الساعة الخامسة والنصف صباحا، ها أنا أخرج من البيت في جولة صباحية جميلة بعد شبه توقف منذ يوم الخميس الماضي، صباح الخميس خرجت بجولة في شوارع رام الله مبكرا وعدت لصومعتي، كنت أنتظر وصول ابنتي الوحيدة من الشتات إلى الوطن، فأنا لا أراها إلا مرة واحدة كل عام، وصلتني عصر الخميس بعد معاناة وتعب، فإجراءات العبور مرهقة وصعبة وتزداد صعوبة في الصيف، كان لقاء حارا وخصوصا أنها المرة الأولى التي تزورني فيها بعد أن تزوجت، شكت من مرارة البعد وتعب الطريق، فقلت لها وكيف بمعاناة أهلنا العالقين على معبر رفح ؟؟ وكيف بمعاناة أهلنا الذين يتعرضون للذبح في العراق فسكنوا مخيمات في الصحراء بعد أن ضاقت بلاد العرب عن استيعابهم، فكلهم يحملون وثيقة اللعنة "وثيقة لاجئ فلسطيني"، فحرمت عليهم الأرض العربية أينما توجهوا، فلا مكان لهم إلا المقابر ومخيمات الصحارى بين الحدود العربية، في الوقت الذي تفتح فيه حكومات العرب ذراعيها لكل من أعمل سيفه في الجسد العربي وفي الروح العربية.
كنت قد اتصلت بسيدة فاضلة لديها شقق مفروشة لأستقبل الأسرة، أتأجر عندها عادة كلما زارني فرد من أسرتي، فصومعتي لا تستوعب زوارا وليست مجهزة لجو أسرة، وحين حل الموعد قالت لي السيدة الفاضلة أنها جهزت لي مفاجئة جميلة، فقلت لها بالتأكيد بيت "العقد" الذي حدثتني عنه سابقا، فضحكت وقالت أنت لا تنسى أبدا..
ذهبت وابنتي للبيت لترتاح قليلا بعد هذه الرحلة المتعبة، التي امتدت ما يزيد عن عشر ساعات في حرارة الأغوار في أخفض بقعة على الكرة الأرضية، وجلست أتأمل جمالية البيت الذي كان أشبه بمتحف، فهو بناء قديم جرى ترميمه وتجديده بشكل فني، كان السقف كعادة بيوت "العقد" على شكل قبة من الداخل، لكن جرت عملية إزالة للقشرة المعتادة التي يعبئون بها السقف، فبرزت الحجارة بشكل جميل يبعث الرغبة على التأمل، الجدران كالعادة يصل سمكها إلى متر أو يزيد قليلا، النوافذ على شكل أقواس إضافة إلى الأقواس الداخلية، وهي التي كانت تستخدم كخوابي لحفظ الزيت والحبوب، أو لترتيب الفراش فيها، لكن جرت عملية تطوير باستخدامها كإطارات علقت بداخلها أثواب فلسطينية مطرزة، فأعادت للذاكرة الجدات وهن يتباهين بأثوابهن المطرزة باليد، بنقشات جميلة ومميزة تمثل لوحات جمالية، فقد كان لكل نقشة اسم ولكل منطقة في الوطن أثوابها، فتذكرت جدتي رحمها الله التي كانت تتباهى بأثوابها الكثيرة وتطريزها المميز، وعلى الجدران استبدلت "لمبات الجاز" بإضاءة كهربائية على شكل "لمبات الجاز"، ويمكن التحكم بارتفاع وانخفاض درجات النور، كما كنا نتحكم بفتيلة "اللمبات" القديمة قبل أن نعرف الكهرباء، ووضعت في الزوايا بعض من أدوات الماضي كصواني القش وسكة محراث، كان الأثاث أيضا من الطراز القديم مع شجرة عنب تغطي الساحة الصغيرة في مدخل البيت، مما أعادني للكثير من الذكريات عبر سنوات عمري، ولعل أهمها ذكرى بيت عمي الشيخ الذي كان بيت "عقد" على نفس النمط في قريتنا الصغيرة "جيوس"، وبيوت "بيتونيا" التي دخلت العشرات منها في طفولتي، فبقيت صورها وجماليتها في الذاكرة، بيوت حجرية صلبة تقاوم عوامل الزمن باردة صيفا دافئة شتاءا، ونسبة عالية من هذه البيوت جرى هدمها في الكثير من المناطق، وجرى استبدالها بالعلب الإسمنتية التي لا طعم ولا نكهة ولا جمال لها.
يوم الأحد حضرت زوجتي والتي لا أراها إلا مرتين في العام، فأكملت إجازتي محاولا أن أقضي أكبر وقت معها ومع ابنتي، لعلنا نعوض بعض من الغياب الطويل الذي يحكم حياتنا، بحكم الشتات الفلسطيني وبحكم الاحتلال الجاثم فوق صدورنا.
أجول شوارع رام الله لأجد أن بلدية المدينة قد زرعت الشوارع سلال للقمامة، صممت بشكلين جميلين والأجمل فيها هو من الخشب المقصوص كأسيجة الحدائق، ولا يتبقى إلا أن يهتم المواطن بنظافة البلدة، فلا يعود لإلقاء القمامة والمحارم الورقية وأكواب الشاي والقهوة وعلب المشروبات الغازية كيفما اتفق، فالمدينة النظيفة تعبر عن مواطن نظيف، وقد طالبت وغيري أيضا في العشرات من المرات البلدية إلى المسارعة بإعادة هذه السلال بعد أن تكفل الزمن والاحتلال باختفائها من شوارعنا، فأشعر بالراحة لوجودها متمنيا من المواطنين الاهتمام بالنظافة، وأستغرب كيف يسمح إنسان لنفسه أن يلقي قمامته كيفما اتفق في الشارع أو من نافذة سيارته، فمتى ندرك أن الشوارع ملكية عامة وليست ملكية خاصة، وليس من حق أحد أن يسيء لحصة غيره في هذه الملكية المشتركة.
أصل لصومعتي التي اشتقتها بعد هذا الغياب، أراجع بريدي بنظرة سريعة لأجد العشرات من الرسائل التي تحتاج مراجعة وردود، لكن لا أظن أن الوقت سيكون لصالحي، فأقرر أن أكتب وأن أترك البريد لمعالجته في الأيام القادمة وبعد انتهاء إجازتي الأسرية.
أستمع للأخبار وأقرأ صحف اليوم واليومين الماضيين فقد كنت قد قررت الابتعاد عن الأخبار في الأيام الماضية، لكن بدون جدوى فها أنا أعود للقراءة والمتابعة، أعود ليتجدد شعوري بالقرف من الوضع الحالي ومن الفزع من المستقبل، فهناك رئيس وحكومة أقالها الرئيس في غزة وترفض الإقالة، وحكومة طوارئ في الضفة ترفضها حكومة غزة المقالة، وقرارات تصدر هنا ترفض هناك وقرارات تصدر هناك ترفض هنا، واعتقالات في صفوف الطرفين وتفاجئنا الأخبار عن تصفيات دموية في غزة، كما أفادت أكثر من جهة تتابع حقوق الإنسان والمواطن، واعتقالات في الضفة لمواجهة الآخر وفي نفس الوقت لم تتوقف قوات الاحتلال عن عمليات الدهم والاعتقال في أنحاء الضفة، وعن عمليات التصفية والاغتيالات في غزة والضفة، فالقوتين الكبيرتين تفرغتا لبعضهما والصراع على حبة الفول التي نخرها السوس كما عبر عنها صديقي الكاتب سامح عودة، وتفرغ الاحتلال لاجتثاث الطرفين والأطراف الأخرى، فهل لهم من فرصة ذهبية مثل هذه الفرصة ؟؟
أخشى ما أخشاه أن نكرس انقساما غير مسبوق في الوطن، فنعيد تجربة بنغلادش وباكستان، ونصبح في محميتين في الضفة وغزة، ونترك للاحتلال فرصة فرض الحل النهائي كما يراه "كانتونات" منفصلة وممزقة، فهذا الصراع الفصائلي المقيت الذي أودى بأرواح المئات من أبناء شعبنا، وتسبب بكل هذا الدمار والتشتت، قد أخر أهدافنا الوطنية سنوات طوال وزاد في الفرقة والهجرة من الوطن.
أقف لنافذتي متأملا أثار دخول قوات الاحتلال لبناية قريبة في الثالثة من صباح اليوم، أسقي حوض النعناع وأحواض الزهور بالماء، أتفقد الحمامة التي وضعت بيضها على نافذتي، فأجد البيض قد فقس عن زغاليل صغيرة، أتأملها بفرح طفولي وأمها تنظر لي بدون خوف فقد ألفتني بشكل جيد.
أحتسي كوبا الشاي الأخضر بالنعناع وطيفي تحيطني أنفاسه وكأنه بجانبي كما شعرت به في جولتي المبكرة، نستمع لفيروز تشدو لنا...
كان يا ما كان في بنت وصبي يقلها بعمرلك قصر تا تلعبي
وطار الزمان وبعد في كومة أحجار تصرخ يا أيام الصغر لا تهربي
وطليت على حيهن بعد غيبة سني لقيت الدني متغيره بهاك الدني
مثل الغريب مرقت قدام الأبواب وما حدا منهن سألني شو بني
وها هو الصراع حطم القصر الذي وعدونا به وتغيرت الدنيا، فأصبحنا غرباء الدار والمقام بعيدين عن حلم الحرية والتحرر، مصلوبين على صليب من عار ملوث بالدم المسفوح.
فصباحكم أجمل.
زياد جيوسي
رام الله المحتلة 1172007