القــوقعـة / يوميات متلصص / ج 5 مصطفى خليفة*
خاص ألف
2012-08-28
31 كانون الأول*
اليوم عيد رأس السنة، ترى أين تسهر سوزان اليوم ؟! "لم أكن منتبهاً الى مسألة التواريخ هذه، الأيام هنا كلها متشابهة، ولكني سمعت رئيس المهجع يقول ملاحظة إلى بعض السجناء بأن اليوم هو رأس السنة الميلادية وأن غداً هو يوم الخميس، ومن حسن الحظ أن هؤلاء الظالمين يسهرون ويعربدون ويفسقون في هذا اليوم حتى الصباح، بعدها ينامون، ومعنى ذلك ان الهليوكوبتر لن تأتي غداً، لا محاكمات ... لا إعدامات".
بعدها أصغيت للأصوات خارج المهجع، يبدو أن بعض عناصر الشرطة يحتفلون برأس السنة في غرفهم، "حفل في الجحيم" خطر بذهني هذا العنوان، هل هو عنوان فيلم ؟!
عنوان رواية ؟... أو مسرحية ؟ لا يهم.
سوزان، خلال الشهور الثمانية الماضية كان حنيني إليها يكاد يكون وحشياً!.
أهلي، أين هم الآن؟ ماذا يفعلون؟ بماذا يفسرون غيابي طوال هذه الفترة؟ ماذا فعلوا ليعرفوا أين أنا ؟... وأين ولماذا اختفيت ؟... أبي وأمي يعيشان هنا وكانا ينتظران وصولي... أنا لم أصل إلى البيت، إذاً أين أنا؟؟ يجب أن يكون هذا تساؤلهما الرئيسي!.
أبي ضابط متقاعد وله معارفه، وكذلك خالي فهو يملك بعض النفوذ، وبعض الأقرباء الآخرين، لماذا لم يتحركوا حتى الآن لانتشالي من هذا الجحيم؟... ولكن ما أدراني!! قطعا إن جميعهم الآن يتحركون ويسعون.
هذه الأفكار أشعرتني ببعض الأمل!.
أحتاج إلى شخص أحادثه عن كل هذه الأمور، أسأله، أبثه همومي. أنظر حولي فتصدمني الوجوه المغلقة، أكثر من نصف عام مرّ على مقاطعتهم لي، فقط بضع كلمات من رئيس المهجع عند الضرورة، وبضع كلمات من زاهي خلسة. فمي مطبق لا يفتح إلا أثناء إدخال الطعام. أحس أن لساني قد بدأ يصدأ. هل يمكن للإنسان أن ينسى عادة الكلام إذا لم يتكلم لفترة طويلة؟. يجب أن أتكلم حتى لو مع نفسي وليقولوا أنني مجنون!!.
لا أستطيع أن ألمس شيئاً من أشيائهم، أجسادَهم. مرةً كنت ماشياً باتجاه المغاسل فاصطدمت يدي بيد واحد منهم كان عائداً من المغاسل، رجع واغتسل ليتطهر. إذا استخدمت حنفية الماء فإن من يأتي بعدي يغسلها بالصابون سبع مرات، لأنني ببساطة "نجس". مرةً سمعت واحداً يقول للآخر بأنه لا يكفي أن يغسل الحنفية بالصابون سبع مرات، إنما يجب أن يكون لدينا بعض التراب... لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال :
"إذا ولغ كلب في إناء ، فاغسلوه سبع مرات إحداها بالتراب."
من يقوم بتوزيع الطعام يضع الطعام لي أمام فراشي ويتحاشى أن يلمس بطانيتي أو ينظر إلي، كانوا يتكتمون أمامي! ولكن رغم ذلك استطعت أن أعرف الكثير عن حياتهم الداخلية ووسائل عيشهم وأساليبهم داخل السجن.
الصلاة *
الصلاة ممنوعة منعاً باتاً بأوامر مدير السجن. عقوبة من يقبض عليه متلبساً بجرم الصلاة هي " الموت "، رغم ذلك فإنهم لم يكونوا يفوتون ولا صلاة واحدة. صلاة الخوف، يوجد شيء من هذا في الإسلام، ولكن هنا طوروها بحيث أن الإنسان يصلي وهو جالس في مكانه أو في أي وضعية أخرى، دون ركوع أو سجود. إدارة السجن عرفت هذا أيضاً، ويتناقلون حديثاً لمدير السجن قاله أمام السجناء الشيوعيين، ودائماً حديث مدير السجن أشبه ما يكون بالمحاضرات أو الخطب، خاطب الشيوعيين قائلاً:
ـ هؤلاء الكلاب ... الإخوان المسلمون، البارحة فقط أمضيت أكثر من نصف ساعة وأنا أشرح لهم وأفهمهم أن القومية أهم من الدين، ولكن هل تتصورون أنهم اليوم عادوا يصلون !!! عجيب أمر هؤلاء الناس !! لماذا ذهنهم مغلق إلى هذه الدرجة ؟!.
الاتصال *
جميع المهاجع ملتصقة ببعضها، كل مهجع ملتصق بمهجعين آخرين من اليمين واليسار، وأحياناً من الخلف أيضاً، وهذا الأمر سهّل الاتصال بين السجناء كثيراً، ويكون ذلك بالدق على الحائط حسب طريقة مورس، دقة على الحائط ... دقتان ... دقة قوية ودقة ضعيفة... نفس رموز البرقيات التي ترسل وفق طريقة مورس.
كل ما يجري داخل السجن، الدفعات الجديدة، من مات، عدد الذين اعدموا وأسماؤهم، الأخبار خارج السجن والتي ينقلها السجناء الذين جاؤوا حديثاً، كل هذه الأشياء كانت تنتقل عبر المهاجع وفق رموز المورس، وفي كل مهجع مجموعة مخصصة لتلقي وإرسال تلك الرموز، تقف خلفهم مجموعة الحفظة.
بدأ الحفظ منذ بداية "المحنة " كما يسميها الإسلاميون، كان الشيوخ الكبار يجلسون ويتلون سورَ وآياتِ القرآن على مجموعة من الشباب، وهؤلاء يظلون يكررونها حتى يحفظوها، وهكذا تولدت آلية الحفظ هذه، لم يبق أحد في المهجع إلا وحفظ القرآن من أول حرف إلى آخر حرف، ومع كل دفعة جديدة كانت تبدأ دورة جديدة، ولاحقاً تطور الأمر باتجاه آخر، يتم انتقاء مجموعة من الشباب صغار السن يحفظون إضافة الى القرآن وأحاديث النبي محمد ... ما يمكن تسميته بسجل السجن، أسماء كل من دخل هذا السجن من الحركات الإسلامية. "في مهجعنا شاب لم يبلغ العشرين من عمره، يحفظ أكثر من ثلاثة آلاف اسم، اسم السجين، اسم مدينته أو بلدته، قريته، تاريخ دخوله السجن ... مصيره!!." بعضهم متخصص بالإعدامات والقتل، وهم يسمون كل من يقتل أو يعدم في السجن شهيداً، وهذا سجل الشهداء. أيضا يحفظون الاسم، عنوان الأهل، تاريخ الإعدام أو القتل.
أعجبت بهذه الطريقة وأخذت أدرب نفسي عليها، وبعد أن امتلكت القدرة الكافية قررت كتابة هذه اليوميات، أكتب الجملة ذهنيا، أكررها... أحفظها، أكتب الثانية... أحفظها، في آخر اليوم أكون قد كتبت وحفظت أهم أحداث اليوم، واكتشفت أنها طريقة جيدة لشحذ الذهن وتمضية الوقت الطويل في السجن، وفي صباح اليوم التالي أتلو كل ما حفظته البارحة.
عرفت لاحقا أن ما حفظ حياتي هو أنهم ليسوا مجموعة واحدة، فبالإضافة للمتشددين الذين حكموا علي بالموت، يوجد التنظيم السياسي وهو تنظيم لم يحمل السلاح ولم يشارك بالعمليات العسكرية، وهناك جماعة التحرير الإسلامي وهم جماعة مسالمة ومنهم الشيخ محمود وزاهي اللذان أنقذا حياتي، وكذلك جماعات الصوفية وهي كثيرة ومتشعبة... وغيرهم.
هذه المجموعات بقدر ما كانت تبدو متماثلة ومتشابهة، يختلف بعضها عن بعضها الآخر إلى درجة أن هذه الخلافات كانت تصل إلى حد التكفير، إلى حد الاصطدام والاشتباك بالأيدي والضرب المبرح دون رحمة أو شفقة.
هم قساة إلى درجة أن بعض أعضاء الجماعة المتشددة كانوا يروون كيف أنهم أنهوا تدريبهم العسكري ببيان عملي قتلوا خلاله بعض "الزبالين" في الصباح الباكر أثناء قيام هؤلاء بتنظيف الشوراع، وكان هذا مجرد تدريب أو "عمادة بالدم". هؤلاء أنفسهم يتحولون إلى كائنات في منتهى الرقة و يبكون عندما يروي قادم جديد أن أجهزة المخابرات كانت تعذب طفلاً صغيراً أمام والده أو والدته لإجبارهم على الاعتراف، أو كيف تم اغتصاب إحدى الفتيات أمام والدها لإهانته وإذلاله وإجباره على الإدلاء بما يملك من معلومات.
شجاعتهم أسطورية في مواجهة التعذيب والموت، وخاصةً لدى فرق الفدائيين، وقد رأيت أناساً منهم كانوا يفرحون فرحاً حقيقياً وهم ذاهبون للإعدام. لا أعتقد أن مثل هذه الشجاعة يمكن أن توجد في مكان أخر أو لدى مجموعة بشرية أخرى.
هناك الكثير من الجبن أيضاً، ولكن الجبن لا يلفت النظر بقدر الشجاعة. ففي ظل هذا الوضع يبدو الجبن والخوف طبيعيين والشجاعة استثنائية. ولكن هنا عندما يكون الجبن مبالغاً فيه يعزى إلى قلة الإيمان بالله.
" كسلحفاةً أحسّت بالخطر وانسحبت داخل قوقعتها، أجلس داخل قوقعتي.... أتلصص، أراقب، أسجل، وأنتظر فرجاً".
31 أب*
صيفان وشتاء واحد مروا وأنا هنا وسط هذه الصحراء المترامية، هنا لا توجد فصول أربعة، فقط فصلان، صيف وشتاء، ولا ندري أيهما أشد قسوة من الآخر، في الصيف يبدو الشتاء رحيماً، وأثناء الشتاء نحس العكس.
نحن الآن في عز الصيف. الجو لاهب، لا يوجد هواء لنتنفسه، الهواء ثقيل جدا بحيث نحتاج إلى جهد كبير لشفطه إلى داخل الرئتين، وهذا يجعل عرَقنا يسيل سيلاً، سمعت بعضهم ممن يعرف المنطقة سابقاً يقول إن درجة الحرارة قد تصل الخمسين أو حتى ستين درجة مئوية في الخارج، وفي الظل داخل المهجع لا تقل عن الخمسة وأربعين درجة مئوية، تأفف أحدهم:
ـ العمى ... شو نحن مسجونين بفرن !!.
بعض كبار السن قضوا اختناقا، رئيس المهجع يدق الباب ويخبر الشرطة بموت أحدهم، يفتحون الباب، ويبدو صوت الشرطي سائلاً من شدة الحرارة:
ـ وين هادا الفطسان ؟... يالله ... زتوه لبرّه.
يحتال رئيس المهجع لإبقاء بعض أواني الطعام البلاستيكية داخل المهجع ومنذ الصباح الباكر وقبل استيقاظ الناس تقوم الخدمة اليومية بملء الأواني بالماء، جميع السجناء بالسراويل الداخلية التي تغطي " العورة " فقط، من السرة إلى الركبة، يدخل أربعة سجناء إلى الفسحة الصغيرة أمام المراحيض، يقوم أربعة من عناصر الخدمة اليومية "وهذه الخدمة منظمة دورياً من السجناء أنفسهم، أنا معفى من كل أنواع الخدمة !" بصب الماء على رؤوس وأجساد الأربعة، ويخرج هؤلاء سريعاً والماء يقطر منهم، يدخل أربعة غيرهم ... وهكذا.
ستة بطانيات مبللة بالماء، كل بطانية يمسكها اثنان من الخدمة، يقفون على مسافات متساوية داخل المهجع، يهزون البطانيات جاعليها كمراوح لتحريك الهواء وترطيب الجو، هذا هو اليوم الصيفي العادي.
أما اليوم الشتائي فهو يوم منكمش، ثياب الجميع قد تهرأت ولا يمكن أن تقي من البرد الصحراوي الحاد الذي ينخر العظام ويجمد المفاصل، ثلاثة بطانيات تعاقبت عليها الأيام واستخدمها قبلي مئات السجناء، ألبس بذلتي الباريسية الأنيقة، السترة والبنطال وكان الشرطة قد صادروا "الكرافات"، سترة البذلة لا زالت بحالة جيدة، أما البنطال فقد اهترأ عند الركبتين وفي المؤخرة، السحاب قد خرب وتقطعت الأزرار، ألبسه ليلاً نهاراً وعلى مدار الأيام، وقد نَسلت بعض الخيوط من البطانية وجدلتها وجعلتها حزاما أثبت فيه البنطال بدلاً من الأزرار والسحاب، "شاهدت غيري يفعل هذا ففعلت". هنا لا يوجد خيطان أو إبر خياطة، أصبح لدي سروالان داخليان، أحد القادمين الجدد إلى المهجع كان أهله أغنياء جداً، وقد استطاعوا زيارته أثناء وجوده في فرع المخابرات بعد أن دفعوا ما يوازي ثروة صغيرة كرشوة إلى الضابط المسؤول، وهناك من نصحهم بأن يأخذوا لابنهم الكثير من الثياب. "جلب معه أكثر من مائة غيار داخلي، كان نصيبي منها سروالاً داخلياً، أعطاني إياه رئيس المهجع:
ـ خود هذا .... مشان يكون عندك بدل!
البرد الصحراوي أقسى من أي برد آخر، عشت أياماً باردة جداً في فرنسا كانت الحرارة تصل إلى تحت الصفر ، ولكن ذلك البرد يبدو برداً مهذباً، بينما البرد هنا وقح صفيق!
أما مشكلة القمل فتكون أصعب في اليوم الشتائي، فلا حل للقمل المنتشر بكثافة في جميع المهاجع إلا أن تجلس وتخلع كل ثيابك وتبدأ بالتفتيش عنه في ثنايا الثياب، الجميع هنا يفعل ذلك وفعلت مثلهم بعد أن هرش جلدي، ولكنني لم استطع أن أخرج الصوت الذي يخرجونه من بين أسنانهم "تسه" كلما فقسوا قملة بين اظفري الإبهامين!!
كل يوم بعد وجبة الإفطار يخلع الجميع ثيابهم ويبدؤون تفليتها بحثاً عن القمل، وأنا أيضاً أمسك القملة وأهرسها بين الأظفرين، كان وجود القمل بهذه الكثافة محيراً، تساءل أحدهم بغضب:
ـ العمى منين عم يجي كل هالقمل ؟!.. كل يوم ننظف ثيابنا منه، كل يوم نتوضأ خمس مرات، على الأغلب نغسل كل يوم جسمنا بالماء البارد والصابون، نغسل ثيابنا، نغسل بطانياتنا، وباليوم الثاني نشوف القمل أكثر ... وأكثر !!.. العمى... في حدا عم يرش المهاجع بالقمل؟!!
10 أيلول*
لأول مرة يدور في المهجع نقاش خارج عمّـا هو موجود في القرآن أو السنة النبوية ، نقاش طويل شارك فيه أكثر من عشرة أشخاص بينهم اثنان من المشلولين، " كل النقاشات، الحوارات، حتى الشجارات ... تتم بصوت منخفض خشية أن تسمع الشرطة". وكان موضوع الحوار هو الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية، بدأ هذا النقاش طبيب دارس في أوربا بملاحظة سريعة أبداها حول الحرية ومُثل الديمقراطية الغربية، استمر النقاش طويلا وانتهى بقول أحد المشلولين:
ـ تقول الحضارة الغربية !... انظر يا أخي حولك، أنا مشلول بالكرسي الألماني، وهذا محمد علي مشلول أيضا برصاصة استقرت بعموده الفقري مصنوعة في روسيا، هذا السجن بنته فرنسا، القيود التي كبلوا بها يديّ مكتوب عليها "صنع في أسبانيا"، الضابط الذي اعتقلني يحمل مسدساً بلجيكيا، الضباط الذين يشرفون على التحقيق والتعذيب تدربوا في أمريكا وبريطانيا وروسيا ... هذه منتجات الحضارة الغربية، وإذا أضفت إلى كل هذا الكثير من الفسق والفجور والانحلال الأخلاقي تكون الحضارة الغربية مجسدة أمامك.
بصوت تعب وبلهجة من يود إنهاء نقاش لا طائل تحته، لكنه لا يريد التسليم بحجج الخصم، رد الطبيب:
ـ إن في هذا الكثير من التجني والاجتزاء، أنا لا أقول أن نقلد الغرب أو نأخذ سلبياتهم، في الغرب أيضاً العلوم والطب وتطور الزراعة والصناعة ... وفوق كل هذا وأهم من كل شيء ... هو أن لديهم إنساناً حراً ومحترماً، إذا أردنا أن نتقدم علينا أن نتعلم منهم الكثير وخاصة احترام الإنسان واحترام حريته، وهذا ليس عيباً.
نهاية الجزء الخامس
إعداد : ألف *
يتبع ...
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |