورة للعُقاب السوري؟ وعليه فقد قررنا "نحن السوريون" أن نطلب استشارةً طبيةً في عيادةٍ مختصةٍ بالأمراض النفسية. وفعلاً ذهبنا "نحن السوريون"، والعلم السوري، وزوجته التي ذكرها الشاعر إلى عيادة الطبيب، وأخذنا معنا "البوري المكسور" كشاهدٍ على العنف الذي حصل. ولكن الأطباء أجمعوا أن العلم السوري سليمٌ مئة بالمئة حتى أنه ذو قلب طاهرٍ وأبيض في كل الأحوال! إلا أن الأطباء أشاروا إلى أن المريض الحقيقي، الذي يجب أن ننتبه إلى صحته التي تتدهور، هو "الوطن السوري" الذي اعتاد "العلم السوري" على أن يكون رمزاً له!
وفي طريق العودة من العيادة، حملت العلم بألوانه وأشكاله المختلفة بكل إكبارٍ، واحترامٍ، وتقديرٍ ووضعته في حقيبتي. وبينما كانت مشاعر الحنين تأخذ قسطها من التعبير، والصراخ، والعويل، والتقبيل، والتصفيق، بدأتُ أفكر بالوضع الصحي "للوطن السوري" محاولاً ايجاد طريقة للخروج به من أزمته الصحية، وفي غمرة التفكير تناهى إلى سمعي من بعيد هتافٌ جميلٌ يقول: الله، سورية، حرية وبس ...
08-أيار-2021
22-نيسان-2017 | |
25-كانون الأول-2013 | |
10-آب-2013 | |
29-حزيران-2013 | |
16-نيسان-2013 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |