صورة الاستبداد والقمع في الرواية العربية صبوات ياسين نموذجاً
2008-02-13
حين أذكر طفولتي، أو فتوتي المبكرة أذكر أن الكتاب غير الديني الوحيد الموجود في بيت جدتي كان سيرة الملك الظاهر بيبرس والذي قرأته لنفسي، وقرأته لجدتي وصديقاتها مرات أسعدهن بحكاية ذلك السلطان العظيم الذي نشر الإسلام في أربعة أركان الأرض وانتصر على الصليبيين، وعلى مؤامرات داهيتهم الأكبر جوان الخوان وتلميذه البرتقش، وانتصر على التتار وخاقانهم اللئيم في حروب بطولية لا تنتهي .
أذكر تلك المغامرات بما فيها من بطولات خارقة ساعد بيبرس فيها الجانُ، والإنسُ، والملائكةُ، والأجيال السابقة كلها حين كانوا يرصدون ثرواتهم المخبوءة والمكنوزة والمرصودة على اسمه فلن تنفتح إلا لذكر اسمه ونسبه وسلالته الملوكية الموعودة، لم ترصد الأجيال السابقة ثرواتهم وكنوزهم فقط للموعود الإلهي بالملك والسلطنة والنصر، بل وأسلحتهم التي صنعوها إما من أحجار صواعق سقطت من السماء، أو من الفولاذ الثمين المرصود الذي لا يستطيع رفعه أو حمله،أو التعامل معه إلا الموعود والمرصود له إنه السلطان العظيم ناصر الإسلام والمسلمين، ولم تكن الثروات والأسلحة ما رصدها الماضون لهذا السلطان فقط، بل والأجهزة السحرية القادرة على اختراق قوانين الطبيعة، المكان، والزمان، والماضي والمستقبل.
ومع كل هذه الأسلحة والمرصودات جاء جمال الدين شيحة، رجل الاستخبارات العظيم القادر على التنكر بكل الأزياء، وعلى التكلم بكل اللغات، والقادر على الوجود في كل الأمكنة، والقادر على النصر على كل الخصوم، أبطالاً من قادة قلاع الإسماعيلية والذين سيقرون له بالطاعة وسيحملون رنكه، أو شعاره إقراراً منهم بالتبعية له، أو من الأعداء الصليبيين، وجمال الدين شيحة لم يكن فرداً، بل كان جهازاً ممتداً إلى كل المعمورة المعروفة في ذلك الحين، تجد أتباعه ينتظرونه ليقدموا الولاء والخدمات، فيخلص أسرى المسلمين، ويحرر القلاع من الفرنجة المعتدين، أو من الفداوية الإسماعيليين المتمردين.
كانت سيرة الملك الظاهر هذه التي قدمت بعض الملاحظات عنها كتاب الطاولة لمعظم بيوت مصر والشام للقرون الثمانية السابقة، وكانت كتاب كل حكواتي يقرأ منها كل مساء في ليالي المقاهي حين لم يكن لأولئك الرجال المحبطين العاجزين المحاصرين بالغزوات والتهديد بالفناء بين يوم وآخر، من الصليبيين، ومن التتار الوثنيين، ومن التتار المسلمين ومن المماليك ورجالهم في دولتهم التي امتدت لما يقارب القرنين ومن المماليك والدالاتية والانكشارية، والقباقولية، والـ.. .. أعوذ بالله كم أفرز العصر العثماني والمملوكي من أسماء لعصابات منظمة صنعت الرعب، وصنعت الحس بالضياع، واليأس من القدرة على فعل شيء أمام قوى الدمار المنظمة تنظيم قوى الطبيعة نفسها.
قرأت هذا الكتاب في فتوتي، ثم أضعته مع تقدمي إلى الشباب وإلى الثقافة الأخرى، ولكن أصداءه كانت ما تزال ترن في ذهني، أصداء بطل قاتل وانتصر، وحرر، أصداء أمل في بطل يعيد أمجاد هذا الرجل الذي انتصر على قوى العدوان من الشرق التتاري، ومن الغرب الفرنجي، وأعاد توحيد الأمة وصنع عالم العدل.
وكان من آثار تأثير هذا الكتاب علي إشارات وجدت في رواياتي الأولى تتحدث عن سيرة الملك الظاهر، أو عن الملك الظاهر، وأشد هذه الإشارات كانت في روايتي فياض حيث كان سماع بعض هذه السيرة من قبل فياض سبباً في تغير عالمه الداخلي وانحيازه السياسي إلى الجانب الآخر، الأهل، ثم توقفت بعد رواية هشام أو الدوران في المكان لزمن عن كتابة الرواية حتى إذا كتبت روايتي الجديدة فخ الأسماء كان السلطان المعني في روايتي وإن لم أسمه بل جعلته مختصراً لكل المماليك هو الملك الظاهر نفسه، وربما كانت كتابتي لهذه الرواية التي تلت قراءة معمقة في التاريخ المملوكي استمرت لزمن طويل هي ما أخرجني إخراجاً حقيقياً من الإيمان بالبطل القادم يحمل النصر، ويحمل العدل، ويعيد توحيد الأمة. أفلست من جيل المعجبين بالوحدة مع مصر، ومع البطل محرر القناة عبد الناصر!!
وكان شفائي النهائي من البطل الفرد المحرر، والموحد، ومقيم دولة العدل في كتابة روايتي ما قبل الأخيرة، والتي سميتها »صبوات ياسين«.
قبل كتابة هذه الرواية كنت قد أعدت قراءة سيرة الملك الظاهر في طبعتها المصرية الجديدة التي طبعتها الهيئة المصرية العامة للكتاب في طبعة من خمسة مجلدات ربما زادت صفحاتها عن الألفين، وكانت هذه السيرة قد اختفت تماماً من السوق السورية لمدة تزيد عن الثلاثين عاماً، فلما قرأتها قرأتها هذه المرة بعقلية المحقق، ثم قرأت مقارناً سيرة الملك الظاهر التي كتبها ابن شداد عز الدين محمد بن علي ابن شداد (تاريخ الملك الظاهر)، وقرأت سيرة محيي الدين عبد الله ابن عبد الظاهر (الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر) وطبعاً كنت قد قرأت معظم كتب التاريخ التي أرّخت للعصر المملوكي، والذي كشفت قراءاتي أنه الأب الشرعي أو غير الشرعي لعصرنا السياسي بحكامه ومحكوميه.
وكان مما لفت نظري بشدة أن هذا الرجل بيبرس لم يكن مهماً على الساحة العسكرية بقدر ما حاولت السير إظهاره فيه، فهو قطعاً ليس بأهمية صلاح الدين، وليس بأهمية نور الدين، طبعاً وليس بأهمية خالد بن الوليد أو طارق بن زياد أو يوسف بن ناشفين، فما الذي أغرى الكتاب بجعله المثل والبطل في سيرهم التي كتبوها عنه، وجعلهم يهملون كل أولئك القادة ممن فاقوه سياسة وعسكرية و.. كانت المفاجأة الكبرى أن هؤلاء الكتاب لم يكتبوا سيرته طوعاً، بل كتبوها تكليفاً من السلطان المنتصر، المستولي على كل ثروات الأمة، وصانع دولة لا سابقة لها هي دولة عبيد اشتروا من أقاصي الأرض، ودربوا ليكونوا الجند، فلما اكتشفوا قوتهم، وضعف دولتهم الحاضنة قرروا الاستيلاء على السلطة لصالحهم.. .. وكانت المفاجأة أن السلطان المملوكي بيبرس حين قرأ سيرة ابن شداد رفضها، فلم تكن مرضية لطموحاته، وحتى حين قرأ أو بالأحرى، فلنقل أنها قُرئت عليه – سيرة ابن عبد الظاهر رفضها أيضاً، و.. .. أخيراً تقدم له كاتب اسمه الديناري، وآخر معروف باسم الدويداري ربما كان المراجع على الكاتب، فاتفق بيبرس معهما كما يبدو على أن يتقدما له بكتاباتهما أولاً بأول فيقرآن عليه ما كتبا، فإن أقره أُقِرَّ وتابعا العمل، وإن نبذه نبذاه، وكتبا غيره.
08-أيار-2021
06-شباط-2021 | |
28-تشرين الثاني-2020 | |
22-آب-2020 | |
15-آب-2020 | |
09-أيار-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |