هل هناك غزو ثقافي مدبر .. / محمد الدعمي*
خاص ألف
2012-09-17
يبدو للمتابع أن المنطلق الأساس لثقافة العصر الذهبي للكولونياليات الأوروبية الزائلة كان يرتكز على الاعتقاد السائد بأن الثقافة العربية، بضمن الثقافات الشرقية عامة، إنما هي ثقافة ضعيفة غير مبنية على أسس تجريبية موضوعية وعلمية.وقد أدى كتاب (ألف ليلة وليلة) دورًا سلبيًا في تأسيس هذه الآراء وترسيخها، بالرغم من شيوع هذا العمل التراثي وبرغم الإعجاب الشديد الذي حظي به في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية منذ نهايات القرن الثامن عشر.لقد ساد الاعتقاد، بسبب طبيعة الصور التي عكسها هذا الكتاب (الليالي العربية، كما يفضلون تسميته) إلى حد كبير، في أن المجتمع العربي إنما هو مجتمع مؤسس على الخيال والخرافة، السحر والشعوذة، مجتمع يمور بسلاطين طغاة وأفراد قدريين من نمط علاء الدين وسندباد والشاطر حسن. لاشك في أن خلاصات الثقافة الغربية حول ثقافة مجتمع من هذا النوع تكون خلاصات تركز على أن العقل العربي هو عقل غيبي، عقل ينزع إلى اللاعلمية وإلى أفكار «النصيب» والتنجيم والقدرية. وبكلمات أخرى، فرضت (الليالي العربية) على الذهنية الغربية تصورًا يصعب استئصاله يفيد بأن الثقافة العربية إنما هي ثقافة لا علمية غير قادرة على العقلنة والتمنطق الجدلي شأنها في ذلك شأن جميع ثقافات الأقوام السامية. وقد عبّر المستشرق الكبير «إرنست رينان» r enan و«الكونت غوبينو» Count Gobineau وغيرهما من أتباع ومروجي «الأسطورة الآرية» عن ذلك بوضوح عبر العديد من مداخلاتهما، واضعين بذلك حجر الأساس للفكر النازي، ربما على نحو غير واع. لقد عكس «غوته» Goethe مكافئًا لهذا الاعتقاد بتعميمه التحجيمي أن «ممتلكات العرب هي الخيمة والعمامة والسيف»، في اختزال مخل للحضارة العربية. وقد اقتبس الكاتب الإنكليزي «جيمس ميو» هذه المقولة التحجيمية على سبيل «خدمة» الثقافة العربية بإضافة «ممتلك» آخر لثالوث غوته أعلاه، وهو «الحكاية». ولا يبتعد أبو الاستشراق الأمريكي «رالف والدو إمرسون» عن هذه الأفكار عندما يعلن أن «الدين والشعر هما كامل حضارة العرب». وإذ يذهب مفكر مثل ميو إلى أن الخرافات والخيال قد حولت أرض العرب إلى «ِجنّستان» (أي أرض الجن)، فإنه لمن المؤسف حقاً أن نلاحظ تواصل هذا الاعتقاد في عصرنا الحالي. لاحظ التصاق كبار المستشرقين المعاصرين بهذه المفاهيم المنمطة، مثل «برنارد لويس» و «هولت»، وهم مستشرقون جامعيون بسطوا سطوتهم الفكرية عبر الأكاديمية وليس الصحافة. وقد آل هذا الاعتقاد الوراثي الراسخ إلى التمادي في التشويه المتعمد للتراث الثقافي العربي والإسلامي عن طريق تسفيه هذا التراث واختلاق المبررات لإهماله وللإقلال من شأنه من قبل الإدارات الاستعمارية الطارئة، ومن ثم من قبل العرب أنفسهم بعد انحسار موجة الاستعمار العسكري المباشر لصالح حركة الاستعمار الاقتصادي الجديد. وبرغم هذا ينبغي الرجوع إلى إرث حركة الاستعمار المباشر، تتبعًا لجدل الهيمنة الثقافية التي أرادت الإمبراطوريات فرضها على العرب. يقول «اللورد ماكولي»، في خطابه الافتتاحي في كلية غلاسكو (21 آذار/مارس 1849م): «لقد تم تأسيس جمعيتكم هذه قبيل اضمحلال إمبراطورية الشرق (يقصد دولة الخلافة العربية) بقليل، تلك الإمبراطورية التي - وهي تديم حياة ضئيلة عبر العصر المظلم - واشجت بين عصري الاستنارة العظيمين... وحافظت - في وسط البربرية - على تلك الأعمال العظمى للعبقرية الأوروبية، تلك الأعمال التي لم تزل موضع تأمل أسمى العقول»، مختزلاً دور الثقافة العربية الإسلامية بعملية المحافظة على الثقافة الأوروبية دون الإضافة الإبداعية عليها، بطريقة تعسفية. وتأخذ عملية الغزو الذي شن على التراث الثقافي الإسلامي أوضح معالمها في خطابات اللورد ماكولي الذي كان موظفًا بالإدارة الإمبراطورية في الهند. ولكن على الرغم من أن أحاديث من هذا النوع تعكس لنا ما كان يدور في خلد الإدارات الإمبراطورية في تناولها للمواضيع الثقافية والتربوية، فإن هذه المرآة تعكس لنا كذلك منطقًا وخطابًا يستخدمهما الإداريون في مخاطبة أبناء الأمم المغلوبة على سبيل هز ثقة هؤلاء بإرثهم الثقافي وتثبيط هممهم واحترامهم لتراثهم. وليس من شك بأن هذه العملية إنما تهدف إلى إزالة التواصل بين الإنسان المغلوب المعاصر وثقافته التي تدعم حلمه الوطني بالتحرر أو بالوحدة، حيث تترافق هذه العملية بتقديم «بديل ثقافي» ليحل محل الثقافة المحلية. وقد تمتد هذه العملية إلى محاولات إلغاء الثقة، ليس بالعلوم المكتوبة باللغة العربية، بل بهذه اللغة نفسها. لهذا يدعو ماكولي إلى تكوين وتنمية نخبة من سكان البلاد المستعمرة، وهي نخبة تتلقى ثقافة غربية لتبرير طرائق التاج البريطاني لسكان المستعمرات، زيادة على تيسيرها الانزلاق نحو ثقافة «الآخر» بتعام.قد يبدو أن هذه الطرائق الفوقية المتعالية في تناول الثقافة المحلية بنظرة دونية كانت تسود آليات العقل الغربي في القرون الماضية فقط بسبب الانتشاء الذي تسبب به عصر الاستعمار، بيد أن تفحص بعض الأدبيات الغربية المعاصرة المتخصصة يؤكد أن هذه الآلية في التفكير، وهي آلية ترنو إلى نسف الثقافة المحلية للأمم المستضعفة وإلى إلغاء دورها في تنمية وتطوير هوية ثقافية قومية ترتكن إلى إرث ثقافي يستحق، لم تزل فاعلة حتى يومنا هذا. إنها آلية قابعة في قعر العقل الغربي، تظهر للعيان في حالات معينة وفي مناسبات جدلية استفزازية. إننا إذا ما تمكنا من استنباط مثل هذه الأفكار في الثقافة الغربية المعاصرة، نكون قد نجحنا في التيقن من افتراضاتنا أولاً، ومن استمرارية طرائق التفكير الاستعماري المتعالي نحو ثقافتنا ثانيًا، باعتبارها طرائقتفكير نجحت في اجتياز اختبار الزمن.يقدم الأستاذ برنارد لويس (جامعة برنستون - الولايات المتحدة الأمريكية) في كتابه المهم (التاريخ: مستذكرًا، مستعادًا، مخترعًا)، البينة والتبرير المعاصر على تواصل أنماط التفكير الغربي الاستعلائي في تناول الثقافات الشرقية، والثقافة العربية بضمنها بطبيعة الحال. إنه لا يكتفي بمحاولة تسفيه التراث والتاريخ المحلي للأمم المغلوبة في آسيا وإفريقيا فحسب، بل أنه يتمادى إلى حد الادعاء بأن هذه الأمم لا تمتلك ثقافات قومية ذات ملامح وأصول راكزة تؤهلها لامتلاك هوية قومية. تبدأ منظومة لويس الجدلية من الإعلان بأن الإغريق القدماء هم الذين قسموا العالم إلى أوروبا من ناحية، وآسيا وإفريقيا من الناحية المقابلة (جدل : شرق - غرب). أي أن الإغريق القدماء (الأوربيين، الآريين) هم الذين أطلقوا على الأمم الشرقية الأسماء التي تُعرف بها الآن. وحيث يقود هذا الرأي لويس إلى الاعتقاد بأن هذه التسميات (أو الهبات الأوروبية) تدل على عدم امتلاك الأمم الآسيوية والإفريقية لأي وعي بوجودها أو تفردها، فإنه يذهب إلى الاعتقاد بأن هذه الأصقاع (المسماة آسيا وإفريقيا) لا تمتلك هويات ثقافية محددة كما هي عليه الحال بالنسبة إلى الثقافة الأوروبية. يقول لويس: «من بين القارات الثلاث، أوروبا فقط مثلت نوعًا من كيان تاريخي. وهو كيان ذو ثقافة مشتركة مستقاة من جذور إغريقية-رومانية ويهودية- نصرانية؛ وهو كيان ذو شعور مشترك بهوية متفردة تختلف عن بقية العالم». يستأنف برنارد لويس جدله هذا موحيًا بأن أوروبا، ذات الهوية الثقافية الحقيقية، هي الكيان الصغير الذي يمتلك عقلاً، وأن آسيا وإفريقيا هما الكيانان الكبيران جغرافيًا واللذان لا يمتلكان ثقافة تخصهما. لذا فإنه يكتب، متعسفًا بالحقيقة التاريخية، قائلاً: «في القارات الشاسعة التي أطلق الأوروبيون عليها اسمي آسيا وإفريقيا، لم ولن يظهر إحساس بالهوية، إحساس يمكن مقارنته بالإحساس الأوروبي بالهوية». وتأسيسًا على هذا الجدل المنبعث من أن الآسيويين والأفارقة اكتسبوا هذه التسميات كهبة من الأوروبيين، وهو الجدل الذي يؤول إلى أن هؤلاء لا يمتلكون جذورًا ثقافية محددة، فإن الطريق تصبح سالكة لتبرير وتمرير الغزو الثقافي الذي تفرضه الثقافة الغربية بجميع إفرازاتها العلمية والتقنية والاجتماعية والاقتصادية. لاحظ أن لويس يخلص إلى أنه«في العصر الحديث فقط، تمكن التأثير الأوروبي وتمكنت القوة الأوروبية، وأخيرًا البحث العلمي الأوربي من إقناع سكان آسيا وإفريقيا بأنهم آسيويون، وإفريقيون، وبأن هذه حقيقة تنطوي على دلالات سياسية وتاريخية».تفضي هذه المقاربة بين بعض افتراضات الثقافة العربية المعاصرة التي نستظل بها من ناحية، وأفكار بعض المثقفين الغربيين بعد عصر الاستعمار من الناحية الثانية، إلى وجود «غزو ثقافي» محسوس ومشخص من ناحية ثقافتنا، وهو غزو نصف مدبر ونصف تلقائي من ناحية ثقافتهم التي تحيا اليوم أوج تأثيرها بسبب التقدم التقني والمادي الذي أحرزته الأقطار الغربية خلال القرون الأخيرة. ولكن لا ينبغي التمادي في كيل الاتهامات جزافًا إلى الثقافة الغربية، ذلك أني أميل إلى الاعتقاد بأن تدبير الغزو الثقافي وتخطيطه هما حقيقة موجودة، ولكنها، من ناحية أخرى، ليست بهذه الدرجة من «التآمرية» التي قد يصورها لنا بعض الكتّاب الانفعاليين هنا. إن الغزو الثقافي الغربي اليوم يشبه إلى حد بعيد «الحركة الشعوبية» التي برزت بقوة إبان العصر الذهبي للحضارة العربية- الإسلامية. ولكن الشعوبية، برغم أساليبها ومثالبها وضغائنها، لم تتمكن من تسفيه ونسف أسس الثقافة العربية ومقومات تواصلها نتيجة لقوة هذه العناصر ولقدراتها التوليدية. ويحق ذات القول على الغزو الثقافي اليوم، إذ إن الثقافة العربية الإسلامية تمتلك من عناصر القوة ما يجعلها قادرة على البقاء، وعلى مواجهة الأزمات والهجمات. إن مسببات تشجيع الغزو الثقافي من قبل الغرب تركز بقوة على الأساليب الاستهلاكية والأنماط السلوكية التي يضخها الغرب سوية مع صادراته المادية الرئيسة. كما أنها تنطلق كذلك من عوامل الضعف في طرائق العناية بتراثنا الفكري، إضافة إلى إهمال الأساليب التربوية في توعية الشبيبة والنشئ العربي بالجوانب المشرقة لثقافتنا على سبيل استلال الموجب منها بدلاً من السالب، والمستنير بدلاً من المستكين. إن الشباب العربي والمسلم هو أكبر شرائح المجتمع تعرضًا لمعطيات الغزو الثقافي، مدبرًا كان أو تلقائيًا، وهذه نتيجة طبيعية لميل هذه الشريحة المهمة والكبيرة إلى الجديد والمبهرج، وهي صفات صحية لدى الشباب المتطلع والمتوثب، ولكنها بحاجة إلى توجيه وعناية حكيمة ورشيدة ومركزية. ولا ريب في أن هذه العناية لا ينبغي أن تأخذ شكل الوصاية على الشباب والنشئ، لأن الوصاية والقسر قد يؤديان إلى التمرد. ينبغي لمؤسساتنا الثقافية والتربوية ألا تشعر الشبيبة بالضغط وبخنق الحرية في الاطلاع والانتقاء. كما ينبغي عليها كذلك ألا تتمادى كثيرًا في «فتح الأبواب» بلا ضوابط وبلا تنقية للنتاج الثقافي الغربي من الشوائب، إن بناء الشخصية الثقافية العربية المعاصرة يتطلب الكثير من الحماية وتقوية الإرادة القومية والروحية، وإلى الكثير من ترصين المناعة الأخلاقية والحصانة الفكرية والسلوكية لدى الشباب. هذه ضمانات تجعل الشبيبة قادرة على مواجهة الدخيل المستورد بعقل مفتوح ولكن غير راضخ وغير سلبي، وهي عوامل مهمة واسعة تتطلب العناية بمناهج التربية والتعليم والمعارف عبر العالم العربي في المراحل الدراسية المختلفة، كما تتطلب هذه المهمة الحساسة الاهتمام برصد قنوات الضخ الثقافي الغربي عبر وطننا العربي الكبير.
من كتاب : موسوعة الرد على المذاهب الفكرية المعاصرة.
إعداد : ألف *
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |