أجزاء من كتاب اللاطمأنينة / ج1" فرناندو بيسوا " ت : المهدي أخريف *
خاص ألف
2012-07-29
توطئة :
يوجد في لشبونة نوع من المطاعم أو بيوت الأكل الواقعة في طابق أول، فوق دكان له شكل حانة محتشمة. ذي ملامح منزلية ثقيلة لمطعم منزو في مدينة صغيرة لا يصلها قطار. في ذلك الطابق، أو الطوابق القليلة الرواد، باستثناء أيام الآحاد من المتواتر اللقاء بنماذج مستطلعة بوجوه لا تقف عندها العين، من النمط العائش على هامش الحياة. خلال فترة معينة من حياتي, قادتني الرغبة في الهدوء والأسعار الملائمة الى أن أغدو واحداً من زبائن تلك المحلات. وقد اعتدت أثناء تناولي وجبة عشائي في السابعة، اللقاء بشخص أضحي مصدر اهتمامي شيئاً فشيئاً بعد أن لم أعره أي اهتمام في البداية. في الثلاثين من العمر كان يبدو نحيلاً ،أقرب إلى الطول منه إلى القصر. يبدو محدباً جداً في حال جلوسه أكثر مما في حال وقوفه. ثمة ما يوحي بعدم اكتراث نسبي لديه بهندامه. على وجهه الشاحب الخالي من أي ملامح مثيرة إمارة معاناة لم تضف عليه أي طابع مميز، إذ بدا من الصعب تعيين نوع المعاناة التي تنبئ عنه تلك الإمارة، ربما كانت دالة على صنوف من الحرمان والقلق وعلى تلك المعاناة المتولدة من اللامبالاة الناجمة عن التمرس الطويل بشتى صفوف المعاناة. كان دائماً يكتفي من عشائه بالقليل، وينهيه بتدخين لفافة من تبغ مليف. كان يراقب الأشخاص الموجودين حواليه بطريقة عجيبة غير مريبة وباهتمام خاص. لم يكن يدقق النظر فيهم، وإنما يراقبهم بدون أن يمعن النظر في ملامحهم أو يتفحص محللاً تعبيرات أمزجتهم، كان هذا الجانب الاستطلاعي الفضولي لديه هو أول ما أثار اهتمامي به. أصبحت أراه بصورة أفضل. تنبهت إلى وجود سمة من ذكاء تزكى بكيفية ملتبسة أساريره. بيد أن خمود المهمة والغم الفاتر ظلا يخفيان حقيقة مظهره الذي يصعب أن يستشف منا أي ملمح مميز. علمت بالصدفة بواسطة أحد نادلي المطعم، انه كان يعمل مستخدما تجاريا في ضيعة قريبة من هناك. ذات يوم جرت أسفل النوافذ مشهد ملاكمة بين شخصين. كل من مكان موجودا فوق، أسرع إلى النوافذ، وأنا بدوري فعلت الشيء نفسه وكذلك الشخص الذي أحدثكم عنه. تبادلت معه جملة عرضية، وأجابني بنفس النبرة. صوته كان مبحوحاً ومرتجفاً، هو صوت أولئك الذين لا يتوقعون شيئا لأنه من غير المجدي توقع شيء. لكن ما كان من المعقول، بفعل الصدفة إيلاء اهتمام خاص برفيقي المسائي في المطعم. لا أدري لماذا بدأنا نتبادل التحية منذ ذاك اليوم، وذات يوم وبفضل لقائنا الصدفوي على طاولة العشاء في وقت متأخر من حوالي التاسعة والنصف، انخرطنا في محادثة عفوية. وعند مستوى معين من الحديث سألني إن كنت أمارس الكتابة. أجبت بالإيجاب. حدثته عن مجلة "أورفي " (2) التي لم يكن قد مضى وقت طويل على صدورها. اثني عليها، كثيرا مما دفعني الى مصارحته باندهاشي لأن الأدب المكتوب في "أورفي " موجه للقلة فقط. وأضاف معلقا بان ذلك الأدب ينطوي على حسب رأيه على جدة حقيقية ؛ وبخجل قال إنه اعتاد – لكونه لا يعرف أين يتجه ولا ماذا يعمل، ولانعدام أصدقاء،يزورهم، وقلة اهتمام بقراءة الكتب - اعتاد أن يستهلك لياليه في غرفته المكتراة في الكتابة أيضاً. فصل أول عندما جاء الجيل الذي انتمى إليه إلى الوجود لم يجد أي سند عقلي أو روحي، ذلك أن العمل الهدام الذي قامت به الأجيال السابقة لنا. جعل العالم الذي ولدنا فيه مفتقراً إلى الأمان الديني. وإلى الدعم الأخلاقي، وإلى الاستقرار السياسي، لقد ولدنا.إذن في أوج القلق الميتافيزيقي. في أوج القلق الروحي، وفي أوج اللاطمأنينة السياسية. الأجيال التي سبقتنا لجأت متخمة بالصيغ الخارجية وبالمسائل البحتة للعقل والعلم، إلى الإطاحة بكافة أسس الأيمان المسيحي، لأن نقدها للكتاب المقدس، بانتقاله من نقد النصوص إلى النقد الميثولوجي، حول الأناجيل والعهد القديم لليهود الى ركام مشكوك فيه من الأساطير والخرافات ومن الأدب المحض،أما نقدها العلمي فقد دل بالتدرج على الأخطاء وعلى السذاجات الهمجية لـ" العلم " البدائي للأناجيل، وفي الوقت نفسه فإن حرية الجدل التي أخرجت الى النقاش العلني سائر المعضلات الميتافيزيقية، سحبت معها أيضا´ كل القضايا والمشكلات الدينية المنتمية إلى الميتافيزيقا. لقد انتقدت تلك الأجيال، ثملة ومتيمة بما أسمته«الوضعية " كافة الأخلاقيات، وقلبت كافة قواعد الحياة. ومن صدمة تلك المعتقدات لم يبق سوق يقين زوالها بالكامل. إن مجتمعاً مقوضاً في نظامه وأسسه الثقافية لم يكن بقادر على أن يكور شيئا آخر بالطبع، سور ضحية للانظامية شك، وكذلك جرت الأمور كما لو أننا أيقظنا عالما متعطشا إلى الجديد الاجتماعي. سيمضي ذلك الجيل مبتهجاً بتحقيق حرية لم يعرف كنهها، وتقدم لم يتمكن قط من تحديد ماهيته. لكن إذا كان النقد الابتذالي لآبائنا قد أورثنا استحالة أن نكون مسيحيين، في فإنه لم يورثنا بالمقابل، الرضا بذلك، إذا كان قد أورثنا عدم الإيمان بالصيغ الأخلاقية المتحققة، فإنه لم يورثنا اللامبالاة تجاه الأخلاق وتجاه قواعد العيش الإنساني، إذا كان قد ترك المشكل السياسي بدور حل. فهو لم يدع روحنا لا مبالية إزاء كيفية حل ذلك المشكل. لقد قوض آباؤنا ما قوضوا بفرح.لأنهم عاشوا في لحظة كانت ما تزال محتفظة بانعكاسات من صلابة الماضي الذي أطاحوا منه بما يهب المجتمع القوة حتى يتمكنوا من الهدم بدون أن يشعروا بتشققات البناء. نحن إنما ورثنا الهدم ومخلفاته. عالم اليوم هو عالم البلهاء وعديمي الإحساس والمهيجين. الحق في العيش وفي النجاح يتم اليوم بنفس المبررات التي يتم بها الحجز في مصحات الأمراض العقلية.
(( سلالة النهاية ))
أنتمي إلى جيل ورث الارتياب تجاه الإيمان المسيحي خالقاً في ذاته الكفر بكل أنواع الإيمان. آباؤنا مازالوا يمتلكون الباعث الإيماني الذي نقلوه من المسيحية إلى أشكال أخرى من الوهم. بعضهم كان من المتحمسين للمساواة الاجتماعية. بعض منهم اقتصر على عشق الجمال لذاته. بعض آخر أودع إيمانه في العلم ومنافعه، وثمة آخرون، أكثر مسيحية. مضوا يبحثون في مشارق الأرض ومغاربها عن أشكال تدينية أخرى لتلهية الوعي الذي سيغدو مجوفاً بدونها في تجربة العيش الخالص. هذا كله فقدناه نحن، ومن كل هذه التعزيات والبلاسم ولدنا يتامى. كل حضارة تتبع الخط الخاص للدين الذي يمثلها: الانتقال إلى أديان أخرى يؤدي إلى إضاعة هذا الدين، وإلى إضاعة الأديان كلها في النهاية. أما نحن فقد فقدنا هذا الدين منذ البداية وانتهينا إلى الاستسلام لذواتنا الفردية، داخل وحشية الإحساس بالحياة. إن المركب، أي مركب هو أداة هدفها الإبحار. بيد أن الغاية الفعلية ليست هي الإبحار. وإنما الوصول إلى ميناء. نحن وجدنا أنفسنا مبحرين. فاقدين لفكرة الميناء الذي علينا أن نرسو فيه. وهكذا أنجبنا، داخل الجنس الإنساني الموجوع، الوصفة المغامرة للأبطال الأسطوريين، الإبحار ضرورة، العيش لا. بلا أوهام نعيش بالكاد من الحلم الذي هو وهم من لا قدرة له على امتلاك الأوهام. وباقتياتنا من ذواتنا نزداد ضالة، لأن الإنسان الكامل هو الإنسان المتجاهل، وبافتقادنا للإيمان أصبحنا نعيش بدون أمل. ويفقداننا الأمل لم تعد حياتنا نحن هذه التي نحياها. ومع افتقارنا لأي فكرة عن المستقبل أصبحنا فاقدين لأي فكرة عن الحاضر، شأن الحاضر بالنسبة إلى رجل الفعل ليس سوى مدخل للمستقبل. معنا ميتة ولد طاقة الكفاح، لأننا ولدنا محرومين من حماسة الصراع. بعضنا سجن النفس في مجرد امتلاك ما هو يومي، مبتذلين صغار يلهثون وراء خبز كل يوم، راغبين في الحصول عليه بدون فعل محسوس، بدون الوعي بالمجهود المبذول. بدون نبالة ما ينال. آخرون من طينة أفضل: انسحبوا أو لنقل انسحبنا من الانشغال بالشأن العمومي. بدون أن نرغب في شيء ولا أن نطمح إلى شيء. محاولين حمل صليب وجودنا إلى جلجلة النسيان، مجهود لا طائل وراءه بالنسبة إلى من لا يملك مثل حامل الصليب، محركاً إلهياً داخل وعيه. آخرون استسلموا بانشغالهم بما يقع خارج الروح، للصخب والفوضى، يحسبون أنهم يحيون إذ يتبادلون الإنصات. ويحسبون أنهم يجربون الحب عندما يقعون في قشوره. يؤلمنا العيش لأننا نعلم أننا نعيش، الموت لا يخيفنا لأننا فقدنا المفهوم المعتاد عن الموت. غير أن آخرين من سلالة النهاية، الحد الروحي للساعة الميتة، لم يمتلكوا قسمة الرفض ولا الملاذ في ذواتهم، ما عاشوا في النفي والإنكار والغم، لكننا عشناه في الداخل، بلا إشارات منبهة محبوسين دائماً، على الأقل فيما يتطور بنوع الحياة، بين الجدران الأربعة للغرفة والجدران الأربعة لانعدام المعرفة بالفعل.
(( إرادة ميتة يهدهدها التأمل ))
أحسد - لكن لا أعرف إن كنت أحسد حقاً - أولئك الذين يمكن أن نكتب عنهم بيوغرافيات، أو بإمكانهم هم كتابة سرورهم الخاصة، في هذه الخواطر المفتقرة إلى الترابط وإلى الرغبة في أي ترابط، أسرد بلا اكتراث سيرتي الخالية من الأفعال، تاريخي الذي بلا حياة، إنها اعترافاتي الخاصة. وإذا لم أقل فيها شيئا ذا قيمة فلأنه ليس لدي ما أقول. ما قيمة اعترافاتنا وما جدواها؟ ما حدث لنا. وما يحدث للجميع أو لنا وحدنا فحسب هو مجرد حدث عرضي، وليس بشيء جديد، كما أنه ليس مما يقبل الفهم، إذا كنت أكتب ما أحس فلأنني بفعل هذا الكتابة أخفض من حمى الإحساس. ما أحكيه لا يكتسي أي أهمية. إذ ما من أهمية لشيء. إزاء ما أحسّه أخلق مشاهد عديدة، أجعل من الأحاسيس احتفالات خاصة. بفضل المرارة وحدها أتفهم جيداً النساء المشتغلات بالتطريز، اللاتي يصنعن غرزات التطريز تلو الغرزات لأن الحياة موجودة. خالتي العجوز تتسلى بلعبة الورق المنفردة إلى ما لانهاية للسهرة هذا الاعترافات الاحساسية هي ألعاب الورق المنفرد الخاصة بي، وأنا لا أدونها كمن يقرأ حظه من خلال ورق اللعب، لأن الأوراق في لعبة الورق المنفردة لا قيمة لها بذاتها، ألقي بنفسي على الطاولة مثل كبة غزل متعددة الألوان، أو أصنع مني أصنافاً من خيوط تشبه تلك التي تحاك بين الأصابع الممدودة لتنتقل من مجموعة أطفال إلى مجموعة أخرى، منشغل أنا فحسب بالا يخبل إبهامي العقدة الخيطية المتصلة به. بعد ذلك أسحب يدي، فيغدو المشهد مختلفاً، وأعود لأبدأ من جديد. أن تعيش معناه أن تضع الغرزة تلو الغرزة بنفس قصدية الغير، لكنك، ما إن تنهمك في وضعها حتى يغدو الفكر حراً، وكل الأمراء السعداء يمكنهم التفسح في حدائقهم وسط غررات الإبرة العاجية للمنقار المعكوس.. تطريزة الإبرة المعقوفة للأشياء.. فاصل.. لاشيء.
(( بالنسبة إلى ما تبقى ))
ما الذي بإمكاني الاعتداد به ؟.. أحاسيس مروعة، إدراك عميق بما أحسّ، مع توقد ذهني حاد موجه لتدمير الذات.. ثمة طاقة حلم رغبتها في تعزيتي تزداد شراهة.. ثمة إرادة ميتة يهدهدها التأمل، بين الغرزة والغرزة، مثل طفل حي.. أجل، غرزة إبرة معقوفة. لو كان العالم ملك يدي رابط الجأش، أواجه حبسي الدائم لحياتي في شارعLosDoradores (3) هذا، في نفس هذا المكتب بين هؤلاء الناس حيث أعيش بالقليل المتاح لي، وحيث المحدود من الفضاء الحر المتاح في الزمن لي كيما أحلم، أكتب - أنام -، وما الذي بإمكاني أن ألتمسه أنا من الآلهة أو أتوقعه من القدر؟ .. كانت لدي طموحات كبيرة وأحلام واسعة، لكن الحمال ومتعلمة الخياطة كذلك كانت لديهما نفس الأحلام، لأن الأحلام مشاع للجميع : ما يجعلنا متمايزين هو القدرة على تحقيقها أو قدرة تحققها فينا، في الحلم نحن سواء متعلمة الخياطة والحمال وأنا، ما يميزني عنهما هو معرفتي بالكتابة التي هي فعل خاص بي، على مستوى الروح نحن سواء حسناً أعرف أن هناك جزراً في الجنوب وعشقيات كونية كبيرة و(...) (4).
لو كان العالم ملك يدي لغيرته،وأنا متيقن مقابل تذكرة LosDoradores.
ربما كان مقيضا لي أن أظل محاسبا الى الأبد. أما الأدب والشعر فهما بمثابة فراشة كلما كانت أجمل وأبهى بدوت أكثر إثارة للسخرية بفعل حومانها فوق راسي.
سأحس بكل اشتياقي Moriera, (5). لكن ما الذي تعنيه الاشتياقات أمام المعارج الكبرى؟
أعلم جيدا أن اليوم الذي سأغدو فيه محاسبا(6) في إدارة فاسكيز سيكون من الأيام المجيدة في حياتي، أعلم ذلك بتكهن استباقي مرير وتهكمي لكنني أعلمه بالامتياز العقلي لليقين.
إعداد : ألف
يتبع *
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |