من الإلهيات / ابن سينا –
خاص ألف
2012-03-17
في الدلالة على الموجود والشيء وأقسامها الأول، بما يكون فيه تنبيه على الغرض
فنقول: إن الموجود، والشيء، والضروري، معانيها ترتسم في النفس ارتساماً أولياً، ليس ذلك الارتسام مما يحتاج إلى أن يجلب بإشياء أعرف منها. فأنه كما أن في باب التصديق مبادئ أولية، يقع التصديق لها لذاتها، ويكون التصديق بغيرها، بسببها، وإذا لم يخطر بالبال أو لم يفهم اللفظ الدال عليها، لم يمكن التوصل إلى معرفة ما يعرفها، وإن لم يكن التعريف الذي يحاول أخطارها بالبال أو تفهيم ما يدل به عليها من الألفاظ محاولاً لإفادة علم ليس في الغريزة؛ بل منبها على تفهيم ما يريده القائل ويذهب إليه. وربما كان ذلك بأشياء هي في نفسها أخفى من المراد تعريفه، لكنها لعلة ما وعبارة ما صارت أعرف. كذلك في التصورات أشياء هي مبادئ للتصور، وهي متصورة لذواتها، وإذا أريد أن يدل عليها لم يكن ذلك بالحقيقة تعريفا لمجهول؛ بل تنبيها وأخطاراً بالبال، بإسمٍ أو بعلامة، ربما كانت في نفسها أخفى منه، لكنها لعلة ما وحال ما تكون أظهر دلالة.
فإذا استعملت تلك العلامة تنبهت النفس على إخطار ذلك المعنى بالبال، من حيث أنه هو المراد لا غيره، من غير أن تكون العلامة بالحقيقة معلمة إياه، ولو كان كل تصور يحتاج إلى أن يسبقه تصور قبله لذهب الأمر في ذلك إلى غير النهاية، أو لَدار.
وأولى الأشياء بأن تكون متصورة لأنفسها الأشياء العامة للأمور كلها، كالموجود، والشيء الواحد وغيره. ولهذا
ليس يمكن أن يبين شيء منها ببيان لا دور فيه البتة، أو بيان شيء أعرف منها. ولذلك من حاول أن يقوم فيها شيئاً وقع في إضطراب، كمن يقول: إن من الحقيقة الموجود أن يكون فاعلاً أو منفعلاً؛ وهذا إن كان ولا بد من أقسام الموجود، والموجود أعرف من الفاعل والمنفعل. وجمهور الناس يتصورون حقيقة الموجود ولا يعرفون البتة أنه يجب أن يكون فاعلاً أو منفعلاً، وأنا إلى هذه الغاية لم يتضح لي ذلك إلاّ بقياس لا غير، فكيف يكون حال من يروم أن يعرف حال الشيء الظاهر بصفة له، تحتاج إلى بيان حتى يثبت وجودها له؟ وكذلك قول من قال: إن الشيء هو الذي يصح عنه الخبر، فإن "يصح" أخفى من "الشيء" و "الخبر" أخفى من "الشيء" ، فكيف يكون هذا تعريفاً للشيء؟.
وإنما تعرف الصحة ويعرف الخبر بعد أن يستعمل في بيان كل واحد منهما أنه "شيء" أو أنه "أمر" أو أنه "ما" أو أنه "الذي"، وجميع ذلك كالمرادفات لأسم الشيء، فكيف يصح أن يعرف الشيء تعريفاً حقيقياً بما لم يعرف إلاّ به؟ نعم ربما كان في ذلك أو أمثاله تنبيه ما. وأما بالحقيقة فإنك إذا قلت إن الشيء هو ما يصح عنه الخبر، تكون كأنك قلت: إن الشيء هو الشيء الذي يصح الخبر عنه، لأن معنى "ما "و "الذي" و "الشيء" معنى واحد، فتكون قد أخذت الشيء في حد الشيء.
على أننا لا ننكر أن يقع هذا أو ما يشبهه، مع فساد مأخذه، تنبيه بوجه ما على الشيء، ونقول: إن معنى الوجود ومعنى الشيء متصوران في الأنفس، وهما معنيان . فالموجود والمثبت والمحصل أسماء مترادفة على معنى واحد، ولا نشك في أن معناها قد حصل في نفس من يقرأ هذا الكتاب.
والشيء وما يقوم مقامه قد يدل به على معنى آخر في اللغات كلها، فإن لكل أمر حقيقة هو بها ما هو، فالمثلث حقيقة أنه مثلث، وللبياض حقيقة أنه بياض، وذلك هو الذي ربما سميناه الوجود الخاص، ولم نرد به معنى الوجود الإثباتي. فإن لفظ الوجود يدل به أيضاً على معاني كثيرة، منها الحقيقة التي عليها الشيء، فكأنه ما عليه يكون الوجود الخاص للشيء.
ونرجع فنقول: أنه من البين أن لكل شيء حقيقة خاصة هي ماهيته، ومعلوم أن حقيقة كل شيء الخاصة به غير الوجود الذي يرادف الإثبات، وذلك لأنك إذا قلت: حقيقة كذا موجودة إما في الأعيان، أو في الأنفس، أو مطلقاً يعمها جميعاً، كان لهذا معنى محصل مفهوم . ولوقلت : إن حقيقة كذا، حقيقة كذا، أو أن حقيقة كذا حقيقة، لكان حشواً من الكلام غير مفيد. ولو قلت: إن حقيقة كذا شيء، لكان أيضاً قولاً غير مفيد ما يجهل؛ وأقل إفادة منه أن تقول : إن الحقيقة شيء، إلاّ أن يعنى بالشيء، الموجود، كأنك قلت: إن حقيقة كذا حقيقة موجودة. وأما إذا قلت: حقيقة أ شيء ما، و حقيقة ب شيء آخر، فإنما صح هذا وأفاد. لأنك تضمر في نفسك أنه شيء آخر مخصوص مخالف لذلك الشيء الآخر، كما لو قلنا :إن حقيقة أ وحقيقة ب حقيقة أخرى. ولولا هذا الإضمار وهذا الإقتران جميعاً لم يفد، فالشيء ئ يراد به هذا المعنى.
ولا يفارق لزوم معنى الوجود إياه البتة، بل معنى الوجود يلزمه دائماً، لأنه إما موجوداً في الأعيان، أو موجوداً في الوهم والعقل، فإن لم يكن كذا لم يكن شيئاً.
وأن ما يقال : إن الشيء هو الذي يخبر عنه، حق؛ ثم الذي قال، مع هذا، إن الشيء قد يكون معدوماً على الإطلاق، أمر يجب أن ينظر فيه. فإن عنى بالمعدوم المعدوم في الأعيان، جاز أن يكون كذلك، فيجوز أن يكون الشيء ثابتاً في الذهن معدوماً في الأشياء الخارجة. وإن عنى غير ذلك كان باطلاً، ولم يكن عنه خبر البتة، ولا كان معلوماً إلاّ على أنه متصور في النفس فقط. فأما أن يكون متصوراً في النفس صورة تشير إلى شيء خارج فكلاّ.
أما الخبر، فلأن الخبر يكون دائماً عن شيء متحقق في الذهن. والمعدوم المطلق لا يخبر عنه بالإيجاب، وإذا أخبر عنه بالسلب أيضاً فقد جعل له وجود بوجه ما في الذهن. لأن قولنا: " هو" ، يتضمن إشارة، والإشارة إلى المعدوم الذي لا صورة له بوجه من الوجوه في الذهن محال. فكيف يوجب على المعدوم شيء؟ ومعنى قولنا: إن المعدوم "كذا" ، معناه أن وصف " كذا" حاصل للمعدوم، ولافرق بين الحاصل والموجود. فنكون كأنا قلنا: إن هذا الوصف موجود للمعدوم. بل نقول: إنه لا يخلو أن ما يوصف به المعدوم ويحمل عليه إما أن يكون موجوداً وحاصلاً للمعدوم أو لا يكون موجوداً حاصلاً له؛ فإن كان موجوداً وحاصلاً للمعدوم، فلا يخلو إما أن يكون في نفسه موجوداً أو معدوماً، فإن كان موجوداً فيكون للمعدوم صفة موجودة، وإذا كانت الصفة موجودة، فالموصوف بها موجود لا محالة، فالمعدوم موجود، وهذا محال؛ وإن كانت الصفة معدومة، فكيف يكون المعدوم في نفسه موجوداً لشيء؟ فإم ما لا يكون موجوداً في نفسه، يستحيل أن يكون موجوداً للشيء . نعم قد يكون الشيء موجوداً في نفسه ولا يكون موجوداً لشيء آخر، فأما إن لم تكن الصفة موجودة للمعدوم فهي نفي الصفة عن المعدوم، فإنه إن لم يكن هذا هو النفي للصفة عن المعدوم، فإذا نفينا الصفة عن المعدوم، كان مقابل هذا، فكان وجود الصفة له؛ وهذا كله باطل.
وإنما نقول: إن لنا علماً بالمعدوم، فلأن المعنى إذا تحصل في النفس فقط ولم يشر فيه إلى خارج، كان المعلوم نفس ما في النفس فقط ، والتصديق الواقع بين المتصور من جزئيه هو أنه جائز في طباع هذا المعلوم وقوع نسبة له معقولة إلى خارج، وأما في هذا الوقت فلا نسبة له، فلا معلوم غيره.
وعند القوم الذين يرون هذا الرأي، أن في جملة ما يخبر عنه ويعلم أموراً لا شيئية لها في العدم، ومن شاء أن يقف على ذلك فليرجع إلى ما هذوا به من أقاويلهم التي لا تستحق فضل الإشتغال بها.
وإنما وقع أولئك فيما وقعوا فيه بسبب جهلهم بأن الإخبار إنما يكون عن معان لها وجود في النفس، وإن كانت معدومة في الأعيان، ويكون معنى الإخبار عنها أن لها نسبة ما إلى الأعيان . مثلاً إن قلت: إن القيامة "تكون" فهمت القيامة وفَهمت تكون، وحملت تكون التي في النفس، على القيامة التي في النفس، بأن هذا المعنى إنما يصح في معنى آخر معقول أيضاً، وهو معقول في وقت مستقبل، أن يوصف بمعنى ثالث معقول، وهو معقول الوجود. وعلى هذا القياس الأمر في الماضي . فبين أن المخبر عنه لا بد من أن يكون موجوداً وجوداً ما في النفس. والإخبار في الحقيقة هو عن الموجود في النفس، وبالعرض عن الموجود في الخارج. وقد فهمت الآن أن الشيء بماذا يخالف المفهوم للموجود والحاصل، وأنهما مع ذلك متلازمان.
وعلى أنه قد بلغني أن قوماً يقولون: أن الحاصل يكون حاصلاً، وليس بموجود، وقد تكون صفة الشيء ليس شيئاً لا موجوداً ولا معدوماً، وأن "الذي " و "ما "يدلان على غير ما يدل عليه الشيء. فهؤلاء ليسوا من جملة المميزين. وإذا أخذا بالتمييز بين هذه الألفاظ من حيث مفهوماتها إنكشفوا.
فنقول الآن : إنه وإن لم يكن الموجود، كما علمت، جنساً، ولا مقولاً بالتساوي على ما تحته، فإنه معنى متفق فيه على التقديم والتأخير. وأول ما يكون، يكون للماهية التي هي الجوهر ثم يكون لما بعده. وإذ هو معنى واحد على النحو الذي أومأنا إليه فتلحقه عوارض تخصه، كما قد بينا من قبل . فلذلك يكون له علم واحد يتكفل به. كما أن لجميع ما هو صحي علماً واحداً.
وقد يعسر علينا أن نعرف حال الواجب والممكن والممتنع بالتعريف المحقق أيضاً، بل بوجه العلامة. وجميع ما قيل في تعريف هذه مما بلغك عن الأولين قد يكاد يقتضي دوراً. وذلك لأنهم، على ما مر لك في فنون المنطق، إذا أرادوا أن يحدوا الممكن، أخذوا في حده إما الضروري وإما المحال ولا وجه غير ذلك. وإذا أرادوا أن يحدوا الضروري، أخذوا في حده إما الممكن وإما المحال. وإذا أرادوا أن يحدوا المحال أخذوا في حده إما الضروري وإما الممكن. مثلاً إذا حدوا الممكن قالوا مرة، إنه غير ضروري أو إنه المعدوم، في الحال الذي ليس وجوده، في أي وقت فرض من المستقبل، بمجال .ثم إذا احتاجوا إلى أن يحدوا الضروري قالوا: إما أنه الذي لا يمكن أن يفرض معدوماً، أو إنه الذي إذا فرض بخلاف ما هو عليه كان محالاً. فقد أخذوا الممكن تارة في حده، والمحال أخرى. وأما الممكن فقد كانوا أخذوا، قبل، في حده إما الضروري وإما المحال .ثم المحال، إذا ارادوا أن يحدوه، أخذوا في حده إما الضروري بأن يقولوا : إن المحال هو ضروري العدم؛ وإما الممكن بأن يقولوا: إنه الذي لا يمكن أن يوجد؛ أو لفظاً آخر يذهب مذهب هذين.
وكذلك ما يقال من أن الممتنع هو الذي لا يمكن أن يكون، أو هو الذي لا يجب أن يكون. والواجب هو الذي هو ممتنع ومحال أن لا يكون، أو ليس بممكن أن لا يكون . والممكن هوالذي ليس يمتنع أن يكون أو لا يكون، أو الذي ليس بواجب أن يكون أو لا يكون. وهذا كله كما تراه دور ظاهر. وأما الكشف الحال في ذلك فقد مر لك في أنولوطيقا.
على أن أولى هذه الثلاثة في ان يتصور أولاً، هو الواجب. وذلك لأن الواجب يدل على تأكد الوجود، والوجود أعرف من العدم، لأن الوجود يعرف بذاته، والعدم يعرف، بوجه ما من الوجوه، بالوجود . ومن تفهمنا هذه الأشياء يتضح لك بطلان قول من يقول : إن المعدوم يعاد لأنه أول شيء مخبر عنه بالوجود. وذلك أن المعدوم إذا أعيد يجب أن يكون بينه وبين ما هو مثله، لو وجد بدله، فرق. فإن كان مثله إنما ليس هو لأنه ليس الذي كان عدم، وفي حال العدم كان هذا غير ذلك، فقد صار المعدوم موجوداً على النحو الذي أومأنا إليه فيما سلف آنفاً.
وعلى أن المعدوم إذا أعيد احتيج أن تعاد جميع الخواص التي كان بها هو ما هو. ومن خواصه وقته، وإذا أعيد وقته كان المعدوم غير معاد، لأن المعاد هو الذي يوجد في وقت ثان . فإن كان المعدوم تجوز إعادته وإعادة جملة المعلومات التي كانت معه، والوقت إما شيء له حقيقة وجود قد عدم، أو موافقة موجود لعرض من الأعراض، على ما عرف من مذاهبهم، جاز أن يعود الوقت والأحوال، فلا يكون وقت ووقت، فلا يكون يعود. على أن العقل يدفع هذا دفعاً لا يحتاج فيه إلى بيان، وكل ما يقال فيه فهو خروج عن طريق التعليم.
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |