تشكل الانقسامات داخل صفوف النظام أبرز سمة لكل حالات اعتلاله. مثل هذه الانقسامات هامة في سيرورة اعتلال النظام لأنها تحدث " تضيقا " فيه، و من ثم تفقده قوى الدعم بسبب تولد و نشوء صراع داخلي لم يقدر على تحمله أو حلّه، و سيطرة حالة من الركود شاملة لكل وظائفه. الانقسامات هامة أيضا في سياق بناء عملية التحول التالية. الحالات الوحيدة التي لا تشكل فيها الانقسامات أداة وسبيلا للاعتلال هي عندما يزاح النظام عن السلطة بالقوة العسكرية، لكن و حتى في هذه الحالات تضعف عزيمته، غالبا و بشكل حاسم، الانشقاقات الداخلية. إن القضية المفتاحية هنا هي مصدر أو أصل تفكك وحدة النظام.. و على الرغم من أن التفاصيل الدقيقة سوف تختلف من حالة لأخرى، لكن يمكن تحديد عناصر عامة مشتركة.
تشكل البنية المؤسسية للنظام أحد المصادر القوية لتفكك وحدته. ففي تلك الأنظمة التي لا تتميز بوجود ديكتاتور أو قائد بارز يحكمها يكون الحكم غالبا بأيدي مجموعة من الناس ممثلة على الأقل لبنى مؤسسية مختلفة في المجتمع. كما توجد بالمناسبة بنى مؤسسية مختلفة أيضا في إدارة الحكم بشكل فعال الحزب و أقسام من ماكينة الدولة. و خير مثال على ذلك دول الأحزاب الشيوعية. كما ضمت الأنظمة العسكرية بعض المدنيين، و إن كانت نماذجها قد تباينت في مدى و أهمية هذه المشاركة. و في بعض الحالات، كما في نظامي بيرون و فرانكو في الأرجنتين و إسبانيا، ضم الائتلاف أعضاء حزبيين و عسكريين و ممثلين لأقسام الماكينة الحكومية، و في حالة إسبانيا دخل في الائتلاف أيضا أعضاء من حزب ( أوبوس ده ) اليميني المتطرف. و في حالات أخرى تحالف أحيانا تكنوقراط من الماكينة الحكومية ( و من كبار رجال الأعمال أيضا ) مع عسكريين و جرى تقاسم المناصب الرفيعة بين الفريقين. تتميز بهذا النوع من التسوية الأنظمة السلطوية البيروقراطية، و مثال ذلك نظام الحكم في البرازيل عام 1974 و نظام " المجلس العسكري – التكنوقراطي " في الأوروغواي برئاسة ( جيليسبي ) في الثمانينات.
و حتى في تلك الأنظمة العسكرية التي يلعب فيها المدنيون دورا ثانويا كانت الانقسامات المؤسسية ملحوظة. فكان الانقسام بين العسكرتاريا كحكومة ( الذين تحركهم اعتبارات استمرارية النظام و نجاحه) و بين العسكرتاريا كمؤسسة ( الذين تحركهم الاعتبارات المصلحية لفريق الجيش أو القوات المسلحة عموما ) حالة هامة قائمة أيضا في بعض النماذج، بما في ذلك تشيلي في ظل الجنرال بينوشيت في الثمانينات. كما لوحظت تمايزات بين الأقسام المختلفة للمؤسسة العسكرية ( قوات برية، قوات بحرية، و قوات خاصة ) كما في اليونان، أو بين الجيش و الأجهزة الأمنية كما في فنزويلا في منتصف الخمسينات. أخيرا حصل أن كانت التكتلات الفردية، في كثير من الحالات، سببا في تفكك وحدة النظام، و تركزت التكتلات أحيانا حول شخصيات أو حول مجموعة مصالح من نوع ما. لكن أيا تكن خطوط الشقاق القائم فإن البحث عن المنفعة و من أجل حماية مصالح الفريق أو المؤسسة و من أجل الصلاحيات و الامتيازات سيكون دوما المصدر القوي للانشقاق و الصراع. و كان انقلاب نيسان 1974 في البرتغال الذي قاده ضباط رتب صغيرة و وسطى ضد الحكومة المدنية المدعومة من قبل كبار الضباط مثالا معبرا عن هذه الحالة.
الجهازان العسكري و الأمني هامان بوجه خاص عندما يكون النظام مدنيا بطبيعته بالدرجة الأولى. النظام السلطوي المدني يرى لزاما عليه اتخاذ احتياطات عناية خاصة لضمان خضوع جهازي الجيش و الأمن. في الدولة التي يحكمها حزب، و حتى في ظل حكم أتوقراطي تقليدي كما في أثيوبيا في عهد الإمبراطور هيلا سيلاسي، يكون جل اهتمام الحكام ضمان أن تكون عدة القهر المسلحة في الدولة، أو بعض فروعها القوية على الأقل، محيّدة، ذلك أن القيادة الآمرة للقوات المسلحة تشكل تهديدا قويا على استقرار و دوام حكمهم. أما الجهاز العسكري – الأمني من جهته فيكون أميل لطاعة الحكومة لأنها مصدر المال بالنسبة له و أساس بقائه و حماية منزلته الرفيعة.
و هكذا يمكن أن يكون اختلاف المؤسسات و التجاذب الحاصل فيما بينها مصدرا قويا للصراع و الشقاق داخل النظام. لكن يلاحظ مثل ذلك أيضا في تلك الأنظمة التي يهيمن عليها ديكتاتور وحيد بارز. لكن لا يمكن أن يصمد ديكتاتور لوحده. فكل الديكتاتوريين يعتمدون على بعض أشكال البنية المنظمة بشكل ما كالحزب السياسي أو الجيش، أو على حركة اجتماعية ذات تنظيم شكلي، أو على قاعدة من فئات شعبية تابعة و موالية. في حالة وجود ديكتاتور يعتمد على بنية تنظيمية من نوع ما يرجح أن يحصل توتر إذا ما سعى الزعيم لتعزيز و تقوية وضعه و موقعه الشخصي، لكن ذلك يتضمن إضعافا لموقع و أهمية القاعدة التنظيمية الداعمة. كما يمكن أن ينظر إلى ذلك كاعتداء على الصلاحيات المؤسسية القائمة أو بمثابة خطر محتمل عليها. و في مثل هذه الحالة سيزداد اهتمام القاعدة التنظيمية و تركيزها على المحافظة على سلطتها و موقعها و ستسعى في الغالب لمراقبة أي نمو في قوة و سلطة الزعيم. في تشيلي مثلا قام فعليا، و منذ البداية، توتر داخل النظام بين اتجاهات تركيز السلطة كلها بيد بينوشيت مع ترتيبات مؤسسية لتطويق المؤسسة العسكرية، و بدا أن المسألة حسمت أخيرا بموجب دستور عام 1980 الذي عزز السلطة الفردية لبينوشيت و كرس زعامته أكثر من السابق. و في البرتغال لم تكن المشكلة في خوف العسكريين من تعزيز الزعيم لسلطاته على حسابهم، بل في عدم قدرته على الدفاع عن مصالحهم أو تقديرها حق قدرها، و أدى ذلك إلى إلحاق الضرر بمصالح الضباط من ذوي الرتب الوسطى و من ثم إلى تقويض قاعدة النظام.
تصبح المشكلة الخطيرة المحتملة للعلاقة المتبادلة بين القائد الأوحد و المنظمة الداعمة جلية في الغالب في فترات خلافة القيادة، أي تحولها من يد قائد لآخر.
قضية الخلافة لا تدخل الأطماع الشخصية فقط في اللعبة، بل و يمكن أيضا أن تثير منافسة مؤسسية. تبدو هذه المسألة بجلاء عندما يكون الحكم بأيدي مجلس يتألف من ممثلين لأفرع القوات المسلحة. و حتى عندما تكون هناك آلية لتداول القيادة بين قادة المؤسسة العسكرية فإن فترات انتقالها يمكن أن تشهد انقلابا على مثل تلك الترتيبات المتفق عليها للحكم. قام مثال مشابه لمثل هذه القيادة الجماعية بسبب التوتر الناجم عن الطموحات الشخصية و المؤسسية في مرحلة ما بعد تيتو في يوغوسلافيا. و هكذا يمكن لمسألة الخلافة أن تنسف اللعبة السياسية بالكامل و تودي بالبلاد إلى مستنقع صراعات سياسية دورية من أجل تحقيق الأطماع.

من كتاب ديناميّات السيرورة الديمقراطية والمجتمع المدني
- منشورات دار التكوين ، دمشق ، 2009 .