يجبرك الشاعر موسى حوامدة أن تعود إليه وإذ تعود فأنت كمن يلجأ إلى عزاء يخفف عليك واقع الفقد والغربة الكونية الكثيفة. ففي كل قصيدة يتوهج هذا الشاعر مثل جوهرة تزداد جمالاً كلما صقلتها النار ..
هو شاعر يتوغل في أدغال الأشكال اللامتناهية وكلما ازدادت علامات الحدود الشعرية غموضا وتداخلا وتخلخلا، تراه يذهب بنصه الجديد بعيدا عن التخوم الواضحة بحيث يتعالى مثل السرد وهو في صيغة التأمل... وفي كل هذا التوغل الفادح سوف تنهض بين يديه ملامح نص غاية في التنوع، وهنا يمتزج الشاعر كفعالية بالعديد من عناصر الحياة غير المألوفة... في الواقع لا أريد أن اقدم تحليلا نقديا أو دراسة تحليلة لتجربة الشاعر ولا حتى قراءة لمضمون هذا التجربة الفذة والغنية لشاعر يذهب الى نزعة وجودية شاعر أذهلته أسئلة الوجود فراح تحت وطئتها يئن مثل ذئب جريح اشرف على الموت ... ولكني سأذهب مع القارىء الى تسجيل انطباعات عامة تتفادى كل صياغة أو احكام أو قوانين أو قيم أو اية شروط عفنة وضعتها المدارس النقدية على اختلافها في الزمان والمكان ..
ذلك أن الشعر، على إطلاقه، لابد أن يكون متجليا في ما يشبه القانون، أو الحد الذي ينبغي أن يكون مستقراً في لحظة فنية، وليست زمانية، ولكي يتاح لنا صياغة حكم نبني القيمة على أساسه، يجب أن ننظر اليه من هذه الزاوية بالتحديد، والشعر الوجودي هو وحده الذي يحقق هذه الغاية المثلى، بحيث يصبح في حد ذاته قيمة فنية يتحدد على أساسها شرط الزمان، فالصورة هي أساس الوجود، وهي سابقة عليه، والصورة يمكن تلمسها من خلال قوى المخيلة، لا القواعد المنطقية العقلية الصارمة، والمخيلة من سماتها القلق الذي يهز الوجود كله، على وتر الروح المشتعل دائماً، لدى الشاعر المطبوع بهذا الطابع الوجودي المحض.
وهذا الضرب من الاستقراء المختلف، لا يضير حرية البحث في تجربة الشاعر، ولا حتى في شعره، على العكس، ربما كان هذا الاستقراء النسبي من شأنه أن يضع الشاعر في مواجهة مسؤولية تفادي الوقوع، في تقليد حياة اكتملت ملامحها لديه، وأوشك على أن يصير قاعدة، قاعدة تتهيأ لإعادة النظر والإضافة والتغيير والتجاوز.
ترى هل يجوز لي الزعم (دون قلق)، أن ثمة ملامح أقوم هنا بتوصيفها، في حضرة تسجيل هذه الانطباعات حول تجربة الحوامدة الشعرية. ليس في هذا القول نية للتعجيز، على العكس، فربما كان القصور النقدي لدي في هذا الجانب بالذات، هو مكمن المعضلة، فمن المتوقع في كل سياق يرافق التجارب الشعرية في تاريخ الأدب الإنساني، أن يتأمل النقد فيما ينعكس في الذات من انفعالات أو انطباعات عامة، وهو ما يتجلى بضرب رهيف من الإصغاء للنص اصغاء كاملا .. هذا ما أحاول الافلات منه، لتفادي الوقوع في مطبات النقد ومدارسه وقوانينه العقيمة، ذلك أن ما يستجد من التجارب الأدبية عبر التاريخ، ويستخرج، من بين أهمها وأكثرها نضجاً وأصالة، حدوداً وملامح فنية، من شأنها أن تشير إلى تميز التجربة الشعرية، عما سبقها من تجارب، هو الانطباع العام الذي يحقق التوالف التام، بين النص وقارئه، وفي لحظة غياب كامل لقائلة. .
لابد لي أن أذهب قليلا الى شفافية الخطاب، عندما يتعلق الكلام في أهمية البحث عن عناصر، ربما توضيح الملامح العامة في التجربة الشعرية لدى الحوامدة، بهدف تأسيسها على قاعدة مغايرة تنطلق من بديهيات الوجود، وليس في نيتي كذلك أن أحبس اللهب في المصباح ثانية، بل علي الذهاب إلى فتح المزيد من الآفاق، أمام هذه النيران التي انطلقت مثل نمور حمراء الأحداق والأشداق، يجب أن تخرج الأسود الضاحكة العيون إلى الوجود.
-يقول نيتشة: ( لنرقبها خارجة، وإلى الأبد، نحو الفضاء الأرحب. ولا ينبغي أن يخيفنا الكلام عن التأمل الانطباعي في التجارب الجديدة، ولا يجوز أن نتيح للمواقف المتعسفة أن ترهبنا في مثل هذه المواقف التي من شأنها أن تجعلنا أكثر جرأة ممن ترتجف أوصالهم عندما تذكر أمامهم حريات التعبير وسلطة المخيلة ولانهائيات الشكل الفن).
أقول هذا لكي أتذكر كلمة مشحونة بالدلالات، قرأتها لهلدرين .. منذ سنوات طويلة، لا تبارح مخيلتي أحيانا كثيرة، لفرط ما ترتبط فكرة الشعر لدي بالوحشية والغموض والغرابة معاً. فقد قال هلدرين ذات نزعة من نزوعاته نحو انتصاره لما يكتشفه الشاعر: ( إذا أراد امرؤ أن يصيد أسداً، فأول ما يبدأ به افتراضه وجود أسد في البداية. كسماع زئير في الليل، وافتراس ولد أو ثور، وآثار ضخمة في الدرب الذي تسير فيه النساء، ورائحة اللحم القديم تحت الشجيرات الشائكة، فيما راح الشيوخ يتفحصونها متأملين. وهذا هو الحال في السعي وراء الشعر، فالمرء يبدأ بافتراض وجود شئ اسمه شعر. وثم يسعى ليكتشفه. ولكن الفرق بين المسعيين هو أن المرء يعرف سلفاً كيف تكون هيئة الأسد عندما يواجهه، بينما نرى أن الغاية جميعها في سعي المرء وراء الشعر، هي أن يكتشف، عندما يتوصل إليه، ماهية القصيدة). إنني مع هلدرين وهو واحد من الشعراء الوجوديين الكبار الذين لم تعرفه، ولم تتعرف اليهم آدابنا العربية لأنها في الأساس لم تعرف الشعر الوجودي أصلا.
ترى كم نسبة الذين يذهبون إلى تجربة شعرية من هذا النوع، على الأقل بشغف التعرف على الشعر فيها، وكم نسبة الذين يؤمنون حقاً أن من حق الأجيال الجديدة أن تقترح علينا مداخل و طرائق تعبيرها، وأن من حقها علينا أن نصغي لبوحها بأكبر قدر من رحابة العقل والقلب. هم كائنات الغابة التي يغروننا بالتوغل في مجاهيلها ولا بأس من الضياع في تلك المجاهل..
لعل أول تداع تتركه قصيدة الحوامدة بشكلها العام أن المعنى يأتي فيما بعد أو لاحقا .... لأضيء هذه المسألة قليلا:
حين أقول بأن المعنى يأتي فيما بعد عند الشاعر موسى حوامدة، فإنني لا أخلي الشاعر من مسؤولية معنى ما. ففي هذا ذهاب مجاني لعدمية لا يحتملها الواقع أصلا، وليس فيها شئ من طبيعة الفن بوصفه فاعلية عميقة في الحياة. إن تعبير ـ المعنى يأتي فيما بعد أو لاحقا ـ هو اتصال بالاحتمالات الرحبة لعلاقات النص بالواقع، ونزوع شعري لتعددية الصورة في ضوء رؤية شاملة وعميقة. فالمعنى، الذي يأتي فيما بعد، هو استجابة القارئ لمخيلته، الصادرة عن تجربته الذاتية، وهي تحدّق في الصورة الشعرية، منسابة متدفقة في أنهار المعنى .. ولا أقصد هنا اهتمام الشاعر بالشكل والصورة، وترك المعنى، بصورة تلقائية للذهنية المتلقية، لنصه لكن الشكل والصورة الشعرية لديه، تأخذ دلالة من خلال آلية التركيب، لخلق التداعي والتدفق المباشر في الذات، وهنا تتم عملية، أشبه بهندسة المعنى الذي يشارك فيه القارئ، وهو يتأمل النص كصورة بالغة التعقيد، فيعيد توليفها هو بذاته، وهذا ما قصدته بأن المعنى يأتي لاحقاً.
هذا مع الأخذ بعين الاعتبار أن الحوامدة لا يكتب عارياً من الذاكرة، وهو لا يصوغ الصور مقصياً مخيلته الى البعيد (ومخيلة قارئ محتمل كذلك). فالشاعر هنا ليس آلة كاتبة تصدر عن الغيب، وتذهب إليه وتفعل به كما تنفعل معه. إنه نبع أسرار كثيرة تمنحها طاقة النص قدرة على التمثل في حيوات أخرى، بواسطة قراء موجودين الآن وسيوجدون باستمرار، ومن الصعب تعيينهم، فهم لا يحصون. فالمعنى هنا وهنا ينبثق، منذ اللحظة الأولى، بوصفه جذر الحياة، ليصير إلى غصون تتفرع كثيرا كلما نمت واتصلت بتجارب القارئ هذا أو ذاك. وبهذا الشكل يأتي المعنى دائماً فيما بعد، وهو المعنى الذي يستمد غذاءه من لحظة الانبثاق الأولى المتوفرة على جذوة التجربة، ليتحول إلى أفق رحب من المعاني المتكاثرة بعدد القراء، وبتعدد كذلك يضاهي الصدى في أدغال النفس البشرية.
والمعنى هنا لا يشكل قيداً لمخيلة القارئ، ولكنه يصبح اقتراحاً وأفقاً رحبا يتشكل من رؤيته وحساسيته، انثيال شعرية النص. ونحن مع علمنا أنه ليس في النص (أي نص) معنى منجز يمكن أن يفهمه الجميع بصورة واحدة، حتى النصوص المقدسة هي نصوص تنفتح على احتمالات التأويل لأنها نص بالأساس، فالقارئ سيكون أمام عناصر مفتوحة فضاءاتها، عليه أن يقوم بإعادة تركيبها، بالصيغة التي تستجيب مع حساسيته وطبيعته الخاصة، وكذلك نشاط مخيلته وحالته النفسية لحظة القراءة هنا تكمن عظمة وأهمية الشاعر.
ليست غاية الشاعر الحوامدة بذل القرائن أمام القارئ، فالشاعر هنا يتحول هو الى قرينة كائنة في النص، وعلى القارئ أن يرى في هذه القرينة ما يراه ويبتغيه، وهذا يتقاطع تماما مع نظرية اقصاء القائل، أو موت الشاعر فالشاعر عندما يصير جزءا من البنية العامة للنص، متمثلا في المعنى القرائني الصرف والخالص والمعنى على العموم هو ما يتجلى للقارئ مقروناً بتجربته، وبهذا يصبح النص قرينة القارئ أيضاً، أي أن المعنى هو ما يشعر به القارئ ويعيد خلقه وتكوينه، وليس ما يقترحه الشاعر كإشارات على الدرب تظل معتمة مع قارئ مكبوح المخيلة لحظة القراء.
ويمكن للقارئ أن يعتبر النص شبكة العلاقات (لئلا أقول شرائك) متاحة لبحث القارئ وليس لكسله متاحة لفاعليته وحركته. فالقارئ الذي يريد المعنى المنجز من النص للوهلة الأولى، قد لا يكون جديراً باكتشاف طاقة الاتصال الإنساني في ذاته والتي تسمح له بالعبور الى الافاق. وهنا علينا أن نعلم أنه ما أن ينتهي الشاعر من لحظة الكتابة، يظل النص أفقا مفتوحاً ينتظر مبادرة مقابلة وجديرة من قبل القارئ.
إنك لا تستطيع أن تسمع الموسيقى، إلا بعد أن تبدأ في العزف على آلتك. ولكي تفعل ذلك وبعد أن تسمع الموسيقى، ترى هل تقدر أن تقول أين المعنى في كل هذا؟
الشعر هو أيضاً كذلك، مثل الموسيقى يكمن في ذلك السر الغامض الذي يجعل من الإنسان أكثر غموضاً وأكثر اشراقا ..
التداعي الثاني أن الحوامدة في قصيدة يأتي دائما منذرا بفجيعة ما ....
كي يجبر قارئه أن يمشي معه في خراب طاغ، يعلو الكون ويسوده، فالرجل عادة ما يرتد الينا مثل القادم من حروب خاسرة، قادم مع مخيلة جرحتها الحقيقة، ذاهب الى منفى الأعماق والدواخل. هذا الشاعر يكتب منذ سنوات، دون أن يعبأ بما يحدث أو بمن، لا يكترث بما يحدث، يكتب أحيانا بما لا يسعفه، وكأن النور الضئيل الباقي لا يكفي لأن يتم معنى واحداً، تسكبه الفجيعة في كأس الكون الذي فاض وهو على حافة المشهد يرقب بألم .. هذا الرجل قادم من الفجيعة، وهو مثل نبيها مبشرا بها.
ستصاب بالخيبة أيها القارئ النبيل، اذا حاولت أن تتسقط تداعي الأمل أو اليأس، لتصد به هجوم هذا الشاعر بكل خساراته وانكساراته ...
التداعي الثالث يتمثل في شهوة الاختراق لدى الحوامدة ...
وهي شهوة لا تتصل بالشكل الفني أو المصطلحي، بقدر ما يتجلى في لذة الاختراق المتصل بخراب مهيمن على الروح العام الساري في الكون الذي يجد الشاعر نفسه أنه جزء منه، أي من هذا الخراب، وأقصى من هذا أنه يجد نفسه معبرا عنه .. تلك النزعة الوجودية التي تتمثل لديه في أعلى درجاتها الممكنة..