انتحارٌ لطيفٌ في سفح قوس قزح!
خاص ألف
2012-05-19
كم كنتُ أحمقاً حين كنتُ طفلاً، فقد كنتُ أحلم، كما هي الحال ربما عند كل الأطفال، بأن أكون شرطي مرور، مع صفارةٍ وقفازاتٍ بيضاء، ولا بأس بعصا تشبه شيئاً من الحلوى/السكر. ثم غيرتُ رأيي حالماً أن أكون رجل إطفاء: فاللون الأحمر، وأصوات السيارات المسرعة، وأضواؤها كانت تأسرني. ومع أني حلمتُ بعدها أن أكون فيلسوفاً بلحيةٍ سقراطية وعمامةٍ رشدية، أو مهندساً بخوذة صفراء، لكني تجاوزتُ في مرحلةٍ لاحقة كل هذه المهن التقليدية والمملة والمكررة عبر العصور والتواريخ.
وحين تحررتُ من كل تلك القيود، قررتُ أن أرتكب ما لم أقم بارتكابه خلال الحقبة التي مضتْ من حياتي. فطويتُ صفحات الماضي، ونزلتُ قبو المنزل أود إحراقها قبيل الغسق، إلا أن جرذاً خطف مني نصف الصفحات وركض، مما أتاح لي إحراق النصف الآخر فقط. وعلى إثر ذلك أخذتُ قراراً مصيرياً في أن أعمل "خيطاً"، أي أن تكون مهنتي أن أكون "خيطاً"! أعترفُ أنه قد واجهتني بعض المتاعب في إقناع أهلي، فقد كان جدي يضغط كي أكون صاحب "بئر نفط"، في حين تصرُّ جدتي على أن أكون رائد فضاء، وبينما كان أبي محباً لمهنة ركوب الخيل والرماية، كانت أمي أكثر تفهماً وأقل امتعاضاً من الآخرين. ولكنهم في النهاية تفهموا موقفي بعد إلحاحٍ منّي، خاصة حين شرحتُ لهم أهمية الدور الذي سألعبه كخيطٍ رفيعٍ ومسالمٍ يشد طائرة ورقٍ ملونٍ إلى أصابع طفلٍ صغير ... يالله ما أجمل هذه المهنة ... هل تعلمون حجم الفرح الذي سيرتسم على وجه طفلٍ وهو يمسك بخيط طائرته الورقية؟ فرحٌ بحجم فيلٍ هبط تواً بلا زعانف من على سطح القمر، وبدأ بالقفز واللهو بماء البركة التي تقع بعيد مدخل القرية. حاوَلوا إقناعي بعدم الذهاب ... لا أعرف من هم، ولكنهم قالوا لي أن طائرة الورق لا تطير بلا رياح الشمال، وأن رياح الشمال، للأسف، لا تهبُّ إلا في فصل الشتاء، وأن فصل الشتاء حزين، وأن الحزن مقيمٌ في الوطن ولسنا بحاجةٍ إلى مزيد. وعندها غيرتُ رأيي ...
فقررتُ، بعد فترة تأملٍ، أن أعمل صنبوراً! صنبوراً ييرز بشموخٍ وصمتٍ من الحائط. لا تستغربوا ... صنبوراً ... ينقل الماء إلى العطشى في عقر ديارهم، ويتوضأ من مائه من يريد أن يتوضأ، ويستحم بمائه كل المواطنين والمواطنات الذين ما زالوا مؤمنين بفوائد الاستحمام. كم هو عملٌ نبيل أن أكون صنبوراً ... نحاسياً أو حديدياً أو من الزجاج! حاولوا إقناعي بعدم الذهاب ... لا أعرف من هم، ولكنهم قالوا لي أني سأصادف في عملي بعض الزملاء المزعجين كالطاسة والمغسلة والبالوعة، ولكني لم أهتم بكل ذلك فقد كانت رغبتي في خدمة أبناء الوطن أكبر من هذه الترهات. كتبتُ سيرتي الذاتية وتوجهت إلى الشركة التي توظف الصنابير المعلقة على الحيطان. وقفتُ باحترامٍ أمام المدير الذي كان يقلّبُ ملفي بشيءٍ من الجدية. يقال أن المدير من خلفيةٍ صنبوريةٍ كادحة، فقد كان يعمل صنبوراً لمدة تزيد على عقدين من الزمان في دورة مياهٍ في مدرسةٍ ابتدائيةٍ في حيٍ شعبيٍ، وبسبب جدّه ومثابرته وتفانيه في ضخ الماء، فقد أثبت ذاته حتى تمّتْ ترقيته إلى صنبورٍ في غرفةٍ راقية في فندقٍ فاخر، تنام فيها العاهرات مع "رجال الأعمال" و"السياسيين" ولفيفٍ من "رجال الدين" ... وبعد تدقيقٍ طويل تبين لي أني لم أنجح في اجتياز المسابقة، فركبتي اليمنى مصابةٌ بالالتهاب، كما أن ملفي الأمني يحتوي على إشاراتٍ رجعيةٍ: فقد كان جدي يعمل "دلواً" في بئرٍ تابعٍ لإقطاعيٍ كبيرٍ في المنطقة الشمالية ...
أصبتُ بالإحباط. لكني ما لبثت أن استجمعتُ قواي وقررتُ أن أعمل قوس قزح! مرةً أخرى: يا الله ما أجمل هذه المهنة. فكل الناس يصفقون لقوس قزح، وكل الأطفال ينظرون إليه وهم مندهشون. ليس هناك أحلى من قوس قزحٍ بحدبةٍ جميلةٍ تشبه ابتسامةً مقلوبة! وحين سأعمل "قوس قزح" سأضع رجلاً في الشرق، ورجلاً في الشمال، وأنا أعبر الجنوب والغرب، وأوزع قُبَلاً وقمحاً على الناس الذي سيبادلونني الابتسام وهم يلوّحون لي من بعيد. توجهت إلى المبنى الذي يقطن فيه المدير، ولكني تفاجأتُ أن أمامي آلاف المتقدمين الذين شكلوا طابوراً طويلاً. وقد أخبرني من كان يقف أمامي، وكان بالصدفة جنرالاً في الجيش، بأنه قد سمع إشاعاتٍ بأنهم قد أغلقوا باب قبول الطلبات لأن قوس قزح متوفرٌ حالياً، ولا يمكن أن يوظفوا قوس قزحٍ آخر إلا "إذا احتاج الأمر". وهنا سألتُ الجنرال: ‘وكيف "سيحتاج الأمر" إلى قوس قزحٍ آخر؟’ فأجاب: ‘حين يموت قوس قزح الحالي.’ جوابٌ منطقي ولكني أردفتُ بسؤال الجنرال: ‘وكيف سيموت قوس قزح الحالي؟’ فأجابني الجنرال: ‘لا بد من أن نقتله حتى يموت ... ولذلك فنحن الجنرالات على امتداد هذا العالم نفتعل الحروب، ونقتل البشر، ونصدر أعمدةً من الدخان تصل إلى السماء، فقوس قزح، كما تعلم، مصابٌ بالربو ولديه حساسية من الدخان خاصة إن كان دخاناً أسود اللون.’ وهنا قلت في نفسي ‘الآن فهمت – وقد استوعبتُ السر وراء كل هذه الحروب التي طحنت هذا الكوكب، فالكثيرون ببساطة كانوا يحلمون بأن يكونوا قوس قزح!’ ولكن الجنرال استطرد: ‘ابن الكلب (يقصد قوس قزح) لم نستطع قتله حتى هذه اللحظة مع أننا قمنا بإبادة نصف السكان على سطح هذه الأرض وحرقنا الكثير من الغابات.’ وهنا أحسستُ فجأةً بالغثيان، وبأني أقف في المكان الخطأ، فأنا بطبعي مسالمٌ، وأؤكد لكم أن مصارعة الثيران، والقفز من شاهق، واللعب مع التماسيح ليست من أولويات وجودي على سطح هذا الكوكب الجميل، ناهيكم طبعاً عن قتل البشر وافتعال الحروب. وشخصياً أفضل أن أبقى عاطلاً عن العمل على أن أتحول إلى مجرم. فانسحبتُ بهدوء.
ومكافأةً على انسحابي وعلى ابتعادي عن هذه الطغمة فتحتْ لي السماء أبوابها وتيسر لي عملٌ مرموقٌ في شركةٍ مختصةٍ بالانتحار! حيث تم قبولي لأعمل "منتحراً" براتبٍ مُغْرٍ وتعويضاتٍ لا بأس بها. وفقط للتوضيح وقبل أن يسأل الأشقاء والأصدقاء، فطبيعة عملي لا تتضمن مساعدة "الآخرين" على الانتحار كالقتلة المأجورين، فأنا أعمل منتحراً ولست مجرد قاتلٍ مأجور، أي أني أنتحر (أقتل نفسي) بطريقةٍ مهنيةٍ وبناءً على خبرة، وليس كما يفعل بعض الهواة!
أستيقظ في الصباح وأستقل دراجتي الترابية (ليست هوائية وليست نارية)، وأتجه إلى مكتبي في الشركة التي تقع على شاطئ البحر. فأجلس بدءاً من على شرفة مكتبي حيث تهب النسائم المنعشة، وأنا أرتشف قهوتي الصباحية، وأستمتع بتأمل زعانف أسماك القرش وهي تسبح جيئة وذهاباً بين صخرة "اذكريني"، وجبل الأليمبوس!
وبعدها أبدأ بمزاولة عملي حيث أقضي وقتي في مكتبي وأنا أنتحر، وبعد أن أنتحر يقوم لفيفٌ من المواطنين بتشييعي إلى المقبرة في نهاية الدوام. وهنا أسجل إعجابي بالأناشيد التي يرددها المشيعون أثناء التشييع، كما أن التمدد بسكينة في النعش يعطي شعوراً يدوم بضعة دقائق بأني ملكٌ حقيقي. شعورٌ جميل عليك أن تجربه ... أو بالأحرى على الأرجح أنك سوف تجربه (حتى دون نصيحتي) ... وبغض النظر عن الطريقة والظروف ... ولكن لا بد أنك ستجربه ... يوماً ما ... من يدري؟
وبعد انتهاء مراسم التشييع، أرقدُ في القبر، وأنا متعبٌ من العمل وبعد قيلولةٍ قصيرةٍ وسريعة، أتناول وجبةً خفيفة وأخلد إلى نومٍ عميق. في صباح اليوم التالي أستيقظ وأخرج من القبر وأتوجه إلى المنزل لأستحم وأعود إلى عملي وأنتحر مجدداً وهكذا ... أغرق في روتين العمل وضجيج الحياة الرمادية التي فقدتْ ألوانها من كثرة الغسيل والتعليق على حبل الغسيل ...
لدي عطلةٌ أسبوعيةٌ يومي الجمعة والسبت حيث أرتاح فيها دون أن أنتحر. ولكن في ذكرى الحركة التصحيحية نقوم بعملٍ طوعيٍ إضافيٍ حيث أتوجه مع زملائي إلى الشركة لنتناول بعض الشعيبيات، ثم ننتحر بشكلٍ تطوعيٍ في طقسٍ جماعيٍ مدهشٍ وغير مسبوق يتكرر مرةً كل عام. وباستثناء هذا الحدث التاريخي فإني أميل إلى قضاء أيام العطلة وأنا أقرأ الجرائد وأرتب ركام العظام في القبر ... ما يزعجني هو أن القبر فيه شيء من الرطوبة والأنين. .. كما أن الموتى الذين يرقدون بجانبي يعانون من قلة الخبز، وتدني مستوى الخدمات الاجتماعية، وأحياناً سوء المعاملة ورداءة التكفين. ولا أخفيكم أني أحياناً أشعر بالملل من العطلة، فقد اعتاد جسدي على العمل (الانتحار).
وحتى كتابة هذه السطور ما زلنا، نحن الكادحون الذين نعمل في الانتحار على امتداد ربوع الوطن، مظلومين. فمع أن لدينا نقابة تدافع عن حقوقنا إلا أنها ضعيفة ونشاطها محدود. ومع ذلك فقد نظمنا مرةً اعتصاماً أعلنا فيه رفضنا لأن ننتحر قبل أن يرفعوا لنا الأجور والتعويضات. فالرأسماليون الجدد، هم ببساطةٍ أحفاد القدامى، وهوايتهم المفضلة هي الاستمتاع بمص دماء الشعوب في حفلاتٍ جماعيةٍ تقام في أقبيةٍ لا يصلها ضوء الشمس. وهناك إشاعاتٌ تقول بأنهم يقيمون هذه الحفلات مؤخراً على أسطح ناطحات السحاب ذات المظهر الزجاجي المزيف والألوان الفاقعة ... هكذا أخبرني القائد الطليعي أبو إكس ... وهنا أشكر الرفيق الذي لفت نظري إلى كتابات شخصٍ في روسيا له سكسوكة، وآخر في الصين ليس له سكسوكة.
لكن عملي بالشركة جيد بشكل عام، حتى أنهم كرماء فيما يتعلق بالبعثات الخارجية. حضرت مرةً مؤتمراً في بلد أجنبي، وقدمتُ طريقةً مبتكرة ًللانتحار مع عرضٍ تجريبيٍ أدهش الحضور الذين صفقوا بحرارةٍ وهم ينظرون إلي وأنا أنتحر، حتى أن بعضهم بكى بغزارةٍ غير معهودةٍ ووهو يرقب روحي وهي تخرج برشاقة كالشرنقة من جسدي ثم هتف المواطنون وبدؤوا كالعادة بتشييعي ... وبما أني كنتُ في بلدٍ أوروبيٍ فقد كان التشييع صامتاً ... ولا أكتم سراً إن قلتُ بأني لم أستمتع بتشييعي، فقد كان يخلو من الهتاف والغناء وطقوس التسلية والترويح عن النفس.
على كل الأحوال أفكر بترك العمل مع الشركة التي أعمل فيها حالياً والانتقال إلى شركة انتحارٍ جديدة ... يقال أنهم يدفعون أكثر خاصة أن مدير الشركة الجديدة شابٌ متحمسٌ للأفكار الريادية والخلاقة في هذا المجال. وقد أخبرني الرفيق الطليعي أبو إكس أنهم يريدون خبيراً في الانتحار، وأنا كما تعلمون انتحر منذ سبع سنوات يومياً عدا فترة العطل الرسمية (كما سبق وذكرت لحضراتكم). وقد منحني ذلك خبرةً فظيعةً خاصةً وأني طورتُ مهاراتي بالانتحار شنقاً وعفساً وقفزاً من النافذة، وقفزاً من الطائرة، وقفزاً من القطار وهو يعبر فوق وادٍ سحيق، والانتحار جوعاً (دون عطش)، والانتحار عطشاً (دون جوع)، والانتحار "بشكل مزدروج" جوعاً وعطشاً.
كما أني معروف في الأوساط الفكرية للمنتحرين بأني مُجدّد، خاصةً في مقاربتي للسؤال الخالد: لماذا تقدم اللامنتحرون وتأخر المنتحرون؟ وساهمتُ مع عدد من الزملاء في إحداث ثورةٍ فكريةٍ في طرائق الانتحار، وقمتُ بتأليف كتابٍ في فلسفة الانتحار، ومجموعة رسائل في مديح الانتحار. كما قمتُ بالترويج لحملةٍ كونيةٍ كان قد أطلقها القطاع العام تحت شعار "انتحارٌ لكل مواطنٍ يحلم بالانتحار" ... "معاً نحقق أحلامكم بالانتحار على الطريقة التي تحلمون" ... "شققٌ مفروشة بأسعار مغرية"، انتحار "حلال" مع ضمانةٍ بعدم الحرمانية على مبدأ "أهون الشرّين"، ومع تنزيلاتٍ تستمر حتى آخر موسم التين، حتى آخر شجرة تين، حتى آخر حبة تين. ويسرنا الإعلان عن كفالةٍ لخمس سنواتٍ لخروج مبكرٍ من الجحيم على هذه الأرض ... اقترب ... اقترب ... هيا تعال ... اقترب ... تفضل يا حبّاب ... تفضلي يا خانم ... اقتربوا وسجلوا أسماءكم، واحجزوا مقعدكم، لكي تحظوا بانتحارٍ هانئ اليوم ... وإلا فلعنة الحياة الكريهة ستلاحقكم إلى الأبد ...
تصوروا حياةً بلا موت ... هيا انتحروا الآن ... وإلا ستندمون!
بقلم طلال المَيْهَني
أكاديمي في جامعة كامبريدج
08-أيار-2021
22-نيسان-2017 | |
25-كانون الأول-2013 | |
10-آب-2013 | |
29-حزيران-2013 | |
16-نيسان-2013 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |