اللوحة: بوطٌ عسكريٌ وحالة عشق [ج2
خاص ألف
2012-06-15
ولكن ...
حين اقتربتُ من اللوحة اصطدمتُ بمزيجٍ من الروائح والأصوات والصور ... روائح كريهة جعلتني أشعر بغثيانٍ حامض كالحصرم ... إلا أني تمالكتُ نفسي وبدأتُ أحدّق:
خطوطٌ متعرجةٌ تنتشر في أديم اللوحة. لا بد أن الرسّام كان يرتجفُ: أهو البرد؟ أم الشيخوخة؟ أم لعلّهُ الخوف؟ أو ربما كل الأسباب قد اجتمعت! في الزاوية اليمنى جمجمةٌ تبكي، وأزهار ميتةٌ، وضفائر مقصوصة. وفي الزاوية اليسرى ذراعٌ مبتورة، ومشنقةٌ تبتسم، وقطيعٌ من الخنازير. أصواتُ آهاتٍ تنبعث من خلال النسيج المهتّك، وتتجاوز القماش العتيق، وتصطدم بالسقف المغشوش.
كان الرعب بحدّ ذاته مرسوماً هناك ... هناك ... ‘ألا تراه أيها الأحمق؟’ قلتُ لنفسي ... هناك إلى الشمال من البوط قرب تلك الأجساد المكدّسة، قرب بركة الدم الساخن، قرب الصحون التي تَرْثي السميد، قرب ركام الكتب التي تُحْرق ... هناك ...
شاهدتُ البؤس والفقر والمرض في اللوحة. كانوا جالسين داخل البوط، عراةً بلا ملابس ... يحْتَسون القهوة المرّة على أرواح جوقةٍ من الملائكة، ويدخنون نرجيلةً مصنوعة من القصدير ... كانوا يقهقهون ويعربدون ويمزّقون أجنحة العصافير، ويغتالون البسمة في وجوه الأطفال ... ويخلطون الهواء بالآهات لتغدو غيماً أسود يُمْطِر وحلاً ... يُمْطِر ألماً ... يُمْطِر أوراقاً صفراء!
في اللوحة وجوهٌ كثيرةٌ موزعةٌ ومبثوثةٌ في أرجائها. وجوهٌ كثيرةٌ تفوق بعددها كل الوجوه التي عرفتها في حياتي. لكن ما يجمعها هو أنها وجوهٌ يعلوها اليأس. يعلوها الغبار. يعلوها العفن، والطحلب السُّمّاق. وجوهٌ يحيط بها أناسٌ غِلاظٌ يحملون قنابلَ وهراواتٍ وسكاكين ... وجهٌ واحدٌ من بين تلك الوجوه استوقفني. ‘وكأني أعرفُ صاحب هذا الوجه؟ وكأني قابلتُهُ في مكانٍ ما؟’ ... سألتُ نفسي ... ‘أين؟ ومتى؟’ ... لكني ما عدْتُ أذكر ...
لم ألتفتْ إلى كل ذاك وتابعتُ اقترابي ... فصوت "العقل" في أذُني يُلِحُّ عليّ، ويطلبُ مني "تغيير اللوحة"!
ثم رفعتُ يديّ أودُّ انتزاع اللوحة ...
وإذ بِطَيْفِ أبي يتراءى قبالتي، وهو يطالبُني بألا أفعل ... عانقْتُهُ ... قبّلْتُ يديه ... قلتُ له: إني أحبُّكَ لأنكَ أبي ... قلتُ له: إني مشتاقٌ إليكَ ... وإني أتذكّر حين كنتَ تحمِلُني على كتفيكَ، وتحكي لي عن الحبر المداد والبيدر، وعن زيتون الأرض والسكر ... قلتُ له: إني أتذكر ... لكنّي أخبرتُه: إني هذه المرة سأتغير ... لا أريد السير على ذات النهج ... لا أريد أن أستمعَ إليكَ ... ومع أني أتذكر، لكن اللوحة التي رَضِيتَ بها لا بد أن تتغير ... وبشيءٍ من الحياء والأسف بكى أبي. بكى كثيراً وودّعني. ثم استدار ودخل اللوحة، وغاب عني، واختفى.
صرختُ: يا أبي ... لماذا هربتَ يا أبي؟ لماذا تركتني وحيداً؟ لماذا تُحَمِّلُني وِزْراً لم أقترفْهُ؟ لماذا يا أبي؟ لماذا؟ ... ولم أسمع سوى همهمة الدعاء تأتيني في ظاهر الغيب من مئذنةٍ بعيدةٍ ... وبكاء!
لكني ... رفعتُ يديّ أودّ انتزاع اللوحة ...
وفجأةً تراجع البوط عن ابتسامته الصفراء، وبدأ يعْبسُ وكأنه قرأ أفكاري. ثم انقلب عبوس البوط إلى زمجرة، وتجاوَزَتْ ربّاطاتُ البوط إطار اللوحة، لتخرج منها، وتدغدغَ وتداعبُ وجنتي بنعومةٍ ... ثم بدأتِ الربّاطات تغنّي أهزوجةً هادئةً على أنغام قيثارةٍ ساحرة ... لوهلةٍ أحْسَسْتُ أني قد ظلمتُ البوط ... لكن الربّاطات ما لبثتْ أن عاجَلَتْني بصفعةٍ لئيمة ...
‘آآآآآآآخ’ صرختُ من ألمي.
وفي اللحظة التي كنت أتأوّهُ فيها غدا البوط أكبر حجماً، وانتشر لونه الأسود ليغطي كامل الساحة، ثم خرج البوط من اللوحة وبدأ يدْعسُ على رأسي وهو يشتمُ، وشَرَعَتِ الربّاطات بالالتفاف حول عنقي، لتضغط رويداً رويداً تودُّ أن تخنقني. ومن بعيدٍ جاءتني أصواتُ جيادٍ تركضُ، وسيوفٌ تلمعُ، ومقصلةٌ تقطع رأساً جميلاً، وترفعه على رمحٍ، وتسير به بين الجماهير التي تصفق بحبورٍ وجنونٍ وتزغرد. وبينما كنتُ على وشك الموت اختناقاً وصل بلاغٌ من وزارة السياحة بأن وفداً أجنبياً سيزور الغرفة! وفجأةً تَرَكَتِ الربّاطات عنقي، وانسحب البوط ليأخذ موضعه الأصلي داخل اللوحة وهو ينظر إلي بتوعُّدٍ وشَزَر.
سقطتُ على الأرض مغشياً عليّ، لأنهض بعد هُنَيْهة. كان الدم يقطر مني. ‘لا بد أني قد جُرِحْتُ في وجهي ... تباً ألا يوجد مرآةٌ في هذه الغرفة؟’ ... صرختُ ... ‘ألا يوجد مرآةٌ في هذه الغرفة؟’ صرخْتُ بصوتٍ أعلى، وأنا أحملقُ بإرهاقٍ ويأسٍ في الجدران التي حولي. ‘أيُعْقَلُ ألا يكون في الغرفة مرآة؟’.
بحثتُ وبحثتُ وبحثتُ ... وبعد جهدٍ وليالٍ طوال عثرتُ على المرآة. كانتْ معلّقةً في الزاوية خلف ستارةٍ مُثْقلةٍ بالغبار. أزحْتُ الستارة وهرعتُ للوقوف قبالة المرآة ... لكني لم أرى شيئاً!
حدقتُ ملياً في المرآة ... ولكني لم أرى شيئاً!
ذُعِرْتُ، فمجرد التفكير بأني لا أظْهَرُ في المرآة يصيبني بالذعر! ‘يا إلهي إنْ كنتُ لا أظهرُ في المرآة إذن أين أنا؟’ ... ‘أنا "لا شيء"!! أنا "لا شيء"!! لاااااااا’
ركضتُ في أرجاء الغرفة أفتّش كالمجنون عنّي: تحت السرير، وتحت الوسادة ... فوق الخزانة، وفي سلّة المهملات. وراء الدهان المتقشر على الحيطان، وداخل أسلاك النحاس.
عبثاً حاولتُ ... عبثاً بحثْتُ ... عبثاً فتّشْتُ ... لكني لم أُفلحْ في العثور عليّ ...
وفي خضمّ اليأس والعجز والانكسار، سمعتُ صوت شيءٍ يرْتَطِمُ بأرضية السقيفة ...
يتبع
08-أيار-2021
22-نيسان-2017 | |
25-كانون الأول-2013 | |
10-آب-2013 | |
29-حزيران-2013 | |
16-نيسان-2013 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |