من كتاب ( اللاطمأنينة ) " فرناندو بيسوا " ت: المهدي أخريف * ج 2
خاص ألف
2012-09-02
الباطرون فاسكيز *
الباطرون فاسكيز،أشعر، أحياناً كثيرة، على نحو غير قابل للتفسير بالنوم المغناطيسي للباطرون فاسكيز. ماذا يمثل ذلك الرجل بالنسبة إلي عدا كونه المتحكم في أوقاتي، يعاملني بصورة جيدة، أثناء فترات نهارية معينة. يحادثني بلطف باستثناء لحظات مفاجئة من قلق مجهول يعتريه وحينئذ لا يحادث أحدا بلطف. أجل. لكن لماذا يهمني أمره ؟ أهو رمز أهو باعث، ما هو؟
الباطرون فاسكيز، سأتذكره جيداً في المستقبل بالحنين الذي أعلم أن علي أن أحسه حينئذ، سأكون مطمئناً في منزل صغير في ضواحي مكان ما، مستمتعاً بالطمأنينة التي لن أقوم خلالها بالعمل الذي لا أقوم به الآن، ولسوف أبحث، لكي أواصل عدم قيامي به، عن التبريرات المختلفة التي أتفادى بها مواجهة ذاتي نفسها اليوم. وإلا فسأكون محتجزاً في مأوى للمتسولين، سعيداً بالفشل التام، مختلطاً بشاكلة من توهموا أنفسهم عباقرة وما كانوا بأكثر من شحاذين ذوي أحلام، مع ذلك الحشد الغفل ممن لم يمتلكوا القدرة على النجاح ولا التناول الأريحي للنجاح المعكوس. كائنا حيثما كنت سأتذكر الباطرون فاسكيز بنوسطالجية، سأتذكر مكتب شارع LosDoradoresورتابة الحياة اليومية ستغدو بالنسبة إليّ كما لو كانت ذكرى غراميات لم أحظ بها أو نجاحات لا ينبغي أن أحظى بها.
الباطرون فاسكز، من هنآك أراه اليوم، كما أراه من هنا بالذات - قامة متوسطة، ربعة عاد متزن وعاطفي، صريح ومراوغ، لطيف وفظ - إنه الرئيس - بصرف النظر عن ماله، بيديه المشعرتين والمتمهلتين بأوردته المعلمة كعضلات صغيرة ملونة، بالرقبة الممتلئة لكن غير الغليظة، والخدين الملونين الصافيين في الآن ذاته، تحت الذقن الحليقة دائماً في الوقت المناسب.
إنني أراه، أرى عينيه، عيني المتسكع النشيط، العينان اللتان تتأملان أشياء الخارج نحو الداخل، أتلقى بلبلة مصادفته،هنا، بدون رغبة فتبتهج روحي لابتسامته، ابتسامة واسعة وانسانية مثل تصفيق جمهور.
ذلك يحدث ربما لأنه لا وجود لوجه أهم من وجه الباطرون فاسكيز بجانبي، مما جعل هذا الوجه العادي وحتى المبتذل يوقعني في حبائله مراراً، ويلهيني عن نفسي ذاتها. أعتقد أن في الامر رمزاً أكيداً. هذا الرجل مثل في حياتي شيئاً أهم مما هو علية اليوم.
الزهو اللامجدي*
أحياناً عندما أرفع الرأس الأرعن عن الكتب التي أدون فيها حسابات الغير، مدوناً غياب الحياة نفسها، أشعر بغثيان فيزيقي، قد يكون ناجماً عن طول انحنائي، لكنه غثيان يفوح بالأرقام وانجلاء الأوهام، تقرفني الحياة مثل دواء لا نفع فيه، أحس حينئذ من ظلال رؤى بالغة الوضوح كم سيكون سهلاً أن أبتعد عن هذا الضجر لو كنت أمتلك ببساطة قوة الرغبة في الابتعاد عنه بالفعل.
بفضل الفعل نحيا نحن، أي بفضل الإرادة والعجز يؤاخينا مع من لا نعرف كيف نحب، عباقرة كنا أم شحاذين. ماذا سيفيدني أن أدّعي عبقرياً إن كنت مجرد مساعد حسابات ؟ عندما عمل ثيساريوفيردي(7) على أن يطلقوا على الطبيب الذي كان لا السيد فيردي المستخدم التجاري، وإنما الشاعر ثيساريو فيردي، فقد استخدم لفظة من ألفاظ الزهو اللامجدي التي تنضح برائحة الغطرسة. المسكين الذي ظل مسكيناً على الدوام هو السيد فيردي، المستخدم التجاري، أما الشاعر فقد ولد بعد موته لأن التقدير الخاص بالشاعر إنما ولد بعد موته.
الذكاء الحقيقي يتحقق في الفعل. سأكون ما أرغب في أن أكون، لكن علي أن أرغب أولاً، علي أن أريد أي شيء. النجاح يكون بتحقيق النجاح وليس بامتلاك مؤهلات لتحقيق النجاح. بإمكان أي كان في أرض الله الواسعة أن يمتلك مؤهلات الحصول على قصر. لكن أين يوجد القصر إن لم يتم تشييده هناك ؟
حديث النثر*
أفضل النثر على الشعر، كشكل من أشكال الفن لسببين الأول شخصي خاص وهو أنني غير قادر على الاختيار، وإذن فأنا عاجز عن كتابة الشعر، السبب الثاني عام، وهو ليس - أعتقد ذلك حقا - ظلا أو قناعا، إنه يمس المفهوم الخاص لقيمة الفن بكاملها.
أعتبر الشعر شيئاً وسيطاً، خطوة من الموسيقى باتجاه النثر. الشعر، مثل الموسيقى، محكوم بقوانين ايقاعية محددة، وحتى لو لم تكن من نمط القوانين الصارمة للشعر المنظوم، فهي قائمة، مع ذلك كدفاعات، كإكراهات كأجهزة أوتوماتيكية للضغط والعقاب. في النثر نحن نتحدث أحراراً، بإمكاننا أن نضمن ايقاعات شعرية، وأن نوجد خارجها، مع ذلك، إن تسرب إيقاع شعري معين بصفة عرضية إلى النثر لا يعوق النثر، لكن تسرب إيقاع نثري عرضاًإلى الشعر يعوق الشعر.
الفن كله متضمن في النثر، من جهة لأنه في الكلمة، الكلمة الحرة يتركز العالم بكامله. ومن جهة ثانية لأنه في الكلمة الحرة توجد الامكانية الكاملة لكي نعبر عن العالم ونفكر فيه في أن، في النثر نمنحه كل شيء، بواسطة التحويل، نمنحه اللون والشكل اللذين ليس بمقدور الرسم منحه إياهما إلا على نحو مباشر.وبدون أي بعد حميم، ونمنحه الايقاع الذي لا تمنحه الموسيقى إلا مباشرة أيضاً، وبدون شكل مجسد، ومجرداً من ذلك الجسد الثاني الذي هو الفكرة ونمنحه البنية التي إذا كان على المعماري أن يشكلها من مواد صلبة، معطاة وخارجية فإننا نصنعها من إيقاعات وترديدات من متتاليات وانسيابات ثم نمنحه الواقعية التي على المثال أن يخلفها في العالم بلا ليونة ولا استحالة وأخيراً نمنحه الشعر، الشعر الذي دور الشارع فيه شبيه بدور المبتدئ في محفل سري، هو عبد، وإن طوعا، لمقامات وطقوس معينة.
إنني على يقين من أنه، في عالم متحضر تماماً، لن يوجد فن آخر غير النثر.
سوف نترك الغروب للغروب، معتنين بالفن وحده، مستوعبينه شفهياً، ناقلينه هكذا بواسطة موسيقى تفهم بالقلب. لن نصنع نحتاً للأجساد التي ستحتفظ مرئية وممسوسة برونقها متحركاً وبردوتها ناعمة. سننشي ء بيوتاً، فقط لنقيم فيها، وهو ما من أجله وجدت البيوت في النهاية. أما الشعر فسيبقى ليقرب الأطفال من النثر المستقبلي، لأن الشعر، بالفعل طفولي وأولي وتحضيري.
حتى الفنون الدنيا، أو تلك التي يمكن تسميتها كذلك، تظهر وشوشاتها في النثر. ثمة نثر يرقص، نثر يغني، نثر ينشد بذاته لذاته ايقاعات شفهية هي بحد ذاتها رقصات تتعرى فيها الفكرة ملتوية بشهوية وحسوية نصف شفافة ومتقنة، ثمة في النثر أيضاً خبايا مرتعشة، يبث فيها ممثل كبير هو الفعل. بجوهره المجسد، عبر الايقاع سر الكون المتعذر على الادراك المحسوس.
شهوة الكلمات*
يحلو لي التلاعب بالكلمات (8). إنها بالنسبة الي أجساد يمكن لمسها، حوريات مرئيات شهوانيات لا ماديات، ذلك لأن الشهوة الفعلية لا تستثير أي اهتمام لدي. سواء في الواقع أو في الأحلام. لقد استعضت عنها بما يولد الايقاعات الشفهية لدي أو الرغبة في الانصات إلى تجسدها عند الآخرين بحيث تتولد الرعشة في عندما يتم التلفظ بها بإتقان. من ذلك مثلاً أن قراءة صفحة لـFIALHO (9) أو لشاتوبريان من شأنها أن تصيب شراييني بالتنمل مسببة لي ألماً شديداً مصحوباً بقشعريرة داخلية هادئة بفعل المتعة الغالية التي أجنيها من هذه القراءة.
كما أن صفحة من صفحات Vieira (10) بإتقانها البارد ذي الهندسة النحوية تحملني على الارتعاش ارتعاشة غصن إزاء الريح في هذيان منصاع لشيء نواس.
ومثل كل العشاق الكبار أعشق حلاوة الانفقاد في ذاتي نفسها. حيث متعة الاستسلام كاملة تعاش. هكذا أكتب، أحايين كثيرة بدون رغبة في التفكير في أي هذيان خارجي مسلّماً أمري للكلمات تصنع احتفالاتها بي، مثل طفل صغير في حضنه الأليف. جمل لا معنى لها تجري ناعمة جريان مياه محسوسة،. جداول غفل. حيث الموجات تختلط لا متعينة متحولة باستمرار إلى غير ما كانته. كذلك الأفكار، الصور، رعشات التعبير، من خلالي تمر، بمغازلات صائتة لتموجات حريرية خافتة حيث مبهما يهتز الصفاء القمري للأفكار.
ما تسلبني إياه الحياة وما تهبني لا يعنيني ولا يبكيني. بالمقابل لطالما أبكتني بضع صفحات من النثر. أتذكر كما لو كنت أرى ذلك بعيني الآن في تلك الليلة، طفلاً كنت ما أزال حينما قرأت للمرة الأولى، في إحدى المختارات ما أورده Vieiraبخصوص الملك سليمان:
«صنع سليمان قصرا". وواصلت القراءة حتى النهاية، مرتعشاً متحيراً كيما أنخرط في بكاء سعيد مديد، لم ولن يكون بمقدور أي سعادة واقعية أن توفره لي، ولا أي حزن من أحزان الحياة أن يدفعني الى تقليده.
تلك الحركة الكهنوتية للغتنا الواضحة المهيبة، ذلك التعبير عن الأفكار في الكمات اللامناص منها. ذلك الجريان المائي بفعل انحدار المجرى، ذلك الانخطاف الصوتي حيث الأصوات ألوان ذهنية وذلك كله كان يسكرني غريزياً كما لو باهتياج سياسي هائل. لذلك بكيت، واليوم، إذ أتذكر، أبكي، لا حنينا سر- لا - إلى الطفولة التي ليس لدي أي حنين اليها: بل هو الحنين العاطفي الى تلك اللحظة، والحزن المتولد عن العجز عن قراءة ذلك التأكيد السيمفوني.
لا أملك أي نوع من المشاعر السياسية أو الاجتماعية إلا أنني أملك،. بمعنى من المعاني، شعوراً وطنياً عالياً جداً.، أما وطني فهو اللغة البرتغالية. ولن يحزنني بأن تجتاح البرتغال أو تحتل طالما لم يصبني الأذى شخصياً. لكنني أشعر بكراهية حقيقية، هي الكراهية الوحيدة التي أستشعرها، إزاء، لا من يكتب البرتغالية سيئاً، ولا من يجهل النحو، ولا من يكتب وفق قواعد إملائية مبسطة. وانما نحو الصفحة المكتوبة بشكل سيئ، كما لو كان شعوراً بالكراهية نحو شخص بعينه. أكره النحو المستعمل مغلوطاً كراهيتي لأشخاص يتوجب صفعهم، أكره الاستعمال اللامضبوط لقواعد الاملاء، كما لو أن الأمر يتعلق ببصقة مباشرة.
أجل، ذلك أن قواعد الاملاء هي كائنات بشرية بدورها، الكلمة كائن كامل مرئية ومسموعة.
نهاية الجزء الثاني
إعداد : ألف /
يتبع ...
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |