ملوخية وأربع فتيات جميلات
خاص ألف
2012-04-05
ملاحظة1: بعض المعلومات التاريخية الواردة في المقال لا أساس لها من الصحة.
ملاحظة2: كثيرة هي المعاني التي لا تحترم حدود الكلمات.
تعرفت إلى "الرز" منذ عدة سنواتٍ خلت، وبالطبع فقد تكررت لقاءاتنا، خاصةً حين كنت أتحلق مع أفراد الأسرة حول طاولة الغداء، وقد توسطها وعاءٌ مذهلٌ من الرز. ولكي أصدُق معكم القول فإن تلك العلاقة مع "الرز" لم تكن على قدرٍ كبيرٍ من العمق، إذ أن كل ما أذكره هو أن "الرز" حبيباتٌ صلبةٌ بيضاء أشتريها من عند (أبو محمود)، أو من عند (محمود) بعد أن توفي (أبو محمود)، ليتحول هذا "الرز" بقدرة قادرٍ، وعلى يدي أمي السحريتين، إلى ذلك الكائن الخرافي ذي المظهر السمني، والقوام اللذيذ الذي اعتدنا على نعته "بالمفلفل" (وهو مرحلةٌ ما بين المرزرز والمخبوص). ويقال أن هذا القوام "المفلفل" يتطلب نَفَساً استثنائياً، ومهارةً منزليةً جبارة، وأولاً وأخيراً لمسة أنثى حقيقية "قلّعت أسنانها" في طبخ الرز، حتى أنه يشكل تحدياً حقيقياً لأي زوجة (خاصة في مجتمعٍ تُختصر فيه شخصية المرأة في صحنٍ من الرز).
أما عن المراحل الدقيقة والمصيرية التي يمر بها هذا "الرز" إلى أن يستلقي في طبق التقديم، أو في جوف المحشي، استعداداً للاستقرار في معدتي فقد بقيت مجهولة (بالنسبة لي على الأقل) وذلك لأسبابٍ منها: انعدام الفضول المعرفي لكشف الأسرار المحيطة بطبخ الرز، إضافة إلى طبيعة تفكيري الضحل والمحدود جداً في الشؤون المطبخية، وعوزي الشديد إلى ما يسمى بالنَفَس ...
وبما أن دوام الحال من المحال فقد اضطررت إلى السفر لأجدني بعيداً عن الوطن، وأرض الوطن، وسماء الوطن، وأبناء الوطن ... و"الرز المفلفل" الذي كنت أستمتع بمذاقه حين كنت في الوطن. وفي أحضان الغربة، وبعد بضع سنواتٍ ونيّف قضيتها في تناول "التونة" و"البيض المقلي" اتخذت قراراً شجاعاً و"سيادياً" بإعداد صحن "رز" (متل ما بيقولوا يعني اشتهيت آكل رز)، خاصة بعد عدة أحلامٍ تصورني وأنا ألتهم "ملوخية برز" مع "أربع" فتيات جميلات ... تحت شجرة تين!
والملوخية نبات أخضر اللون من فصيلة الخبازيات، كان مستخدماً كطعام منذ عصر "الفراعنة القدامى" في مصر القديمة، وهم قومٌ عاشوا واندثروا في وقتٍ ما قبل ميلاد السيد المسيح، ولا يمتّون بصلة إلى "الفراعنة الجدد" الذين ينتشرون على امتداد الوطن العربي الذي ما زال، بالمناسبة، يستخدم الملوخية كطعامٍ حتى يومنا هذا. وتسمى الملوخية في بريطانيا بخبيزة اليهود، وهي غنية بفيتامين أ، وللأخير فوائد جمة في تحسين القدرة البصرية مما قد يساعدني على الأرجح في التحديق بالفتيات الجميلات. وفي أصل التسمية، يقال أن الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله قد منع أكل الملوخية على الطبقات الفقيرة فسميت من حينها بالملوكية، التي حرفت بقدرة قادر فيما بعد إلى ملوخية.
وفي سبيل طبخ الرز وتحقيق الحلم، أخذت إجازةً مفتوحةً وبلا راتبٍ من عملي الذي كان يؤمن لي رزقاً متواضعاً، وقرأت حتى التخمة عن "تاريخ" الرز منذ الجاهلية حتى العصور الوسطى. فاكتشفت إشاراتٍ إلى "الرز" في شعر الأعشى، وتأبط شراً، واستنتجتُ بأن العرب كانوا أول من طبخ "الرز" بقوامه المفلفل، وعنهم أخذته أوروبة في عصر ما قبل النهضة عن طريق فلاحةٍ أندلسيةٍ وقعت في أسر فرديناند أمير الفرنجة! حيث افتدت تلك الفلاحة حينها ألف فارسٍ أندلسيٍ بوصفة "رز مفلفل" سرية، وكان من بين هؤلاء الأسرى المحررين زوجها "المؤمن" الذي ما كان منه إلا أن قتلها بسيفٍ شرقيٍ وجاهليٍ أصيل ليتخلص من عار وقوعها في أسر الفرنجة "الكفار" ... على كل الأحوال فقد تعرفتْ أوروبة منذ تلك اللحظة (لحظة الفداء أو لحظة الذبح، ربما لا فرق) على "الرز" الأندلسي لتُطورَهُ فيما بعد إلى "الرز" المعروف في أيامنا.
سطرتُ هذه المعلومات، باستثناء قصة الفارس الأندلسي طبعاً، وذلك حفظاً على السمعة العطرة، وإيماناً بتنقية تاريخنا من الشوائب، وعلى مبدأ النعامة ودس الرأس في التراب ... ما يهمنا هو أني سطّرتُ هذه المعلومات على ورقٍ أصفر لأتأبط ملف "الرز العربي" وأنطلق في رحلةٍ طويلةٍ أزور فيها حركات "التحرر واللاتحرر" التي يعج بها هذا العالم. وفي كل بلدٍ "أجنبي" أحلُ فيه كنت أعرض، على جمهور المثقفين، أوراقي الصفراء لأشرح لهم بحماسةٍ دور العرب الرائد في اكتشاف الرز وبلغة "عربية" صرفةٍ وجزلةٍ وغنيةٍ بالتعابير القحطانية مع نكهة عدنانية.
وبعد سنواتٍ طوال، طوفتُ فيها بلدان الكرة الأرضية، وسمعتُ فيها الكثير من التصفيق، ازدادت رغبتي في طبخ الرز، فعدت أدراجي إلى غربتي وارتأيت لكي أضمن "رزاً مفلفلاً" أخذ قسطٍ "وافرٍ جداً" من الراحة، وذلك على مبدأ حفظ الطاقة، فبتُّ أقضي نهاري نائماً، أو مغمض العينين، أو مجمد الفكر والدماغ، أو في حالةٍ من أحلام اليقظة التي أرى نفسي فيها وأنا أصافح الأمل، وأعانق السعادة، وأبوس العزة، وأجالس الكرامة، وأحتسي كوباً من الشاي مع العدالة، وأتبادل النكات (والشتائم على سبيل المزاح) مع الحرية. أما ليلي فقد كنت أمضيه في كتابة قصائد في مديح الرز، تبدأ بوقوفٍ استهلاليٍ على الأطلال، وبكاءٍ مرٍ على أشفار جمل المحبوبة، مع ذكرٍ واضحٍ لبنت الجيران طبعاً، على مبدأ الإسقاط على الواقع. كما قمت بالإضافة إلى ذلك بتلحين أغانٍ حماسية مؤثرة تشحذ الهمة وتقويها على غرار "بوس الواوا" و"العنب العنب العنب". وبعد سنواتٍ من الراحة المطلقة، أصبحت أخشى ضوء الشمس، وزهور الربيع، فقد اعتادت عيوني على الظلمة، والضباب، واعتاد أنفي على رائحة الأقبية، والعفن، والصديد. ومن جانبٍ آخر فقد تم بعون الله تأليف مئة ديوانٍ من الشعر (طبع منها ثلاثة، ولم يقرأها سوى من كتبها، وخطيبة أحدهم على مبدأ "جاملي خطيبَكِ")، ومئة ألف كليبٍ حماسي راقص (صورت كلها، وشوهدت كلها، وعلى كل الفضائيات العربية). المهم أنه بعد كل هذه التغييرات في البصر، والشم، والشعر، والرقص، كانت أولى محاولاتي الجدية، والحقيقية، في طبخ الرز!
ولكن ولسوء الحظ فقد تبين بأن النتيجة كانت تتمتع –كالسياسة الدولية- بازدواجيةٍ مرعبةٍ في القوام: بعض حبات الرز مرزرزة، وبعضها مخبوصة ... والملاحظ أن محاولتي خلت من أي حبة رز مفلفلة!
في هذه الأثناء تم رفدي من العمل، وطردي من منزلي لعدم دفع مستحقات الإيجار، كما بيعت أملاكي في المزاد العلني (بضعة كتب ومخطوطات قديمة، وزوج من الجوارب البنفسجية). وقد صرحت في مؤتمرٍ صحفيٍ شاملٍ عقدته بعد أن تم زجي في السجن، بأني علقت على جدران زنزانتي لوحةً رائعةً "لسمكة تونة فتية"، وأخرى "لبيضةٍ مقليةٍ شقراء" عرفاناً وتقديراً مني لجهودهم الجبارة (سمك التونة والبيض المقلي) في إبقائي على قيد الحياة.
وبما أن "الرز المفلفل"، حتى بدون ملوخية، وبدون أربع فتيات جميلات، وبدون شجرة تين، حلمٌ جميلٌ ولذيذ، فقد آثرت أن أعلق أيضاُ لوحةً "لمنسف رز" إلى جانب عدة لوحاتٍ قديمةٍ، وعتيقةٍ، وتراثية (ورثتها عن أبي، ومن قبله، عن جدي) "يقال" أنها تمثل قصر الحمراء، وقبة الصخرة، وبغداد ... وما شاكلها ... وكلّي خشيةٌ، وتوجسٌ، وخيفةٌ من أن يأتي يومٌ أليمٌ أعلق فيه لوحةً لوطنٍ حبيبٍ اسمه "سورية". ودمتم.
08-أيار-2021
22-نيسان-2017 | |
25-كانون الأول-2013 | |
10-آب-2013 | |
29-حزيران-2013 | |
16-نيسان-2013 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |