عطر من نوع خاص
خاص ألف
2012-06-11
رائحة التراب .. الغبار .. الإسفلت
رائحة الجدة في فستانها الكحلي المزركش بالورود
روائح الجبن المنبعثة من شعر أمه، والأرض من أبيه
رائحة المعشوقة المتوشحة بعطر رخيص، ونسب من الكحول والنيكوتين، والروج النزق والكحل الضجر.
رائحة عش الجارة هَنية وقبتها المنسية، العانس المتلصصة خلف ستائر النافذة.
رائحة القرية، البيادر الصفراء، البحيرات الساكنة، أشجار التين واللوز والزعرور والتوت والسفرجل والإجاص، العشب والقريص ، رائحة التبن وروث البقر، الدروب الصغيرة المزروعة على جانبيها بالفيء والأقحوان وشقائق النعمان والدلفينيوم البنفسجي، الصخور البازلتية والطحلب المخملي متسلقاً سطوحها، رائحة الأفاعي المختبئة في جحورها، والدبابير في أكوارها، رائحة الراعي والأغنام على الرابية، رائحة الضوء والغيم والمطر والثلج والصقيع، رائحة الريح.
" بدايةً تترتسم لي الرائحة مثل خيط دخان البخور، أبيضاً رفيعاً، ألحق بها لتتفجر أمامي، تتعرشني، ثم تدخلني من كل مساماتي، لتنضح بها"
"يوسف، لن يقودك غرنوي* إلا للجنون" أجبته.
تجاهلني،
"وبعد، يقوم دماغي بتحليلها وتصنيفها وأرشفتها، فعند ذكر اسم فلان أو فلانة تظهر رائحته أو رائحتها من مصنف: كريه، جيد، لابأس. لكن تبعاً للخبرة التي أستقيها باتت تتسع إلى جزار، حقير، قذر، جبان، وضيع، طيب، أزعر، منافق، متسلق، عصامي، كاذب، صادق .. الخ"
"حسناً" أفترست ملامحه الهادئة، ووعدت نفسي بألا أُعير هذه العجينة الطرية كتاباً بعد الآن.
غادر محبطاً القهوة الصغيرة في إحدى أزقة العاصمة، ولكزت نفسي ببعض السباب والشتائم، فبدلاً من الإنصات له ، حسبني صديقه الصدوق، أبتسمت كالمخبول وألقيت ببعض التعليقات التافهة، وفي محاولة يائسة لإصلاح حرجي من نفسي، أغمضت عينيّ وحاولت جر بعض الروائح لأنفي المكتوم، جمعت فيه بين رائحة البن من فنجان قهوتي، ورماد السجائر العشرين من المنفضدة أمامي.
بعدها، لم يُرى يوسف أو يُسمع، وتناقلت الأقاويل على ألسنة البعض، أن رأسه كان يجول هنا أو هناك، في غمزٍ إلى المظاهرات الطيّارة، ثم يختفي بسرعة كما ظهر، لكن أحداً لم يؤكد ذلك.
في غمرة الأحداث الأخيرة، وللصدق أقول، نسيته وروائحه ورأسه الجوال، ودأبت على الكتابة والتوثيق، وفي عرض دهشتي وصلتني البارحة وعلى بريدي الالكتروني رسالة منه، أتركها لكم:
" كما أخبرتكَ مسبقاً، بات أرشيفي للروائح يتسع، وظهر لي بسطوع نيِّر، أن الروائح كالأفعال والطاقات، الكريهة منها تجتمع بسرعة وتتآلف، تختلط وتمتزج وتتفتق، على نقيضٍ من العبير أو الشذى.
يكفي أن أقف على أحد النواصي، ما ينوف عن خمسمئة متر، عن أي مظاهرة، ليلتقط أنفي روح زيت الغار، المتلبسة صدور بعض الشبان، استعداداً منهم لتلقي رصاصة غادرة. كما تكفيني هذه المسافة أيضاً لأخلع عن الشبيحة والمخبرين أرديتهم وأغلظ أقنعته، أولئك المؤطرين بآلاف الروائح والغازات المنبعثة من أفواههم الزرقاء وأسنانهم الصفراء، جزماتهم المهترئة وسروايلهم المتسخة، أجسادهم الُمستعمرة بالفطريات والخمائر والأحماض الكيتونية والسوائل المنوية، روائح التقرحات والتقرنات، الإنتانات والقشور الجلدية، ثكنات العثة وفضلاتها، عداك عن الخراجات النفسية، والتهابات الأخلاق، ورواسب الجاهلية الفاضحة. لمن الصعب جداً تركيب وتقطير مثل هذه الرائحة، لكنها تشبه في بنائها إلى حد بعيد جيفة متفسخة في سهل مفتوح لسفر الريح. تلك الروائح الغازية والمستوطنة جيوب أجسامهم، والجامعة لعفونة سجونهم، تثير في تسللها بين طيب الثوار، شبهات العقل الباطن لديهم، وتحفز هذا المتظاهر أو ذاك على الخطو والإبتعاد.
ومن هذه الجمهرة، انتزعت أيضاً قشور المتفرجين وظهرت لي بوضوح وصفاء نقييّن روائحهم، وغالباً ما تختلط بين حب وشفقة، جبن وخوف وعجز، أو غضب وهياج وحقد. وما أثار حنقي من روائح، الحيادية، فهي إلى حد كبير مبهمة وباهتة.
ومن تطورات الحال والحواس ، قفز روائح الموالين أو المعارضين أمامي مباشرة لدى ظهورهم على شاشات التلفزة، كما يكفي أن أسمع اسم مدينة أو قرية أو حارة بعينها، لتتكدس في وعيِّ روائح الخراب والحريق والدماء والبارود والدخان والجثث المتورمة.
قد يكون كل ما كتبته غير هام ولا يعنيك، لكني وددت إعلامكَ كيف تجول في الأنحاء رائحة جديدة، بل دعني أقول عطر من نوع خاص ، يبدو لي اليوم أقوى وأكثر ثباتاً وتشبثاً وحيوية، يمزج في تركيبه خلاصة خشب الصندل، الزعفران، زهر البرتقال، جوزة الطيب، العنبر والمسك، ومضات من الزنجبيل والكرز الحامض و البرقوق و الخوخ و الكمثرى، إيحائات الياسمين وخشب الماهوجني والأوركيد الأسود، عبير زهرة القمر ورائحة الفانيليا. هذا العطر الغني والغناء يضج بالإثارة والقوة والنعومة، يبوح بالبساطة والتعقيد، بالشفافية والغموض، يَسُر بالسكون والتأمل، بالحماس والحكمة، بالسحر والشغف والإبداع، يدعو للإنتباه والترقب، يسعى للإنعتاق والإنطلاق، وينداح بالعشق والتصوف.
بات عطراً مكتنـزاً، متمازجاً، مكتملاً، ليرافق آلهة الشمس* في إكليلها غداةَ زفافٍ آتٍ .
يُوسف"
*غرنوي بطل رواية العطر للكاتب باتريك زوسكند
* تشير بعض الدراسات إلى أن كلمة سوريا موجودة في اللغة السنسكريتية ومعناها الشمس
08-أيار-2021
08-أيار-2021 | |
16-كانون الثاني-2021 | |
22-آب-2020 | |
14-آذار-2020 | |
16-تشرين الثاني-2019 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |