القــوقعـة / يوميات متلصص * مصطفى خليفة *ج3
خاص ألف
2012-07-28
24 نيسان
اليدان مقيدتان بالقيد الحديدي إلى الخلف، كاحل القدم مربوط بجنزير حديدي إلى كاحل سجين آخر، نسير بصعوبة، نتعثر، ممرات ... أدراج .... تُسجّل أسماؤنا ضمن لوائح.
يتركنا ذو النظارات بضع دقائق واقفين و يذهب حاملاً اللوائح الاسمية، يعود، من المؤكد انه ذو أهمية، لم لا أشرح له الأمر، يقترب مني، أعاجله:
- يا سيدي كلمة واحدة.
- كول خرى ..... ولا.
وصفعة مدوية.
تنبثق آلاف النجوم البراقة أمام عيني، الفجر ربيعي، أترنح.... أسكت.
يسحبوننا إلى خارج البناء، أرى أربع سيارات شحن ذات أقفاص معدنية، السجناء يسمون هذه السيارات بـ " سيارات اللحمة ". قد تكون سميت كذلك لأنها تشبه السيارات التي يوزعون بها الأغنام المذبوحة من المسالخ إلى الجزارين ، أو لأن السجناء يصطفون بداخلها كما تصف الذبائح داخل سيارات اللحمة الحقيقية.
سلم معدني ذو ثلاث عوارض، نصعد بصعوبة بسبب الأرجل المقيدة وعدم إمكانية الاستعانة باليدين، يجلسوننا على أرضية السيارة، تمتلىء السيارة، يغلق الباب بقفل كبير، يجلس عنصران من الأمن أمام الباب من الخارج. انتظار .... انتظار، ثم تنطلق السيارات سوية.
نصبح خارج المدينة، تزداد سرعة السيارات، نترك الظلام وراءنا، شيئاً فشيئاً تلوح أولى خيوط الفجر الفضية.
( هل هي رحلة من الظلام إلى النور ؟ ... آمل ذلك ).
سمعت أحدهم يسأل آخر:
- قديش بدنا وقت حتى نوصل ؟
- تيسير الله... شي أربع أو خمس ساعات.
- يا أخي... والله ما فيني أتحمل كل هالوقت !!... كنت نايم .. فيقوني من النوم وفوراً لبرّه... وهلق أنا كتير محصور.... شو بدي ساوي ؟!.. مثانتي راح تطق !!
- إذا مافيك تصبر... أنا بفكلك سحاب البنطلون، وساويها هون بالسيارة.
- هيك معقول ؟!!! قدام كل هالناس؟
- إي ... إي .. ما فيها شي، والحمد لله ما في نسوان بيناتنا.
ثم وبصوتٍ مرتفعٍ متوجها بالحديث إلى الجميع:
- يا شباب... يا شباب اسمعوني.
توجهت إليه الأنظار، شرح لهم الأمر، بعضهم همهم، وبعضهم سكت، البعض وافق، فأدار المتكلم ظهره إلى المحصور، وبيديه المقيدتين خلفاً، تلمس السحاب، فكّه، أخرجـ "ـه " له، وابتعد.
- يا لله ... ريّح حالك يا أخي .
بعدها وحتى وصولنا السجن الصحراوي تكررت هذه العملية أربع مرات، خمسة رجال آخرون تقيأوا فوق بركة البول. "القيء كله ذو لون واحد".
أما جاري، المقيدة رجلي إلى رجله، فيبدو أنه كان يعاني من تعفن الأمعاء، لفني بغلالة من روائح بطنه ! . في الثامنة صباحاً وصلنا أمام السجن الصحراوي. " في الطريق كنت أنظر كثيرا إلى ساعتي، وأكثر من شخص نصحني أن أخبأها، ولكن أين ؟... تركتها على معصمي".
أمام السجن. عشرات من عناصر الشرطة العسكرية، الباب صغير، تصدم العين لوحة حجرية فوق الباب مخططة بالأسود النافر:
"ولكم في الحياة قصاص يا أولي الألباب".
فتح لنا رجال الأمن أبواب السيارات، هم أنفسهم اللذين كانوا يعاملوننا بفظاظة وقسوة، أنزلونا من السيارات برفق مشوب بالشفقة، حتى أن أحدهم قال: " الله يفرج عنكم ! ". وفيما بينهم كانوا يتحدثون همساً وبصوت خافت، يتحاشون النظر إلى عناصر الشرطة العسكرية الذين اصطفوا حولنا بما يشبه الدائرة، لاحظت أن لهم جميعاً نفس الوقفة تقريبا، الساقان منفرجتان قليلاً، الصدر مشدود إلى الوراء، اليد اليسرى تتكىء على الخصر، اليد اليمنى تحمل إما عصاً غليظة أو كبلاً مجدولاً من أشرطة الكهرباء أو شيئاً مطاطيا أسودَ يشبه الحزام. " عرفت فيما بعد أنه قشاط مروحة محرك الدبابة ". ينظرون إلينا والى عناصر الأمن نظرة فوقية تحمل استخفافاً بعناصر الأمن ووعيداً مبطنا لنا. حركاتهم تدل على نفاذ الصبر من بطء إجراءات التسليم والاستلام، ينقلون ثقل جسدهم من رجل إلى رجل، يهزون يدهم اليمنى بما تحمل هزات تبرم وغيظ، لباسهم جميعا عسكري أنيق، أعلى رتبة بينهم مساعد أول، وهو الذي كان يوقع على لوائح استلامنا .
( قرأت في مكان ما أن رجال إحدى القبائل الإفريقية عندما التقوا بالإنسان الأوربي الأبيض لأول مرة نظروا إلى بعضهم البعض بدهشة، وتساءلوا: هذا الرجل، لماذا قام بسلخ وجهه) ؟!
وتخيلت أن عناصر الشرطة العسكرية، هؤلاء الذين أراهم أمامي، ذوو وجوه مسلوخة، أية قوة سلخت هذه الوجوه ؟ ... كيف سلخت ؟... لماذا ؟... أين ؟... لست أدري لكن ما أراه أن الوجوه البديلة لا تشبه وجوه باقي البشر، وجوه أهلنا وأصدقائنا !!... مسحة غير بشرية ... هي غير مرئية، صحيح، ولكنها قطعاً موجودة!.
- الله يعطيكم العافية ... خلص انتو تيسروا، خلصت مهمتكم.
هكذا قال مساعد الشرطة العسكرية للرجل ذي النظارات. كانوا قد فكوا قيودنا، السجناء غريزياً التصقوا بعضهم ببعض. ذهب رجال الأمن.
بدأت الدائرة تضيق .... صمت مطبق!!
- يا لله ... صفوهم تنين تنين ... دخلوهم.
وأدخلونا من هذا الباب الصغير، وفوقنا منحوتة "ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب". اثنين اثنين، في رتل طويل داخل ساحة في وسطها وعلى جنباتها بعض الأشجار والورود الريفية، وهي محاطة من جميع الجهات بغرف تشرف عليها. وقف الرتل أمام مساعد آخر، جلس خلف طاولة أخرى، ولوائح اسمية أخرى، أكثر من مائة عنصر من عناصر الشرطة العسكرية يحومون حولنا، جميع السجناء يتحاشون النظر مباشرة إلى أي عنصر. رأسنا منخفض قليلا، أكتافنا متهدلة. وقفة فيها خشوع، وقفة تصاغر وذل، كيف اتفق جميع السجناء على هذه الوضعية وكأننا تدربنا عليها سابقا؟! لست ادري.
كأن كل واحد منا يحاول الاختباء داخل ذاته !!!
حكني رأسي من القفا، وكما يفعل كل إنسان يحكه رأسه، مددت يدي عفوياً وحككت !! وسمعت صوتاً راعداً:
- ولك يا جماعة ... شوفوا الكلب شوفوا !! عم يحك راسه كمان ...!!
- شــــوووو .... ! عم يحك راسه ؟!
وسحبتني الأيدي خارج الرتل، تقاذفتني صفعاً ولكماً، لكمة تقذفني، صفعة توقفني، النار في الرقبة والوجه .... تمنيت لو أبكي قليلاً... طلبني المساعد لتسجيلي فلم يبق غيري، سجلني وأصبحت نزيلاً رسمياً في هذا السجن.
مرة أخرى قادونا، بين غرفتين باب حديدي صغير، أصغر من الباب الأول، " لم الأبواب تصغر كلما تقدمنا ؟! " ومن هذا الباب ولجنا إلى ساحة كبيرة، إنها الساحة الأولى، ساحة مفروشة بالإسفلت، كل الطرقات والساحات مفروشة بالإسفلت الخشن، يحيط بالساحة أبنية من طابق واحد مكتوب عليها أرقام متسلسلة : المهجع الثالث ، المهجع الرابع ... المهجع السابع.
( الأبواب تصغر ولكن في الساحة الأولى فتحت جهنم أوسع أبوابها، وكنا وقودها ) !! .
بهدوء ودقة أوقفونا بعضنا إلى جانب بعض، يفصل بين الواحد والآخر متران أو ثلاثة، صاح المساعد:
- هلق ... كل واحد منكن يشلح كل تيابه .... حط تيابك على يمينك .... خليك بالسروال الداخلي فقط.
لاحظت أنني الوحيد الذي يلبس " سليب " بعد أن خلع الجميع ثيابهم ووقفوا ينتظرون، وانتابني إحساس بالغربة !..
كان صوت المساعد في البداية هادئاً، ومع مرور الوقت أخذ يتصاعد شيئاً فشيئاً، حدةً وشدة، وكلما تصاعد صوت المساعد كنت أحس أن التوتر والعصبية يزدادان في حركات الشرطة... والخوف والهلع يزدادان في نفوس السجناء، يغضون أبصارهم وتتهدل أكتافهم أكثر فأكثر!.
اقترب مني شرطيان يحملان الكرابيج، قال أحدهم:
- نزّل الكيلوت ولا ...واعمل حركتين أمان!!
أنزلت الكيلوت حتى الركبة، نظرت إلى الشرطيين مستفهماً ...
- اعمل حركتين أمان ولا...
- شلون يا سيدي بدي اعمل.. شلون حركتين الأمان؟
- قرفص وقوم مرتين ولا... صحيح انك جحش!
"حركات الأمان تُعمل خشية أن يكون السجناء قد خبأوا شيئاً ممنوعاً في شرجهم!"
نظر أحد الشرطيين الى الآخر مبتسماً، وبصوت خفيض:
- العمى ... شو تبعو صغير!!
نظرت اليـ"ـه"، إلى تبعي، نعم لقد كان صغيراً جداً !! حتى هو أحس بالذعر الشديد والهلع، فا ختبأ داخل كيسه، أنا لم أستطع الاختباء!
خلفي مهجع كبير كتب على بابه / المهجع 5 -6 /. تخرج من جانب الباب بالوعة "صرف صحي" على وجه الأرض، تسيل في هذه البالوعة مياه سوداء قذرة.
انتهى التفتيش. جرى بدقة محترفين، حتى ثنايا الثياب، جميع النقود والأوراق، أي شيء معدني، الأحزمة وأربطة الأحذية ... جميعها صودرت، "أنا كنت حافيا". ورغم كل هذه الدقة بالتفتيش فإن ساعة يدي مرت، لم أتعمد إخفاءها، فقط لم ينتبه لها احد، وعندما صاح المساعد:
- ولا كلاب ... كل واحد يحمل تيابه.
حملت ثيابي ووضعتها على يدي اليسرى، وفورا فككت الساعة ودسستها في الجيب الداخلي لسترتي، وشعور آخر بالانتصار.!
البلديــــــــات :
كلمة خاصة بالسجون هنا، هم جنود سجناء ... الفارون من الخدمة العسكرية، الجنود الذين يرتكبون جرائم القتل، الاغتصاب، السرقة، مدمنو المخدرات... كل الجنود المجرمين، حثالة الجيش، يقضون فترة عقوبتهم في السجون العسكرية، في مثل هذا السجن، مهمتهم التنظيف وتوزيع الطعام وغيره من الأعمال... من هنا جاء اسم البلديات، هؤلاء في السجن الصحراوي لهم مهمات أخرى.
جمعونا في أحد أطراف الساحة، تكومنا ونحن نحمل ثيابنا، صوت المساعد ارتفع كثيراً، البلديات يقفون في الطرف الآخر من الساحة. كثير من البلديات، البعض منهم يحمل عصاً غليظةً مربوط بها حبل متدل يصل بين طرفيها، حبل سميك يتدلى من العصا "الفلقة". صاح المساعد بصوت مشحون موجهاً حديثه للسجناء :
- مين فيكم ضابط ؟.. الضباط تعو لهون.
خرج اثنان من بين السجناء، أحدهما في منتصف العمر، الآخر شاب.
- شو رتبتك ؟
- عميد.
- عميد؟!!.
- نعم.
- وأنت شو رتبتك؟
- ملازم أول.
- هـممم.
التفت المساعد إلى السجناء، وبصوت أقوى:
- مين فيكم طبيب .. أو مهندس أو محامي.. يطلع لبره.
خرج من بيننا أكثر من عشرة أشخاص.
- وقفوا هون.. ثم متوجهاً للسجناء:
- كل واحد معه شهادة جامعة ... يطلع لبرّات الصف.
خرج أكثر من ثلاثين شخصاً، كنت أنا بينهم.
مشى المساعد مبتعداً، وقف بجوار البالوعة، صاح بالشرطة:
- جيبولي سيادة العميد!!
انقض أكثر من عشرة عناصر على العميد، وبلحظات كان أمام المساعد!!
- كيفك سيادة العميد؟
- الحمد لله ... الذي لا يحمد على مكروه سواه.
- شو سيادة العميد ... مانك عطشان؟
- لا .. شكراً.
- بس لازم نشربك.. يعني نحن عرب، والعرب مشهورين بالكرم، يعني لازم نقدم لك ضيافة... مو من شان شي ... منشان واجبك!!
بعد لهجة الاستهزاء والسخرية صمت الاثنان قليلاً، ثم انتفض المساعد، وقال بصوت زاعق:
- شايف البالوعة ؟ .. انبطح واشرب منها حتى ترتوي ... يالله ولا كلب!!
- لا ... ما راح اشرب.
وكأن مساً كهربائياً أصاب المساعد، وباستغراب صادق صرخ:
- شـو ..شـو ...شـو ؟؟!!! ما بتشرب!!!
عندها التفت إلى عناصر الشرطة العسكرية ولا زال وجهه ينطق بالدهشة:
- شربوه .... شربوه على طريقتكن و لا كلاب.... تحركوا لشوف.
العميد عارٍ إلا من السروال الداخلي، حافٍ، وبلحظات قليلة اصطبغ جسده بالخطوط الحمراء والزرقاء، أكثر من عشرة عناصر انقضوا عليه، تناوشوه، عصي غليظة، كوابل مجدولة، أقشطة مراوح الدبابات .... كلها تنهال عليه من جميع الجهات، من أول لحظة بدأ العميد يقاوم، يضرب بيديه العنصر الذي يراه أمامه، أصاب بعضهم بضربات يديه .... كان يلكم ... يصفع ... يحاول جاهداً أن يمسك بواحد منهم، ولكنهم كانوا يضربونه وبشدة على يديه اللتين يمدهما للإمساك بهم... تزداد ضراوتهم، خيوط الدم تسيل من مختلف أنحاء جسده .... تمزق السروال وانقطع المطاط، أضحى العميد عارياً تماماً، إليتاه أكثر بياضاً من سائر أنحاء جسده، خيوط الدم أكثر وضوحاً عليهما، خصيتاه تتأرجحان مع كل ضربة أو حركة، بعد قليل تدلت يداه الى جانبيه وأخذتا تتأرجحان أيضاً، سمعت صوتاً هامساً خلفي:
-تكسروا إيديه !! يا لطيف ... هالعميد يا رجال كتير .. يا مجنون!!
لم ألتفت إلى مصدر الكلام. كنت مأخوذاً بما يجري أمامي، مع الضرب بدأ العناصر يحاولون أن يبطحوه أرضاً، العميد يقاوم، يملص من بين أيديهم... تساعده دماؤه التي جعلت جسده لزجاً. تكاثروا عليه، كلما نجحوا في إحنائه قليلا ... ينتفض ويتملص من قبضاتهم وبعد كل حركة تزداد ضراوة الضرب ...
رأيت هراوة غليظة ترتفع من خلف العميد وتهوي بسرعة البرق !!.. سمعت صوت ارتطامها برأس العميد....! صوتأ لا يشبه أي صوت آخر....! حتى عناصر الشرطة العسكرية توقفوا عن الضرب، شُلوا لدى سماعهم الصوت لثوان....صاحب الهراوة تراجع خطوتين إلى الوراء .. جامدَ العينين ...!! العميد دار بجذعه ربع دورة وكأنه يريد أن يلتفت الى الخلف لرؤية ضاربه !! خطا خطوةً واحدة، وعندما هم برفع رجله الثانية .... انهار متكوماً على الإسفلت الخشن !!
الصمت صفحة بيضاء صقيلة تمتد في فضاءات الساحة الأولى ... شقها صوت المساعد القوي:
- يا لله ولا حمير ... اسحبوه وخلوه يشرب!!
سحب عناصر الشرطة العميد، واحد منهم التفت الى المساعد وقال:
- يا سيدي .. هذا غايب عن الوعي، شلون بدو يشرب؟!
- حطوا رأسه بالبالوعة .. بيصحى .. بعدين شربوه.
وضعوا رأس العميد بمياه البالوعة، ولكنه لم يصح.
- يا سيدي .. يمكن أعطاك عمره!
- الله لا يرحمه ... اسحبوه لنص الساحة وزتوه هونيك.
من يديه جروه على ظهره، رأسه يتأرجح، اختلطت الدماء بأشياء بيضاء وسوداء لزجة على وجهه!! مسار من خطوط حمراء قاتمة تمتد على الإسفلت الخشن من البالوعة الى منتصف الساحة حيث تمددت جثة العميد.
صاح المساعد وقد توترت وبرزت حبال رقبته:
- جيبولي .. هالكرّ الحقير ... الملازم لهون.
وبعد أن أصبح الملازم أمامه:
- شو يا حقير ؟ .. بدك تشرب ولا لأ؟
- حاضر سيدي .. حاضر .. بشرب.
انبطح الملازم على الإسفلت أمام البالوعة، غطس فكيه في مياه البالوعة، وضع المساعد حذاءه العسكري على رأس الملازم المنبطح وضغطه إلى الأسفل قائلاً:
- ما بيكفي هيك. لازم تشرب وتبلع!!
ثم تابع المساعد موجهاً حديثه للشرطة:
- وهلق .. خدوا هالكلب عا التشريفة ... بدي يكون الاستقبال تمام .!
الملازم الذي شرب وبلع المياه القذرة بما فيها من بصاق ومخاط وبول وقاذورات أخرى، ألقي على ظهره بسرعة مذهلة، ووضع اثنان من البلديات قدميه في حبل الفلقة، لفوا الحبل على كاحليه ورفعوا القدمين إلى أعلى.
القدمان مشرعتان في الهواء، ثلاثة عناصر من الشرطة توزعوا أمام القدمين وحولهما بطريقة مدروسة بحيث كانت كرابيجهم تهوي على القدمين بتناغم عجيب دون أن تعيق إحدى الكرابيج الأخرى، ارتفع صراخ الملازم عالياً، تلوى جسده يحاول خلاصاً، ولكن دون جدوى.
استفز صراخُ الملازم واستغاثاتًه العالية المساعد، مشى باتجاهه مسرعاً، وكلاعب كرة قدم وجه مقدمة بوطه إلى رأس الملازم وقذف الكرة.
صرخ الملازم صرخة حيوانية، صرخةً كالعواء... استُفز المساعد أكثر فأكثر، سحق فم الملازم بأسفل البوط، عناصر الشرطة يواصلون عملهم على قدمي الملازم، المساعد يواصل عمله سحقاً، الرأس، الصدر، البطن... رفسات على الخاصرة ... حركات هستيرية للمساعد وهو يصرخ صراخاً بالكاد يفهم:
- ولاك عرصات ... ولاك حقيرين .... عم تشتغلوا ضد الرئيس !!... ولاك سوّاك زلمة ... سواك ملازم بالجيش ... وبتشتغل ضده ؟!!... ولاك يا عملاء... يا جواسيس !.. ولاك الرئيس خلانا نشبع خبز... وهلق جايين أنتو يا كلاب تشتغلوا ضده ؟!... يا عملاء أمريكا.... يا عملاء اسرائيل ... يا ولاد الشرموطة ... هلق عم تترجوا ؟!!... بره كنتوا عاملين حالكن رجال ... يا جبناء ... هلق عم تصرخ ولاك حقير !!...
على إيقاع صرخات المساعد و"دبيكه" فوق الملازم، كانت ضربات الشرطة تزداد عنفاً وشراسةً، وصرخات واستغاثات الملازم تخفت شيئاً فشيئاً.
بعد قليل تمدد الملازم أول إلى جانب العميد !!. "لا أدري حتى الآن ماذا حل به ؟ هل مات أم لا ؟ ...هل كان لدى إدارة السجن أوامر بقتل الضباط أثناء الاستقبال أو التشريفة ؟".
والآن جاء دورنا. " إجاك الموت يا تارك الصلاة !" عبارة سمعتها فيما بعد من الإسلاميين حتى مللتها، ولكن فعلا جاء دورنا، حملة الشهادات الجامعية، ليسانس ، بكالوريوس ، دبلوم ، ماجستير .. دكتوراه ..
الأطباء شربوا وبلعوا البالوعة، المهندسون شربوا وبلعوا البالوعة، المحامون .. أساتذة الجامعات .. وحتى المخرج السينمائي .. شربت وبلعت البالوعة .. الطعم .. لا يمكن وصفه !! والغريب انه ولا واحد من بين كل الشاربين تقيأ !!.
وأصبح بين هؤلاء جميعاً شيئان مشتركان، الشهادة الجامعية، وشرب البالوعة !! .
ثم أكثر من ثلاثين، كل فلقة يحملها اثنان من البلديات، أمامها ثلاثة عناصر وثلاث كرابيج.... والكثير.. الكثير.. من القسوة، الألم، الصراخ.
الألم.. الضعف.. القهر.. القسوة.. الموت.. !!
قدماي متورمتان من آثار خيزرانة أيوب ، بالكاد أستطيع المشي. عندما مشيت في الساحة الأولى فوق الإسفلت الخشن ، كنت كمن يمشي على المسامير ، رفع البلديات قدمي الى الأعلى بالفلقة ، ثلاثة كرابيج تلسع قدمي المتورمتين .. موجة داخلية عارمة من الألم تتكوم وتتصاعد من البطن لتنفجر في الصدر... تنحبس الأنفاس عندما تهوي الكرابيج ... الرئتان تتشنجان ... تنغلقان على الهواء المحبوس وتتوقفان عن العمل ... ومع الموجة الثانية للألم وانفجاره في الصدر ... ينفجر الهواء المحبوس في الرئتين عن صرخة مؤلمة، أحسها تخرج من قحف الرأس ... من العينين ... أصرخ ... وأصرخ والقدمان مسمرتان في الهواء ... كل محاولاتي لتحريكهما ... لإزاحتهما ... فاشلة !! تنفصلان عني ... مصدر للألم فقط ... سلك يصل بينهما وبين أسفل البطن والصدر... موجات متلاطمة من الألم، تبدأ الموجة عندهما، تمتد وتتصاعد مرورا بأسفل البطن ... البطن ... الصدر ... ثم تتكسر عند الرأس، وصرخة ألم ورعب ومهانة ناثرةً الذهولَ وعدم الفهم والتصديق، أكثر من ثلاثين صرخة متوازية... متشابكة، لأكثر من ثلاثين رجلاً، تنتشر في فضاء الساحة الأولى.
في البداية استنجدت بالله ـ وأنا الذي كنت طوال عمري أتباهى بإلحادي ـ ، ولكن الله لم يستطع أن يفعل شيئا أمام جبروت الشرطة !!! فنقمت وتساءلت: ولكن أين الله، الساحة الأولى أكبر دليل على عدم وجود كائن اسمه الله!!
أكثر من ثلاثين صرخة ألم ... قهر ... تخرج من أفواه أكثر من ثلاثين رجلاً مثقفاً .. متعلماً !! أكثر من ثلاثين رأساً، كل منها يحوي الكثير من الطموح والأمل والأحلام، الكل كان يصرخ ... عواء ثلاثين ذئباً ... زئير أكثر من ثلاثين أسداً ... لن يكون أعلى من صراخ هؤلاء الرجال المتحضرين ... ولن يكون أكثر وحشية ... وحيوانية!!
يضيع صراخي وسط هذه الغابة من الصراخ وأصوات ارتطام الكرابيج بالأقدام ... وترتفع الأمواج.
أستنجد برئيس الدولة .. يشتد الضرب .. وأفهم منهم أن علي ألا أدنس اسم فخامته بفمي القذر. استنجد بنبيهم:
- من شان محمد!!!
لطمة على الرأس وصوت المساعد الراعد:
- إي .. بدي نيك أمك ... على أم محمد!!! ليش في حدا خرب بيتنا غير محمد ؟!
رأيته يبتعد عني ببطء.. فصرخت:
- يا سيدي دخيلك .. دخيل أختك.. بس كلمة واحدة!!
موجات الألم تتصاعد أكثر فأكثر ... تتلاطم أشد فأشد ... المساعد يبتعد أبعد فأبعد ... وأصرخ بأعلى صوتي:
- يا سيدي ... أنا ماني مسلم ... أنا مسيحي ... أنا مسيحي ... يا سيدي دخيلك ... أبوس أيدك ... أبوس رجلك ... أنا مسيحي!!
وببطء شديد يقف المساعد. لقد ميّز صوتي ضمن كل هذه الأصوات، سمعه، يعود ببطء أشد، يصل قربي، يرفع يده اليمنى لعناصر الشرطة بإشارة "كفى".
( مصيري الآن كله مرتبط بكلمة من فم هذا المساعد الذي بالكاد يعرف القراءة ).
يزرر عينيه ويسألني:
-أنت مسيحي ولا ؟
- نعم سيدي نعم ... الله يخليك ويطول عمرك ..
- مسيحي... وصاير إخوان مسلمين؟!!
- لا ..لا سيدي لا ... أنا ماني إخوان مسلمين.
- لكن ليش جايبينك ؟ .. هيك !! .. لوجه الله !! ... يعني تبلّي ؟ ... آه يا كلب ..آه ، إذا كانوا هدول العرصات يستحقوا الموت مرة واحدة، إنت لازم تموت مرتين!! ... يا لله شباب زيدوا العيار لهالكلب ... مسيحي وصاير إخوان مسلمين!!
مضى، والعناصر الثلاثة يزيدون العيار على القدمين وعنصر رابع تنهال كرباجه على فخدي العاريتين.
تقلصات الألم تزداد، لحم الفخذين رقيق ويختلف عن لحم باطن القدمين، أختنق بصرخاتي أسكت لحظات لأتنفس وأعب الهواء الذي سأصرخه، غمامة حمراء تتأرجح أمام عيني، حد الألم لا يطاق.
بعد أن خذلني المساعد، أعود إلى الله، لم يبق من مخلص غيره، وساعات الضيق وانعدام الأمل يعود فيها الإنسان إلى الله. عدت إليه، راجياً "سرا" أن ينجيني من الأشرار، كنت في غاية التهذيب وأعمق درجات الأيمان والخشوع:
- يا رب خلصني ... أنت المخلص، نجني من بين أيديهم.
قلت هذا الكلام دون أن انطقه، طاف بذهني، ومنه خرج مسرعاً باتجاه السماء.
قواي تخور، قدرتي على الصراخ تخفت، يصبح الألم حاداً كنصل الشفرة، أرى الكرابيج ترتفع عالياً، أتوقعها، إذا نزلت هذه الكرابيج على جسدي فأنا حتماً سأموت !! لم يبق أي طاقة لتحمل المزيد من الألم !!.. الموت... أعود إلى الله:
-يا رب دعني أموت ... دعني أموت ... خلصني من هذا العذاب.
يصبح الموت أمنية!! أتمنى الموت صادقا ... حتى الموت لا أستطيع الحصول عليه!!.
الكرابيج ترتفع وتهوي ... الغمامة الحمراء، السماء وردية، يخف الألم... يخفت الصراخ ... موجة ضعيفة من الخدر والنمل تنزل من القدمين إلى باقي أنحاء الجسم!!.
الخدر يزداد ... موجة من الارتياح اللذيذ تغمرني ... الكرابيج ترتفع وتهوي ... الألم اللذيذ ... أشعر بالجسد المتوتر قد ارتخى ... ثم أغيب !!!!.
نهاية الجزء الثالث .
يتبع ... خاص ألف
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |