حديثٌ مع قاتلي ... في الطريق إلى دمشق
خاص ألف
2012-05-05
(مهداة إلى طلبة جامعة حلب)
********
لي في جامعة حلب ذكرياتٌ، آخذها معي في حلّي وترحالي، من أيام الدراسة والمعيدية والتدريس. ولكنني الآن، وبقلمٍ وَجِلٍ، أسطّرُ في دفتر مذكراتي ركاماً من الألم والدماء: الخميس الثالث من أيار 2012 - سقط خمسة طلاب بعمر الورد داخل "حرم جامعة حلب"، وتم تهجير طلاب المدينة الجامعية، وتم إيقاف النشاط الجامعي الأكاديمي بكل أشكاله، ليثبت لنا كل هذا كيف أن الاستبداد "يخشى" الكلمة الحرة إن اجتمعت بالمعرفة. ولكن جامعة حلب ستنهض من جديد، بإرادة طلبتها الذين أحببتهم، والذين أرى في أحداقهم ذاك العنفوان وذاك البريق. ستبقى جامعة حلب مركزاً للحراك التنويري، وستمضي إلى الأمام ... هذا هو قدرها ... هذا هو قدرنا ... وهذا هو قدر هذا الوطن. مزيجٌ من الأمل والحزن يخترقني حين أذكر أولئك الطلبة وأقول: كلنا معكم وكلٌ منّا بكم فخور، ولكم يا أيها الطلبة أهدي هذه الكلمات. والرحمة للشهداء، والحرية لنا جميعاً.
********
اقتحم النورُ النافذة الصغيرة، فلعنَ الظلمة، وكتبَ على الجدران أنشودةً، وقطع السلاسل - وتعلّمتُ من ذاك النور نطقَ الحروف ... وعلِمتُ أنكَ قد علِمتَ أني قد تعلّمتُ كيف أنطق! وعلمتُ حينها بأنكَ قاتلي ... فيا قاتلي رويدك!
خذ مني كل الجيوب المرقعة والكلمات، والهواء والصور التي تعبرُ محجر العين الخائفة، وكل عقلٍ بقي في زوايا الجماجم، وكل دمٍ ينبع من الشريان المقطوع ... خذ ريش الطاووس، وأكواب الخمرة، والرداء المطرز ...
خذ كل ذاك ... وهبني دمعاً جديداً لأسكبهُ، وأنا أبوسُ هذا التراب ... للمرة الألف أو أكثر.
هبني دقيقةً من صمتٍ أذكرُ فيها كرزَ بلادي وقد غدا خَجِلاً من الدم! وباديةً واسعةً كعيون فتاةٍ كنت أعشقها، وجبالاً خضراً وسهول.
هبني دقيقة من صخبٍ أصرخ فيها: حرية!
********
هبني تلك الذكرى لرحمٍ ضمنا ونحن نشربُ دمَ الأم المقدس ...
أتذكر؟ ... فقد جئنا "نحن" من ذات الرحم!
ومن ذات الرحم ولدنا لنشم ذات الهواء المقدس، ونأكل ذات القمح المقدس.
لكن كل ذاك لم يشفعْ لي ... فقد ارتكبتُ خطيئة النور! وتعلمتُ نطقَ الحروف!
وعلمتُ حينها بأنكَ قاتلي ...
وها قد أزف الوقت ... فالخنجر المسموم ما عادَ يطيقُ الانتظار!
أعرفُ أنك "قد" تخجل إذا نظرتَ في عينيّ وأنتَ تقتلني، و"قد" يدب الحياء في أوصالكَ وأنت تسفكُ دمي ... لذا اقتلني دون أن تنظر، أو اقتلني في جنح الظلام ... في ليلِ المحاق – فالقتلُ في العتمةِ أسهلْ!
********
قُضِيَ الأمر ...
كنتُ أكذبُ على ذاتي ... وأنا أراك تأخذني إلى المذبح في شهرٍ حرام ...
وهناك غرستَ الخنجر في عنقي ببطءٍ ... وأنت تزغرد!
وطفقتَ تعربد على منظر الدم وهو ينبجس من عروقي ...
وبعد الذبح رقصتَ على قرع الطبول، واستنزلتَ بدمي مطراً موحلاً ... واستجلبتَ بدمي نجسَ الخطيئة ...
وتقرّبتَ من الصنم النحاسي وضرجتهُ بكفيكَ الآثمتين!
ودنّستَ يا أخا الرحمِ ذا الرحمَ الشريفَ وذكراهُ ... وأبكيتَ الأم الحنون وأدميتَ الليل ونجواهُ
ورسمتَ بالدم المسفوك آهاً، وألماً، وبندقيةً على حيطان جهنم ...
وكتبتَ بالدم المسفوك نعوة وطنٍ، وقصيدة حقدٍ على سقف السماء ...
وصلبتَني على جذع نخلةٍ يابسة ... حتى يبس الجسد البالي ...
ثم سحلتَني في الطريق إلى دمشق!
********
لكن، يا قاتلي، تذكرْ:
ففي الطريق إلى دمشق تجلّى المسيح لشاؤول – فلمَ تغرسُ دبابةً، ورصاصاً على ذات الطريق؟
في الطريق إلى دمشق اكتشف البشر أنهم بشر– فلمَ نغدو وحوشاَ على ذات الطريق؟
في الطريق إلى دمشق علّمنا الدنيا محبةً وأبجدية – فلمَ تزرع صباراً وحقداً على ذات الطريق؟
أضحى الطريق إلى دمشق مرصوفاً بالجماجم والعظام ... هيا أضفْ إلى ركام العظام جمجمتي، واضحكْ، وتمتعْ بالمنظر قبيل الغروب، وانتشي ...
********
لكن مرةً أخرى، يا قاتلي، تذكر:
في الطريق إلى دمشق كان فتحٌ جديد ... وكذلك كما كان سيكون ...
********
بقلم: طلال المَيْهَني
أكاديمي في جامعة كامبريدج
عضو مؤسس لتيار بناء الدولة السورية
08-أيار-2021
22-نيسان-2017 | |
25-كانون الأول-2013 | |
10-آب-2013 | |
29-حزيران-2013 | |
16-نيسان-2013 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |