الدولة الأغلبية / محمد الطالبي – ترجمة المنجي الصيادي
خاص ألف
2012-04-07
لا شك أن ابن خلدون استحضر ذهنيا مصير الأغالبة و تمثل به خاصة، عند تأمله في معنى التأريخ و تصنيف فلسفته. فهذا المصير يعتبر أحسن شرح للمثلث التعليلي الذي أحكم وضعه، و للرسم الدوري في ثلاث مراحل الذي ظن أنه اكتشفه في نسق نمو المجتمعات و الدول، و هو رسم خصص لاستعراض ولادة الدول و الحضارات المرتبطة بها و ازدهارها ثم ذبولها و موتها.
فقد كان قيام الدولة الأغلبية من صنع عزيمة مرنة، لكنها راسخة، في خدمة عقل عبقري عرف كيف يدرك و يزن و يقرر اتجاه قوى ذلك الظرف لإحكام السيطرة عليها و توجيهها. و هو ثمرة لقاء بين رجل فريد و ظرف خاص. فنشأت عن الخضم أول دولة مشتقلة ، عربية إسلامية غير منشقة في إفريقية. و مرت في المرحلة الأولى من حياتها التي دامت قرنا و زيادة بطور النمو و التوطيد. إذ تعين عليها التغلب على مصاعب ضخمة. و وجب أن تتمرن البلاد و التي استهوتها. و ما زالت سلطة الأمير غير ثابتة، و ما زالت الأحقاد القبلية حية، و قد أبدى الفقهاء مناوءتهم للنظام الجديد فناصبوه العداء، و قد فرض الحمية على الأطماع الجشعة النافرة. و في المستطاع تأخير موعد المواجهة الكبرى بقوة الحزم و المرونة السياسية. و قد تم الأمر على ذلك النحو. لكن لم يمكن تجنبها إلا بعسر. فعصفت يوما الريح من ناحية الجند المحرومين المبعدين عن لعبة الشهوات و الحرب الدامية، لما طفحت الكأس من الجانبين. إلا أن العرش لم تحمله العاصفة مرة واحدة برياحها العاتية، الكثيرة التحول، فلم تنفخ بما يكفي من القوة و الاستمرار في نفس الاتجاه، فخرج العرش في النهاية و قد رسخت أقدامه المحنة. و لم يقض طور أزمة المراهقة التي مرت بها الدولة الفتية عليها.
بل خرجت منها واثقة من قواها وثوقا كافيا لبدء مرحلة عهد الازدهار و النضج بعمل اتّصف بالإقدام و الشجاعة. فافتتحت سياسة العظمة و التوسع فيما وراء البحار. و بينما توقف الإسلام أو تأخر شرقي القيروان و غربيها، فقد دفع تحت راية الأغالبة بشوكاته المظفرة الأخيرة في شكلها العربي في قلب البحر المتوسط. و بذلك بث أمراء القيروان بيصورة جدية الذعر في ملوك بيزنطة و الملوك الكارولنجيين، و فتحوا الطريق أمام الأساطيل الإسلامية للسيطرة على البحر المتوسط. و قد سالمت الدولة مذهب السنة في الداخل. و رضي أسد بن الفرات تالعظيم بقيادة جيوشه إلأى الجهاد، و قدم للفقه بالقيروان معلما من أحسن معالمه هو " الأسدية". لكن الإشعاع الثقافي بعاصمة الأغالبة لم يشهد أكبر امتداد له إلا في عهد سحنون، مؤلف المدونة و المؤسس الحقيقي للمذهب المالكي في المغرب. و قد أقبل على دروسه الطلاب من جميع أنحاء الأندلس، و بفضل ما كان له من صيت، صارت القيروان من ألمع المراكز الثقافية في العالم الإسلامي.و امتلأت كتب الطبقات بالتراجم التي أطنبت في إطراء علماء الفقه بإفريقية في ذلك العصر الزاهر. و قد وهبهم الأمراء أحسن درة للفن في المغرب كله أي جامع القيروان، لممارسة نشاطهم به. فاكتسى وجه إفريقية خلال هذه الفترة الممتازة للنضج السياسي و الفكري و الفني، مميزاته النهائية التي تقبلها الاختلاف منذئذ. و سمحت ندرة القلاقل و قلة خطورتها ببعث الحياة الاقتصادية أيضا. و قد عمر الأمراء البلاد بمنشآت مائية، خاصة منهم أبو إبراهيم أحمد. فتلا الرخاء هذا الإنجاز، و بلغ الذروة في عهد ابن الدولة الضال محمد الثاني أبي الغرانيق، و قد ارتبطت في ذكراه الأذهان مدة طويلة بعدم الاكتراث، و كان قدوة في العيش الهنيئ اليسير. و ذكر أن أيامه رويت بالحنين إلى بلاد وفيرة الخيرات.
و في عهد إبراهيم الثاني، بلغت الدولة قمة المجد و العظمة. و من الصعب البقاء بصورة متوازنة على القمة إن لم تكشف قمم أخرى ينبغي تسلقها، و إن لم تتجدد القوى في الجهد الضروري للقيام بفتوحات جديدة. و قد اضطرب بصر إبراهيم الثاني، فلم يقدر على النظر و التمييز. فهوت الدولة معه في هاوية الاستبداد و الجنون. فبذر إبراهيم الثاني سريعا رصيد المودة الذي تجمع في البلاد خلال الفترة السابقة، رغم الانطلاق الطيب الذي فتح به حكمه. ثم ما فتئ أن ساء الرعب في البلاد. فتحولت عند ذلك ريح الأمل عن وجهتها، و بدأت تنفخ من جبال كتامة. و لم يمر الزمن إلا في ترقب ميزان سنة 290 و كان على هذا الميزان أن يزن الأعمال و يعطي كل ذي حق حقه. و اتجهت الأنظار منذئذ إلى المغرب، تترقب طلوع شمس الله. و تزايد الخوف في كل مكان، و في بغداد كذلك.
فغادر الطاغية المتعطش للمطلق أرض إفريقية، في رجفة أخيرة من الوضوح و طلبا للعظمة، قاصدا أرضا أخرى لها نفس الحزم، لكنها كانت أكثر نزاهة و أحسن ثباتا. فهل كان ذلك هو الخلاص؟. و هل أن تحويل المقود في الوقت المناسب و في الاتجاه الطيب سيصحح الوضع و ينقذ الدولة من الموت و يعيد إحياءها؟. كلا. لقد كان بإمكان القائد الكفء قيادة السفينة خارج منطقة العواصف، لكن قضت عليه يد قاتل أبيه. فمن صدق ذلك؟. إنه تحدي التأريخ. و ما أهمه من حدث! فلو أن زيادة الله الثالث لم يقتل أباه عبدالله الثاني، لتغيلا بلا شك سير تأريخ الإسلام بأكمله، و لربما غاير نسبيا ما كان عليه. و أنف كليوبطرة، لو كان أقصر، لتغير وجه الأرض. و قد هم كرموال بغزو المسيحية جمعاء، لكن حبة رمل صغيرة خرقت حالبه...
لقد أراد القدر أو الصدفة إذن أن تضيع الفرصة الكفيلة بإنقاذها و توجيهها في الطريق الشاقة للانبعاث. غير أن مثل هذه الفرص لا تتوفر مرتين. فقد كانت إفريقية عبارة عن سفينة تائهة بالمعنى الصحيح، في عهد زيادة الله الثالث، فقضي عليها منذئذ أن تتيه رغما عنها، محاطة بضبابات البلاط الخمرية، و يأس الرعايا، حتى حل الموعد المكتوب بالأربس حيث ترقبها القدر، و قد امتلأت خزائن الدولة بالذهب، و قدرت على العطاء بلا حساب، و كانت إمارة غنية في رخاء، و زرعت جيوش العرش الرعب و الخوف على ساحات القتال في بلاد ما وراء اغلبحار، سيمحى كل ذلك في انتفاضة، بمشيئة أهل الجبال الغلاظ المحرومين من كل شيء... إلا من الإيمان... فكيف يمكن تعليل ذلك؟ لم يكن مؤرخو الدولة يدركون ذلك الأمر. هل إنها خيانة؟ أجاب على ذلك ابن الأثير بالإيجاب، فقال إن كل وزراء زيادة الله من الشيعة. و قد استحسنوا انتصار أبي عبدالله الداعي ( 1). فليكن!. من الأكيد أن أعوان الشيعة السريين دواوين القيروان، كما فعلوا بدواوين بغداد في نفس الفترة لا محالة. لكن إذا وقعت خيانة الأغالبة، فذلك لأنهم صاروا عرضة للتهجم، و عرضة لأن " يخانوا". فليس ذلك بالتعليل الحقيقي. و يمكن افشارة أيضا إلى نجاعة خيالة كتامة بالجبال و مهارة الداعي على وجه الخصوص. لكن نتجت نجاعة خيالة كتامة و دعاية الداعي خاصة عن ضحالة خصومهم و فجورهم.
و الواقع أن الدولة الأغلبية قتلتها أزمة في الرجال و اليأس. لقد ذل زيادة الله الثالث و أذل الدولة في شخصه. فنفر الناس، و بذلك ، رفضت البلاد المتشعبة تشعبا عميقا بمذهب السنة، القتال، و بلغ بها الأمر أن تمنت سرا تطهير رقادة ( كما حصل في اسطبلات الملك الأسطوري اليوناني أوجياص ) مهما كلف الثمن، و لو عن طريق موجات المذهب الشيعي الملَّوثة، خاصة و أن هذا المذهب عرف كيف يكتسي الأشكال الأكثر اعتدالا و الأثقل أذى، و أن يتقدم بالخصوص حاملا بيده مفتاح مملكة الله المليئة شمسا و عدلا و إنصافا للجميع.
كلا! لم يطرد الأغالبة بقوة السلاح. بل طردوا بالإيمان و الأمل الذي لا يقاوم في عالم أحسن. فقد خاب باستمرار هذا الإيمان و هذا الأمل، و تجدد دوما و أبدا، وز هو معنى التأريخ، و بحر الأحلام العنيدة التي تبحر عليها البشرية متجهة إلى مصيرها.
لأن التأريخ، مهما قال R. Sedillot ( 2 ) هو مجموع و نتيجة الرغبات العميقة – الواعية أو الغامضة، لا يهم ذلك – لأفراد عاقلين، و له معنى الأمل أو توق تلك الكائنات في عالم عدل و سعادة مطابق لشعور فطري – و لو أن كثيرا من الغرائز الأخرى معاكسة له – بالمساواة ، و احترام الفرد البشري و الأخلاق. و الإنسان حيوان أخلاقي، و لو سار على نهج مناف للأخلاق أو راوغ ضميره. و قد برهن التأريخ، بما في ذلك ما روينا، بصورة واضحة، أن الطريق إلى أحسن العوالم، هو موضوع لكل الآمال، و هي مزروعة بالعقبات و الارتدادات و الانحلاافات و الأكاذيب و الاغتصابات و الأخطاء و الفظائع.
و قد بدت طريق الأغالبة مسدودة في جملتها. و كان يبدو أنها لن تقود إلا إلى الضلالة. فسار رعاياهم في سبيل آخر، قادهم إلى بصيص جديد من ألأمل، فظنوا أنه ضياء شمس الله أخيرا. و من المعلوم أن هذه الطريق الجديدة لن تكون لا أحسن و لا أسوأ، و المعلوم أيضا أن خيبات و مشاق البشرية لن تنتهي. لكن طريق التأريخ تبقى دائما مفتوحة، و طريق الأمل أيضا.
و لعل دروس الماضي تساعدنا على تحسين اختيار مراحلنا و تحسين سير خطانا.
هوامش المؤلف :
1 – الكامل : ج 6، 128 .
2 – L Historire na pas de sens باريس 1065 . لم يوفق R. Sedillot في الواقع إلا في التدليل على أن الذين فكروا في معنى التأريخ، مذ وجد الإنسان و بدأ يفكر، لم يتفقوا – و هذا أمر عادي – و أن طريق الماضي ليست مستقيمة و لم تكن بغير منعرجات، و هذا أمر طبيعي. و لنسجل لا محالة درس التواضع الذي قدمه لنا هذا الكتاب، و الإنذار الذي تضمنه بشأن استخدام مبدأ معنى التاريخ لغتايات بعيدة عن النزاهة العلمية. و انظر بخصوص هذه القضية:
R. Aron, Dimensions de la Conscience historique, L Homme et Histoire 1952, et l Histoire et ses interpretations.entretien autour d A. Tonybee, sous la direction de R. Aron, Paris. 1961 .
من كتاب الدولة الأغلبية : التاريخ السياسي. تأليف محمد الطالبي – تعريب المنجي الصيادي. مراجعة حمادي الساحلي. منشورات دار الغرب الإسلامي. 1995 .
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |