اللوحة: بوطٌ عسكريٌ وحالة عشق (الجزء الأول)
خاص ألف
2012-06-02
فتحتُ عينيَّ بعد أكثر من 4 عقودٍ، وسنة، وشهرين، و18 (أو ربما 15) يوماً، وبضع ساعات قضيتها في نومٍ عميق. عايشتُ خلال تلك الفترة عدداً كبيراً من فصول الشتاء وبراميل الوحل، وعانَيْتُ من حكّةٍ مزعجةٍ في المنطقة الممتدة بين لوح الكتف والعانة. شاهدتُ في نومي العميق سبعة أحلامٍ كان من بينها ستة كوابيس ونصف. ومع أني لا أذكرُ أياً منها بالتفصيل أو بالألوان، إلا أن أحدها على الأقل كانت أحداثه تدور في مكانٍ ما في سوريا على حدود الجولان.
بعدها فتحتُ فمي بشكلٍ واسعٍ وقمتُ بالتثاؤب حتى دَمِعَتْ عيوني، وأنا أصْدِرُ أصواتاً عاليةً كأشجار الأرز والبلوط. وأثناء التثاؤب مددتُ ذراعيّ حتى صِرْتُ شبيهاً بعُقابٍ جارح، وكِدْتُ أطيرُ من شدّة الوجد، دون أن يكون لي مخالب أو منقار أو ريش. كان على رسغي أثرٌ عميقٌ ومؤلمٌ لأغلالٍ مصنوعة من مزيجٍ عجيبٍ من المُخاطِ والحديدِ والأشواك، وعلى ظهري خطوطٌ طولانيةٌ تشبه عروق الدم في رُمّان الجَنّة، أو بَيْدَراً من القمح في فصل الخريف. لم أرى الخطوط الطولانية، ولكني أحسستُ بها حين كنتُ أتلمّس ظهري محاولاً الخلاص من الحكّة المزعجة التي أصابتني، كما أخبرتكم، في المنطقة التي تمتد بين لوح الكتف والعانة!
لكن بدا لي أن الأمور بخير. ‘الأمور بخير’ هذا ما كان يقوله جدي، بصوتٍ أجشّ ممزوج بالسعال والقَشَع. حَمَدْتُ الرب على كل الأحوال، وبدأتُ أفكر مَلِيّاً بما سأفْعَلُه. فأنا، عملياً، عاطلٌ عن العمل منذ اللحظة التي ودّعتُ فيها عالم الطفولة، وأصبحتُ فيها قادراً على العمل!
تأملتُ الغرفة. اللون الأبيض المُتّسخُ ممتدٌ في هوائها، ورياح الجهات الأربعة تستبيحها، وتعصف فيها، وتقرقع في أركانها. أما باب الغرفة فهو، كما تعلمون، مخلوعٌ منذ أن اعتاد فرسان الهيكل على الرشوة، ومنذ أن تعلّم اللصوص بيع كلّ شيءٍ في سوق اللصوص. لا توجد في هذه الغرفة "مرآة". ولا توجد في هذه الغرفة "نافذة". لكن في نهاية المطاف فكل الغرف متشابهة: أربعة جدران، وأرضية، وسقف.
حَمْلقتُ في السقف. هكذا يفعل كلّ العاطلين عن العمل، في كلّ أصقاع المعمورة، حين يتمدّدون على أسرّتهم تحت السقف. سقفٌ حنون، مدهونٌ بالأبيض المُتّسخ المُمْتد في هواء الغرفة، مع بعض الزّرقة ذات القوام الأملس. لهذا السقف قدرةٌ على الفرح وقت الأتراح، ويقال أنه متعلمٌ وذو حظٍ من الثقافة الغربية. بالأحرى هكذا بدا لي السقف للوهلة الأولى حين كنت أحملقُ فيه دون نظارات. ومع أننا قُمْنا بتبديل السقف منذ بضعة سنوات، إلا أنه كالسقف القديم غير قادرٍ على حمايتنا من الأمطار الموحلة والخنازير. كان جارنا يُرَدّد دائماً بأن "المتعهد" الذي صمّم السقف القديم هو ذاته الذي صمّم السقف الجديد. وعلى الأرجح "فالمتعهد" هو السبب في عدم صلاحية السقف: فالسقف الجديد، كالقديم، مغشوش. هذا ما كان يقوله جارنا الذي انقطعتْ أخباره بعد أن أخذوه في تلك السيارة الخضراء الملوثة بالغبار. ‘كانوا كثيرين ولم يستطع أبي الصراخ’ همس ابن جارنا، وهو يمسح دموعه بكمّ قميصه الملوث بالدم، قبل أن يُوَضِّبُ أغراضه بقصد الهجرة.
نهضتُ وجلستُ في سريري لأنظر بنوعٍ من "اللاشيء" إلى اللوحة المعلقة أمامي: بوطٌ عسكريٌ، بابتسامةٍ صفراء تبرز من الزاوية الخلفية للنعل. كانت ابتسامته مفلطحةً كالحنظل، وكان يغني كجدولٍ رفيع من المياه الآسنة. وأمام البوط العسكري ربّاطاتٌ مزودة بأشواك، أما خلفه فمشاهد لجماجم وسجون وبلدٍ مهدم. وفي ذيل اللوحة ترتسم "تسعة حروف"، "مكررة ثلاث مرات"، أو هكذا بدتْ لي من بعيد، فالكتابة ليست واضحة، وعقود الزمان التي مَرّتْ لم تسمح للكلمات بأن تبقى كما كانت، ولم تسمح حتى للعيون بأن تحافظ على صفائها الأول. وهذا الزمن الحقير يقْضمُ كلّ شيء بما فيها الحروف والأجساد، كما أنه يستخدم العيون (والألْسِنة) كحلوياتٍ على هامش وجبةٍ دسمةٍ على مائدة أصحاب السمو والاعتبار.
سمعتُ أخباراً يتناقلها "الجميع" عن هذا البوط العسكري المرسوم في اللوحة. يقال أنه كان يضاجع "الجميع": ذكوراً وإناثاً، شباباً وكهولاً. كان يضاجعهم ثم ينتزع منهم الأقسام الأمامية من المخ، ليمضغها، ويبصقها ويخلطها مع الكحول والإسمنت، ثم يضعها أخيراً في "الصندوق" قبل أن ينام قرير العين على أصوات الموتى! ويقولون أنه يحتفظ بذلك "الصندوق" في موقعٍ حصين في مكان ما. من يدري. ولكن ‘لا دخان بلا نار’ هكذا كان يقول جدي بصوتٍ أجشّ ممزوج بالسعال والقَشَع.
نهضتُ من سريري لأرْمُقَ من بعيد لوحة البوط العسكري. كيف جاءت اللوحة إلى هنا؟ ومن علّقها على هذا الحائط المترهل؟ تضيعُ الإجابات منّي. وفجأةً بَدَأَتْ ذاكرتي تستيقظ. تذكّرتُ! كان ذلك قبيل أن أخلد إلى نومي العميق. كنتُ صغيراً حينها، أو ربما لم أكن كائناً حياً بعد. هي إرثٌ من أبي. آهٍ على أبي، كان رجلاً حالماً وكسولاً اعتاد التصفيق والنوم إلى وقت الظهيرة. هذه اللوحة غير مناسبةٍ لهذه الغرفة. لا بد من انتزاعها من ذاك الجدار المترهل. لا بد من "تغيير اللوحة". وهنا قفز أمامي حوارٌ قديم مع أبي:
- ‘يا ولدي ... لعنة الآلهة ستشلّ ذراع من يسعى لتغيير اللوحة’.
- ‘خرافات، خرافات’ ... قلتُ له مهدئاً من رَوْعي.
- ‘لا تحرك اللوحة يا ولدي، فأساس الغرفة وسَقْفُها مرتبطٌ باللوحة!’
- ‘أبي، إنْ كان أساس الغرفة وسقفها مرتبطاً بمجرد لوحة إذن فهذا الأساس وهذا السقف خاطئ!’ ... فما كان من أبي إلا أن صفعني.
- ‘اخرس يا حيوان!!’
كلمة ‘يا حيوان!!’ تَرُنُّ في أذني حتى اللحظة. طبعاً لم يقُلْها بلطف، بل قالها بشيءٍ من العنف الذي اعتدنا عليه. كان في الحقيقة غاضباً، وفي عينيه مزيجٌ غريبٌ من الحنق والذعر. هم هكذا كبار السن، سريعو الغضب، خاصةً حين يتعلق الأمر بالبحث عن الحقيقة.
لكني أهملتُ كل ما قاله أبي، فقد كان صوت "العقل" في أذُني يُلِحُّ عليّ، ويطلبُ مني "تغيير اللوحة"!
اقتربتُ من اللوحة ...
اقتربتُ أكثر ...
اقتربتُ أكثر وأكثر ...
اقتربتُ أكثر وأكثر وأكثر ...
ولكن ...
08-أيار-2021
22-نيسان-2017 | |
25-كانون الأول-2013 | |
10-آب-2013 | |
29-حزيران-2013 | |
16-نيسان-2013 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |