Alef Logo
أدب عالمي وعربي
              

من كتاب ( اللاطمأنينة ) " فرناندو بيسوا " ت: المهدي أخريف * ج 3

ألف

خاص ألف

2012-09-25

أمير المنفى الأكبر
على الرغم من انتمائي، روحيا الى سلالة الرومانطيقيين أكثر من غيرهم فإنني لا أجد راحتي سوى في قراءة الكلاسيكيين، تقشفهم (لنقل تكثيفهم) ذاته الذي من خلاله يتجسد وضوحهم، يمنحني العزاء في فقداني لما لست أدري، لديهم أجد احساسا بهيجا بحياة واسعة مفتوحة، يستوعب فضاءات شاسعة بدون أن يجوبها، لديهم أحس الآلهة الوثنيين أنفسهم يستريحون من السر. إن التحليل أشد ادهاشاً للإحساسات - أحياناً للإحساسات التي نفترض تملكنا لها - وتوافق القلب مع المشهد الطبيعي، الانكشاف التشريحي للأعصاب كلها، استخدام الرغبة بمثابة إرادة والطموح كتفكير، كل تلك الأشياء تصبح مفرطة في قرابتها الي، عاجزة عن إتياني بالجديد، أو إمدادي بالطمأنينة. دائما عندما أحسها، أتمنى بالضبط لكوني أحسها، الاحساس بشيء آخر، وعندما أقرأ أحد الكلاسيكيين يصبح ذلك الشيء الآخر في متناولي.
أعترف صراحة ودونما خجل بأن لا وجود لفقرة لدى شاتوبريان أو أنشودة للامارتين - هناك مقاطع تبدو أحيانا كما لو كانت صوتاً تفكيرياً وأغنيات تبدو أحيانا كثيرة أيضا كأنها قيلت لأجلي - يمكن أن تخلب لبي وتسمو بي على نحو ما يفعل مقطع من نثر Vieiraأو هذا النشيد أو ذاك لبعض كلاسيكيينا القلائل ممن ساروا على نهج هوراس بالفعل.
متحرراً أقرأ. ناشدا الموضوعية التامة، لقد تخليت عن أن أكون أنانيا. تبددت، وبدلا من أن يكون ما أقرؤه بدلتي الخاصة التي بالكاد أراها رازحاً تحت ثقلها أحياناً، يصبح بمثابة الانجلاء الأكبر للعالم الخارجي، الشمس المحدقة في الجميع، القمر الذي يخضب الأرض الساكنة بالظلال، الفضاءات الواسعة التي تنتهي في البحر، الصلابة السوداء للأشجار خالقة العلامات الخضراء في الذري، السكينة الصلبة لبرك الضيعات الطرق المغطاة بالكروم في منحدرات الأعالي.
أقرأ مثل من يمر عابرا، ومع الكلاسيكيين المتزنين الذين إذا تألموا لم يصرحوا، أشعر بأنني عابر سبيل مقدس، مغترب مكرم (11). متأمل بدون دافع ولا غاية. أمير المنفى الأكبر، الذي منح لحظة الرحيل، آخر المتسولين الصدقة المتطرفة لكابته.
* كتابي المفضل
أمقت القراءة، أشعر بضجر مسبق من الصفحات المجهولة. لا أستطيع أن أقرأ إلا ما أعرف. الكتاب الذي يحتل الصدارة عندي هو بلاغة الأب فيجيريدو (12) الذي أقرأه آلاف المرات كل ليل. مفتتناً بالوصف، بالأسلوب المتقن لراهب برتغالي،الصور البلاغية المقروءة بأسمائها آلاف المرات والتي لم أستوعبها بعد. ثم المعجم الذي يهدهدني (...) وهناك الكلمات المضبوطة المكتوبة بـ Cالتي اذا افتقدتها أنام على قلق.
إنني مدين لكتاب الأب فيجيريدو وبمبالغاته الصفائية بالارتياب النسبي ألذي أستشعره - بكل ما أستطيع من شعور - وأنا أكتب اللغة التي أنتمي اليها بالخاصية التي (13)..
وأقرأ: (مقطعاً من الأب فيجيريدو) ( 14)
فيمنحني ما يكفي من المواساة لمواصلة العيش.
أو: ( فقرة حول الصور)
تعود إلى الاستهلال .. شاعراً بهذا كله بدون أي مبالغة
وكما أن آخرين بإمكانهم قراءة فقرات من الكتاب المقدس. كذلك أنا أفضل قراءة فقرات من البلاغة. لدي امتياز الفراغ والافتقار إلى الورع.
* متعة القراءة
لا أعرف متعة تعادل متعة قراءة الكتب - وأقرأ القليل - الكتب هي تمثيلات للأحلام. ومن يدخل في حديث معها ليس بحاجة - مع سهولة العيش –إلى تمثيلات. لم أتمكن قط من قراءة أي كتاب باستسلامي كلية له: دائماً مع كل خطوة، يأتي التعليق من الذكاء أو الخيال على المقروء ليوقف تسلسل السرد. بعد دقائق أصبح أنا كاتب الكتاب. وما هو مكتوب فيه لا يغدو موجوداً في أي كتاب.
قراءاتي المفضلة هي معاودة الكتب المبتذلة التي تنام معي جنب وسادتي. ثمة كتابان لا يفارقانني البتة هما: بلاغة الأب فيجيريدو وتأملات حول اللغة البرتغالية للأب فويري (15). لقد كنت وما أزال أعاود قراءتهما باستمرار وإن كنت لم أقرأ أيا منهما قراءة متصلة. وإنني لمدين لهذين الكتابين بنظام أكاد أخاله متعذراً بالنسبة إلي. إلا هو نظام الكتابة بموضوعية نظام (أو بالأحرى قانون) أن الأشياء قد وجدت مكتوبة أصلاً.
أسلوب الأب فيجيريدو المتصنع الديري. المنظم هو الذي خلق متعة فهمي الخاصة. أما سيولة كتابة الأب فويري Freireالخالية من أي اتساق تقريباً فإنها ترجف روحي بلا كلل. وتربيني بدون أن تجشمني أي مشاغل من أي نوع. وكلا النمطين لا يشترط ولا يتطلب مني أي قابلية لأكون على غرار صاحبيهما ولا لأكون مثل أي شخصية أخر..
أقرأ وأتخيل، لا عن القراءة، ولكن عن ذاتي نفسها. أقرأ ثم أتنوم، متابعاً كما لو في قلب الأحلام، صور الأب فيجيريدو البلاغية. وفي غابات مسحورة أسمع الأب فويري يعلمنا أن الصواب هو أن نتلفظ بـ MADDALENAوليسMADALENAالتي يتلفظ بها العوام وحدهم.
* ملك روما
فكرت اليوم، أثناء لحظة إحساس معينة، في شكل النثر الذي أستعمله. حقاً، لابد من التساؤل كيف أكتب ؟ لقد كانت لدي، مثل الجميع تلك الرغبة المفسدة في امتلاك نظام وقاعدة بهذا الشأن. أكيد أنني مارست الكتابة قبل امتلاك أي قاعدة أو نظام وأنا لا اختلف بهذا عن الآخرين. وقد اكتشفت بتحليل ذاتي قمت به هذا المساء، أن نظام الأسلوب عندي يرتكز على أساسين ينبنيان بدورهما حسب الطريقة المثلى للكلاسيكيين الجيدين على الأسس العامة لكل أسلوب وهما: أن أعبّر عما أحس تماماً وفق ما أحس - بوضوح إن كان ما أحسه واضحاً. وبغموض إن كان غامضاً، وملتبساً إن كان ما أحسّه ملتبساً بالفعل - أن أدرك أن قواعد النحو هي أداة وحسب وليست قانوناً.
لنفترض أنني أشاهد أمامكم فتاة ذات سلوك ذكوري. إذن هناك شخص عامي سيقول عنها: "البنت تبدو ولدا" ثم شخص آخر سيقول، إنما بصيغة أقرب إلى الوعي بأن الكلام هو التعبير: "هذه البنت ولد" شخص ثالث واع هو الآخر بمتطلبات التعبير، لكنه مدفوع بنزوة الاقتضاب الذي هو التجسيد الحي لشبقية الفكر، سيقول عنها "ذلك الولد". أما أنا فسأقول على الفور "تلك الولد"، منتهكاً أكثر القواعد النحوية أساسية وهي الملزمة بتوافر تطابق في الجنس واحدد بين النعت والمنعوت.
وسأقول حسناً. أنا استخدمت الألفاظ مطلقة. على نحو فوتوغرافي، خارج المألوف، خارج القاعدة وخارج ما هو مبتذل، وبذلك فأنا لم أتكلم وإنما عبّرت.
إذا فحصنا الاستعمالات اللغوية، نجد النحو يضع تقسيمات مشروعة وزائفة. فهو مثلاً يقسم الأفعال إلى لازمة ومتعدية. لكن الانسان الذي يجيد التعبير عما يحس ينبغي عليه أحياناً كثيرة أن يحول فعلاً متعدياًإلى لازم حتى يصور بالضبط ما يحسه. لو أردت مثلاً أن أقول "أنا موجود" existoلقلت “Soy”(16) لو شئت أن أقول بأنني أوجد كروح منفصلة سأقول: “Soy yo”. لكن إذا أردت أن أقول بأنني موجود كذات متشكلة بذاتها وتمارس إزاء ذاتها الوظيفة الالاهية لخلق ذاتها crearse). ) فكيف ينبغي أن أستعمل الفعل ser) ) (الدال على التينونة) إن لم أحوله من اللزوم إلى التعددية ؟ وحينئذ وبصرت عال، وضد النحو وبإحساس الظافر، سأقول Me soy" " وبذلك أكون قد عبرت عن فلسفة بكاملها في لفظتين صغيرتين. أو يمكن أن نطلب أكثر من هذا من الفلسفة والتعبير معاً؟.
من لا يعرف كيف يفكر ما يحس هو الذي يخضع للنحو. أما الذي يخدمه بالفعل فهو من يعرف التحكم في استعمالا ته التعبيرية. يحكي عن سيجموند ملك روما. أنه أجاب بعض من نبهه إلى خطأ نحوي ارتكبه أثناء إلقائه لإحدى خطبه: "أنا ملك روما، وملك النحو علاوة على ذلك ". والتاريخ يروي أنه عرف خلال حكمه باعتباره سيجموند "السوبر نحوي". رمز عجيب بلا شك ! كل من يعرف قول ما يقول هو ملك روما بطريقته الخاصة.
* أنا المتعدد
منذ أن توقفت الأمطار الأخيرة عن النزول ومكثت في الأرض - سماء نقية أرض رطبة لامعة - عاد صفاء الحياة الأكبر، مثلما عادت الزرقة إلى اكتساح الفضاء الأعلى، فسرت مع طراوة المياه النشوة في الأسفل تاركة سماء نقية في الأرواح وطراوة خالصة في القلوب.
نحن عبيد للزمن - مع عدم رغبتنا في ذلك - ولألوانه وأشكاله، رعاياً للسماء وللأرض نحن. ومن يتقوقع في ذاته منا، مزدرياً ما يحيط به، يكون وضعه النفسي مختلفاً عندما تمطر السماء عن وضعه حينما تكور صافية. إنها تحولات غامضة تجري ربما داخل الاحساسات المجردة الأكثر حميمية وهي تتولد، إما بسبب هطول المطر أو بسبب انقطاع هطوله. وهي تحس بغير أن تحس لأن الاحساس بالزمن يعاش بدون أن يحس.
كل واحد منا متعدد في ذاته، كل واحد عبارة عن أشخاص عديدين أو تمديد لهم، لذلك فإن من يحتقر المجتمع الذي يعيش فيه ليس هو نفسه بالذات من يبتهج أو يتألم من أجل نفس المجتمع،. في المستوطنة الشاسعة لكينونتنا يوجد أناس متنوعو الاجناس، يشعرون ويفكرون بطريقة مختلفة في هذه اللحظة بالذات وأنا أكتب، في فاصل الاستراحة المشروع لهذا اليوم الخالي إلا قليلاً من الاشغال، أنا من يكتب يتيقظ هذه الكلمات الانطباعية القليلة. أنا هو المبتهج بانعدام ما يدعو إلى الشغل في هذه اللحظة. أنا من ينظر إلى السماء الموجودة في الخارج هناك، والمتعذر رؤيتها من هنا. أنا من يفكر في هذا كلا، أنا من يحس بالجسد الفرحان وباليدين الباردتين برودة غامضة، وكل عالمي الخاص المكون من أشخاص مختلفين متزاحمين فيما بينهم، مثل جمهور متنوع، لكن متراص، هو ظل فريد لهذا لجسد الهادئ والكاتب الذي به انحني واقفاً أمام مكتب بورخيس العالي الذي أتيته باحثاً عن نشافتي المعارة.

نهاية الجزء الثالث
إعداد : ألف *
يتبع ...

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

نقد كتاب إشكالية تطور مفهوم التعاون الدولي

31-كانون الأول-2021

نيوتون/جانيت ونترسون ترجمة:

22-أيار-2021

الـمُـغـفّـلــة – أنطون بافلوفتش تشيخوف‎

15-أيار-2021

قراءة نقدية في أشعار محمد الماغوط / صلاح فضل

15-أيار-2021

ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين

01-أيار-2021

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow